اليمن... إرهاب ثلاثي بغطاء إيراني

«الحوثي» و«داعش» و«القاعدة»... تضاد عقائدي ووحدة لوجيستية

قوات الشرعية اليمنية تعاين موقع تفجير سيارة مفخخة في مدينة عدن أعلن «داعش» مسؤوليته عنه (أ.ف.ب)
قوات الشرعية اليمنية تعاين موقع تفجير سيارة مفخخة في مدينة عدن أعلن «داعش» مسؤوليته عنه (أ.ف.ب)
TT

اليمن... إرهاب ثلاثي بغطاء إيراني

قوات الشرعية اليمنية تعاين موقع تفجير سيارة مفخخة في مدينة عدن أعلن «داعش» مسؤوليته عنه (أ.ف.ب)
قوات الشرعية اليمنية تعاين موقع تفجير سيارة مفخخة في مدينة عدن أعلن «داعش» مسؤوليته عنه (أ.ف.ب)

كشفت الأيام الأخيرة وتطورات الأحداث على الأرض في اليمن أن ميليشيات الحوثي الإرهابية التي تدور في فلك الإرهاب الإيراني الأسوأ من نوعه في تاريخ الخليج العربي والشرق الأوسط هي من يوفر الغطاء لتنظيمي القاعدة وداعش، وبدعم من طهران مباشرة في محاولة لا تخطئها العين لإثارة المزيد من الفوضى القاتلة في المنطقة.
الشاهد أنه في الأيام القليلة الماضية كشفت وزارة الداخلية اليمنية عن ضبط خلايا إرهابية تابعة لجماعة الحوثي تعمل تحت اسمي «داعش» و«القاعدة» على زعزعة الأمن والاستقرار، واستهداف قيادات الدولة، وتنفيذ عمليات الاغتيالات، وفي السياق نفسه كان الجيش اليمني يعلن عن إطلاق حملة أمنية واسعة النطاق لملاحقة عناصر تنظيم داعش ومحاولة تحجيم فلول «القاعدة» المنتشرين في الريف الغربي لمحافظة تعز جنوب صنعاء.
ولعل علامة الاستفهام الأولى في هذه السطور: «هل قدم الحوثيون إن بطريق مباشر أو غير مباشر الدعم اللازم والمطلوب للإرهاب وجماعاته المختلفة، ليزداد انتشارا في اليمن على النحو الذي جعل ذلك البلد بقعة مشتعلة في الحال والاستقبال؟».
المقرر بالتجربة التاريخية أن الإرهاب وخلاياه المختلفة لا تعيش إلا في بيئات منفلتة أمنيا عنوانها الفوضى وعدم الاستقرار، ولهذا فإنه ومنذ الانقلاب الحوثي في سبتمبر (أيلول) من عام 2014 فإن التنظيمات الإرهابية في اليمن تسعى جاهدة لاستغلال الأوضاع الأمنية المتردية من أجل محاولة فرض نفوذها على الساحة اليمنية.
على أن الخبراء في مجال تحليل ودراسة هوية الجماعات الإرهابية، لا سيما «داعش» و«القاعدة»، يدركون جيدا أن هناك خلافات بينية وفكرية عميقة إلى الدرجة التي جعلت بعضهم يتصادم بالفعل في الميدان.
أضف إلى ذلك أن إيران لها توجهات مغايرة عن الجماعتين، وعليه فقد باتت علامة الاستفهام: ما الذي يجمع الأضداد في إطار واحد وإن تقطعت بهم سبل التوجهات الآيديولوجية والعقائدية؟
المؤكد بداية أنه رغم اختلاف المرجعيات المذهبية لأطراف الثلاثي الإرهابي المتقدم، فإن المتابع لما يجري على الأرض في اليمن يدرك أن تضافر جهود الحوثي مع «القاعدة» و«داعش»، إنما يصب في نهاية المشهد لصالح المعسكر الإيراني ذاك الذي يسعى لتشتيت وإرباك الجيش اليمني والمقاومة والتحالف العربي ويسعى لأجل استنزافهم وإنهاكهم وهو ما لم ولن يدركوه.
في تقرير أخير لها كانت صحيفة «واشنطن بوست» ترصد عبر عيون الباحثة في جامعة أكسفورد، إليزابيث كيندال، كيف تمكنت «القاعدة» بداية من تعزيز حضورها في اليمن، لا سيما أنها استفادت بشكل بالغ من الفوضى التي أعقبت الحرب في 2015، لا سيما بعد استيلاء جماعات الحوثي على معدات عسكرية يمتلكها الجيش اليمني وإقدام مقاتليها على سرقة البنك المركزي.
