«لوجه ما لا يلزم»... بيان عن خطورة الخضوع لعبودية «السوق»

نوتشيو أوردينه بالعربية بعد ترجمته إلى خمس عشرة لغة

نوتشيو أوردينه
نوتشيو أوردينه
TT

«لوجه ما لا يلزم»... بيان عن خطورة الخضوع لعبودية «السوق»

نوتشيو أوردينه
نوتشيو أوردينه

في كتابه الشيق والقيّم «لوجه ما لا يلزم» الذي ترجمته «دار الجديد» في بيروت، إلى العربية، يبحث أستاذ الفلسفة والأدب الإيطالي في جامعة كالابريا، نوتشيو أوردينه، في موضوع شديد الأهمية، ومع ذلك نادراً يتم التركيز عليه. فهو يلفت النظر إلى خطورة اعتبار العلوم الإنسانية والمعارف النظرية، لا لزوم لها ولا جدوى منها، لا لشيء إلا لأنها لا تجلب منفعة سريعة ومباشرة وملموسة، كما أنها لا تدرّ المال الذي بات غاية ومشتهى. وفي الكتاب المكون من 230 صفحة، وتمت ترجمته إلى خمس عشرة لغة، يطالعنا أوردينه بمقولات وآراء لمفكرين وفلاسفة حديثين وقدماء، تصب آراؤهم كلها في ضرورة تقدير الأشياء لذاتها، والأمور لجوهرها، لا فيما ينتج عنها من نفع محسوس وربح ملموس. وكان جان جاك روسو كتب منذ القرن الثامن عشر: «كانت الأخلاق والفضائل حديث الساسة القدامى، أما أهل زماننا فليس على ألسنتهم سوى حديث التجارة والمال».
ويدور الكتاب على مدارات ثلاثة: مدار أول حول جدوى الأدب، وثانٍ عن مضار سيادة المنطق النفعي على التعليم والبحث العلمي، وثالث عما قاله كبار الكتاب في «تسفيه هاجسي الحيازة والتملك». وملحق بنهاية الكتاب بحث يصفه أوردينه بـ«الفذ» يحمل عنوان «في لزوم المعارف التي لا لزوم لها وهو لمصلح القطاع التربوي في كل من أميركا وكندا «أبراهام فلكسنر».
يتحدث أوردينه عن «الكائن الاقتصادي» أو الـ«هومو إيكونوميكس» وعن السلع النافلة الكثيرة التي تباع بوصفها من الضروريات. وعن «أن المال بات من الممكن أن يشتري لصاحبه مقعداً في المجلس النيابي أو في مجلس من مجالس القضاء... غير أنه ليس للمال أن يشتري لصاحبه العلم والمعرفة!... فلا إحراز للعلم والمعرفة إلا من طريق بذل الجهد. ولا بذل لجهد إلا شوقاً إلى أمر أو توقاً مشبوباً إليه». والكلام ليس فقط عن جدوى الأدب والمعرفة، بل عن أنهما صنو الحياة نفسها، حيث إن «الشعر والخيال والإبداع أشكال من التنفس الذي لا حياة من دونه» بحسب ما ينقل عن يوجين يونيسكو. فحاجتنا إلى هذه الأمور كحاجتنا للهواء. ويذهب إلى أننا «إذا ألقينا السمع إلى نداء الربح والكسب دون أي نداء آخر، فذلك يعني الحكم على الأجيال الطالعة أن تكون أجيالاً من دون ذاكرة، لا تفقه للحياة ولوجودها في هذا العالم من معنى. عندئذ لا دهش أن يجد الإنسان نفسه مستقيلاً من المسؤولية التي وجد لكي يحملها: وهي مسؤولية أن يسير بإنسانيته إلى مزيد من الإنسانية».
يحذر الكاتب على مدى صفحات طوال من مغبة الإزراء بالعلوم الإنسانية في المناهج الدراسية، وفي الميزانيات الحكومية كما يحدث الآن، وكذلك في مؤسسات البحث العلمي. نمر في الكتاب على استشهادات كثيرة جداً، لأدباء وفلاسفة أفذاذ لملمها أوردينه من نصوص كالفينو، دانتي، بترارك، غابريل غارسيا ماركيز، كانط، أوفيد، غرامشي، ريلكه، جوليان غراك، سقراط، لوركا، ديكنز، هيدغر، وغيرهم كثر. وهو لا يكتفي بالذهاب جيئة وذهاباً في الزمن، ونبشاً في نصوص الأدب الغربي ونصوص كباره، بل يصل إلى أقصى الشرق، عائداً إلى ما قبل المسيح في أقوال الحكيم الصيني جوان غزي ثم يعود إلى بداية القرن العشرين والكاتب الياباني أوكاكورا كاكوزو الذي يقول في «كتاب الشاي»: «يوم أهدى الإنسان الأول لصاحبته أول باقة من الأزهار، يومها غادر بدائيته، وارتفع عن حاجاته البهيمية، ودخل تحت حد الأنسنة، وذلك بأن تلمّس ذلك الإنسان، يومذاك، فحوى النافل فدخل ملكوت الفن». لكنك تقرأ ربما أجمل من ذلك، حين يستشهد بنص طويل ليوجين يونسكو يتضمن العبارات التالية: «إن بلداً لا يعرف فيه الفن ويكرم، هو حتماً بلد أهلوه من العبيد ومن الكائنات المسيرة، هو بلد أهلوه تعساء لا يبتسمون ولا يضحكون... بلد بلا روح يسود فيه وعليه الحنق والحقد».