ترى كيندال أن مفتاح نجاح تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وبخاصة في اليمن لم يكن بفعل التجنيد المباشر، لا سيما أن عدد مقاتليه الأساسيين لم يتجاوز أربعة آلاف عنصر في قمة صعوده إنما جاء بفعل الجهود التي بذلها التنظيم بغية الحصول على دعم كبار قادة المدن وشيوخ القبائل، إلى جانب مساعيه لـ«كسب التعاطف الضمني من جانب السكان المحليين».
في هذا الإطار بدا «القاعدة» مختلفا في توجهاته عن «داعش» في أنه اعتمد نهجا متدرجا في ممارسة أعمال الحكم ضمن نطاق سيطرته حيث عقد صيغا تشاركية ومحلية الطابع لتقاسم السلطة مع أبناء تلك المناطق.
هل اليمن يمثل بالنسبة لـ«القاعدة» أهمية استراتيجية عالية، لا سيما أن التنظيم يخطط للعودة بقوة بعد الضربات الشديدة الوقع والخسائر الهائلة التي تعرض لها منافسه الأشد تنظيم دولة الخلافة «داعش»؟
يمكن القطع بأن ذلك كذلك بالفعل، فاليمن يمثل بيئة تتقاطع فيها الجغرافيا والديموغرافيا في خلق بؤر تمرد ذات إمكانية بقاء عالية، كما أن اليمن يقع في منطقة بؤرية محورية تحمل تهديدا خطيرا لأمن القوى الإقليمية والدولية، كما أن القدرة على التمدد الأفقي عبر توظيف العامل القبلي في اليمن والسعودية أمر من شأنه أن يرفد «القاعدة» بالمزيد من الأنصار وأن يوسع قاعدة الأفراد الساعين إلى القيام بعمليات انتحارية.
لم يكن لتنظيم داعش حضورا قويا أو ملحوظا في اليمن قبل الانقلاب الحوثي لكن أجواء الاضطراب والانشقاق الداخلي من جهة، والهزائم التي مني بها التنظيم في العراق وسوريا على يد قوات التحالف الدولي من جهة ثانية، يسرت وبشكل كبير لتسرب أعداد من «الدواعش» إلى الداخل اليمني، لا سيما في المواقع المتقدمة التي يسيطر عليها الحوثي وجماعته كما حدثت بعض الانشقاقات المبكرة في صفوف «القاعدة» لصالح «داعش»، وتم الإعلان عن قيام إمارات مزعومة تابعة لتنظيم الدولة في عدد من مناطق اليمن، إلى جانب تنفيذ هجمات استحوذت على عناوين الصحافة في عامي 2015 و2016. إلا أن «داعش» بحال من الأحوال لم يستطع أن ينافس «القاعدة» على النفوذ في اليمن. بدأت «داعش» تظهر في اليمن في بدايات عام 2014 عندما أعلن أبو بكر البغدادي أن مقاتلين في اليمن تعهدوا بالبيعة أي بقسم الولاء الرسمي له، وفي ذلك الوقت كان تنظيم الدولة يتمتع باكتساب عناصر جديدة بشكل كبير في جميع أنحاء العراق وسوريا فيما كانت ذروة شعبيته تتصاعد بين السلفيين المتشددين، وعليه فإنه ابتداء من نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 انشق عدد من نشطاء «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية وانضموا إلى تنظيم الدولة في اليمن.
لم يكن الاندماج واردا بين «القاعدة» و«داعش» بالمرة فقد اعتبر رجالات «القاعدة» فكر «داعش» بالنسبة لهم فكرا دخيلا، حيث أعلن القيادي بـ«القاعدة» حارث النظاري الذي قتل لاحقا أن تنظيم داعش لا يتجاوز كونه جماعة من الجماعات المتطرفة، وأن إعلان «داعش» لم يستوف الشروط اللازمة، ومن ثم فإن هذا الإعلان لا يبطل شرعية الجماعات الأخرى التي تعمل في الساحة، وبدا أن خطاب النظاري موجه بشكل أساسي لأنصاره في اليمن قبل أن يكون ردا على إعلان البغدادي.
كان للخلاف بين «القاعدة» و«داعش» أن يطفو على السطح في كل الأحوال فعلى الرغم من أن الأول حاول مرارا تأخير إعلان موقفه من الخلاف الذي جرت به المقادير بين الرجل الأول في تنظيم القاعدة والمسؤول عن هيكلها الحالي أيمن الظواهري، وبين تنظيم داعش الذي رأى في نفسه الأحق بقيادة التنظيم، فإن «القاعدة» في نهاية المطاف أعلنت تجديد بيعتها في اليمن للظواهري، ورفض فكرة قيام البغدادي بإعلان الخلافة بشكل منفصل.
أخفق «داعش» في اليمن في بداية الأمر فيما نجحت فيه «القاعدة»، وفي المقدمة من ذلك عجزه عن بلورة رؤية مجتمعية ثقافية محددة قادرة على التحدث بلسان اليمنيين ومخاطبتهم أو دغدغة مشاعرهم من أجل كسب المزيد من عناصرهم، فضلا عن غياب مشاركات في مشروعات تنمية المجتمع المحلي إلى جانب توجيه انتقادات قاسية لتكتيكات «داعش» من قبل مقاتلين انشقوا عن صفوفه إلى صفوف «القاعدة». ولأن «القاعدة» تنظيم مؤدلج فكريا فيما «داعش» عملياتي بشكل أكبر وأخطر، بدأ المشهد على الأرض يكاد يتحول إلى سباق دام بين المجموعتين لإحداث أكبر عمليات إرهابية، ففي مارس (آذار) 2015 أعلن ما يعرف بولاية صنعاء التابعة لتنظيم الدولة مسؤوليته عن تفجيرات صنعاء الأخيرة حيث فجر أربعة انتحاريين أنفسهم في مسجدي بدر والحشوش مما أسفر عن مقتل 142 شخصا في حين تبرأ «القاعدة» من العملية واتهم تنظيم داعش بالتساهل في سفك الدماء.
لم تتوقف المناوشات بين «القاعدة» و«داعش» عند المقارعات الفكرية، بل حدثت معارك فعلية على الأرض لا سيما في محافظات جنوبية ما اعتبر دليلا آخر على شعور تنظيم القاعدة بخطر استلاب الدواعش لمكان ومكانة أوسع وأعمق في المجتمع اليمني، ولاحقا بطغيان يمكن له أن يزيح مكتسبات «القاعدة» عبر الأعوام الماضية، لا سيما أن تنظيم داعش كان يتهم «القاعدة» في اليمن بأنه «تنظيم جهادي إسلامي لكن بما لا يكفي لأن يستحق هذا الوصف».
مرة أخرى كيف لتنظيمات متقاتلة على هذا النحو أن تتشارك ولو مرحليا تحت عباءة وغطاء واحد في الداخل اليمني؟... لتكن البداية من عند الحوثي و«القاعدة» وهي علاقة معقدة ومركبة فمع الإقرار بالاختلاف العقائدي أولا والآيديولوجي ثانيا، فإن المحلل المحقق والمدقق لتقارير مجلس الأمن والأمم المتحدة منذ 2014 وحتى اليوم يستطيع أن يرصد وبأقل مجهود فكري العلاقات الوثيقة التي ربطت علي عبد الله صالح مع تنظيم القاعدة، إضافة إلى أن التحقيقات تؤكد تورط ميليشيات الحوثي في زرع عبوات ناسفة بالمدن اليمنية ونسبتها لـ«داعش»، ما يؤكد كذلك تورط الميليشيات الحوثية مع «القاعدة»، وهنا الدليل الأول على أن «القاعدة» والحوثي وجهان لعملة واحدة صناعتها إيرانية فالعلاقة المزدوجة بين تنظيم القاعدة بإيران من جهة وبالحوثيين من جهة أخرى، تؤكد أن إيران نجحت وبكل أسف في استقطاب كثير من مقاتلي «القاعدة» وبينهم قيادات في الخط الأول والقيادات الوسطى، كما أنها قامت بتقارب بين ميليشيات الحوثي وميليشيات «القاعدة»، والجميع يعلم أن هناك صفقات تبادل أسرى بين الحوثيين و«القاعدة» برعاية إيرانية، كما كشفت المفاوضات في مراحلها المختلفة عن العلاقة بين تنظيم القاعدة وجماعة الحوثي وذلك عندما رفضت ميليشيات الحوثي مقترحا من الأمم المتحدة بإصدار بيان يؤيد العملية العسكرية ضد تنظيم القاعدة في المكلا وأبين.