يتطرق الكتاب خلال حديثه عما نعتبره جزافاً بلا جدوى، إلى قضايا كثيرة، منها الاستهتار بالآثار، والسكوت على تدميرها في بعض الأحيان، تسليع التعليم وتحول الجامعات إلى مشاريع استثمارية هدفها الأول الربح، حتى صار أساتذة في جامعات كبيرة جلّ همهم إرضاء الطالب حتى ولو لم يكن مخلصاً في طلبه المعرفة. يتساءل الكتاب أيضاً عن الشح في تمويل الأبحاث العلمية، وإخضاعها لمنطق السوق والربح السريع. يطرح قضية الإلغاء التدريجي لتعلم اللغات القديمة في الجامعات الغربية. ويعود إلى نص كتبه أنطونيو غرامشي في السجن عام 1932 دفاعاً عن تعلم اليونانية واللاتينية: «لم نتعلم اللاتينية واليونانية لحديث بهما أو طمعاً بوظيفة. كنا نتعلمهما لنتعرف مباشرة بحضارة ذينك الشعبين المؤسسين، افتراضياً، للحضارة الحديثة. كنا نتعلمهما لكي نكون من نحن، ولكي نعي أكثر من نحن». سيكون بنتيجة هذا التوجه الذي يزداد حدة، «أن ينتهي الأمر بتقاعد آخر جيل للمتخصصين في هذا المجال، وإقفال عدد من المكتبات والمتاحف، ووقف بعض برامج التنقيب، وإهمال تحقيق المخطوطات والوثائق بهذه اللغات». هو ما سيؤدي إلى محو جزء مهم من الذاكرة الجمعية.
من المخاطر التي يتحدث عنها الكتاب نتيجة إعلاء قيمة الربح المالي على أي قيمة أخرى، التخلي عن مكتبات كانت فخراً لبلدانها وتركها نهباً للضياع، ويعطي مثلاً مكتبة «معهد واربورغ» اللندني وسط العاصمة، التي تعد من أكبر المكتبات في العالم، وتخضع اليوم لتغيرات جذرية، لأسباب مالية بحتة تجعلها في خطر شديد. ومثال آخر مكتبة «المعهد الإيطالي للدراسات الفلسفية» في نابولي التي تم وضع محتوياتها (300 ألف كتاب) في حاويات وصناديق وخزّنت في مستودع في المدينة. وينهي أوردينه كتابه بالقول إن كلماته التي سطرها في هذا الكتاب والاستشهادات التي جمعها هي برسم الأجيال الحالية والمقبلة، «فالنزوع إلى طلب المعرفة المتحرر من أي موجب نفعي أو عملي، هو المعول عليه لترفرف بالبشرية أجنحتها صوب مزيد من الحرية والتسامح... بل صوب مزيد من الإنسانية». والحرية في الكتاب لها مداها وأهميتها إذ لا إبداع ولا سعادة من دونها.
أما النص الملحق بآخر الكتاب لأبراهام فلكسنر، ويحمل عنوان «في لزوم المعارف التي لا لزوم لها» ويأتي في 40 صفحة، فهو استكمال لما جاء لفكرة أوردينه نفسها، وتعزيز لمقولة أن النفعية المباشرة هي واحدة من أكثر الأهداف عقماً، حيث يسوق فلكسنر أمثلة على ذلك. ويعتبر أن أهم المكتشفات لم تكن لتبصر النور لولا سلسلة من المكتشفات التي سبقتها والتي أتت بمعظمها بفضل شغف أشخاص، فضوليين لم يكن يعنيهم المال، ولم تكن غايتهم الاكتشاف الذي وصلوا إليه، وإنما متعة المعرفة بكل ما تحمله من سعادة. فهذا ما حدث قبل اختراع مذياع ماركوني، وهذا ما حدث قبل أن تعرف البشرية الاختراع الأكبر الذي غير وجه الأرض ألا وهو الكهرباء. وأينشتاين نفسه لم يكن مشغولاً في الأصل بنظرية النسبية، وإنما بعدد من المسائل الأخرى الهامشية، من مثل ما يلحق ببعض الغازات لدى تعريضها لدرجة حرارة متدنية، وهي أبحاث لم تكن تشغل غير صاحبها، ولم يكن من جدوى عملي منها، لكنها أفضت بالصدفة إلى تلك المعادلة الفذة التي شغلت العالم. الكتاب أشبه ببحث فلسفي ممتع عن جدوى ما نعتقد أن لا جدوى منه، وهي واحدة من معضلات الحياة المعاصرة حيث تحدد قيمة كل شيء بمقابله المادي، فيما كل الاستشهادات التي نقرأها في الكتاب تظهر أن القيمة الحقيقية هي في النتائج التي تختمر بالتدريج، وقليلاً ما يلحظها أو يدركها المتسرعون أو الماديون. ومن هنا تأتي دعوة فلكسنر لأن «ننفي من قاموسنا كلمة جدوى، وندع للفكر وللخيال البشريين أن يحلقا على سجيتهما».


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.