هل من خيط يربط بين «داعش» وإيران، لا سيما في اليمن؟
ليس سرا القول إن الإيرانيين الذين أطلقوا ظاهريا فتاوى ما عرف بـ«الجهاد الكفائي» ضد «داعش»» علنا هم أكثر المستفيدين منها سرا لتحقيق مصالحهم في المنطقة، فطهران التي لا تستنكف تدين «داعش» لفظيا هي التي لا تحاربه على أرض الواقع عسكريا أو لوجيستيا، ولهذا نرى «داعش» يتحاشى استهدافها رغم شعاراته العلنية المضادة والمهاجمة للشيعة مما يؤكد وجود مصالح خلفية بين الجانبين في الماضي والحاضر.
أحد أفضل الأصوات التي كشفت لنا أبعاد العلاقات الخفية بين الإيرانيين و«الدواعش» دكتور مجيد رفيع زاده الباحث الإيراني الأميركي بجامعة هارفارد، والذي أشار إلى أن طهران استخدمت «داعش» في تعزيز قوتها الإقليمية، حيث كانت تواجه صعوبة في إضفاء الشرعية على دورها في العراق ودعمها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، كما أن إيران استغلت «الدواعش» في زخم ودعم قوة الميليشيات الشيعية التي تدعمها والتي تلعب دورا خطيرا اليوم في بلدان عربية مثل العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، وعليه فإن تظاهر إيران بأنها تقاوم «داعش» هو شأن منحول وغير صحيح؛ إذ من مصلحتها بقاء التنظيم الإرهابي قويا ومنتشرا، الأمر الذي جعل البعض ينظرون إلى «داعش» على أنه حصان طروادة بالنسبة لإيران.
يوما تلو الآخر تتضح معالم التنسيق بين «الحوثي» و«القاعدة» و«داعش» في اليمن بمظلة مالية وعسكرية إيرانية، فقد ظهر الأمر قبل فترة عندما أقدم «الدواعش» على قتل عناصر يمنية في محافظة البيضاء كانوا في طريقهم إلى محافظة مأرب للالتحاق بصفوف الجيش الوطني الذي يواجه جماعة الحوثي الانقلابية، العملية التي تؤكد أن المستفيد الأول من تنفيذها هي الميليشيا الحوثية رغم اختلاف المرجعية المذهبية للطرفين.
هل التحالف الثلاثي الشرير المتقدم يعني أن قوات التحالف الدولي تحقق نجاحات بالفعل على الأرض؟ المؤكد أن قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن قد نجحت في التصدي للميلشيات الإرهابية من خلال الانتصارات الميدانية الكبيرة التي تحققت منذ انطلاق «عملية الحزم» في مارس 2015 وحتى اللحظة، حيث عملت قوات التحالف العربي على كبح جماح الميليشيات الحوثية، وتمكنت عبر إسناد القوات اليمنية والمقاومة الشعبية من استعادة 85 في المائة من الأراضي اليمنية التي كانت مهددة بالسقوط في براثن المشروع الإيراني الرامي لضرب المنطقة وتهديد الأمن الإقليمي والعالمي، وفي مواجهة تلك الانتصارات يُضحي من الطبيعي أن ينشأ تحالف «حوثي - داعشي – قاعدي»، يسعى لتنفيذ هجمات إرهابية جديدة في اليمن تستهدف المناطق المحررة من قبل القوات الشرعية.


مقالات ذات صلة

ماذا ينتظر اليمن في عهد ترمب؟

تحليل إخباري الجماعة الحوثية استقبلت انتخاب ترمب بوعيد باستمرار الهجمات في البحر الأحمر وضد إسرائيل (غيتي)

ماذا ينتظر اليمن في عهد ترمب؟

ينتظر اليمنيون حدوث تغييرات في السياسات الأميركية تجاه بلادهم في ولاية الرئيس المنتخب دونالد ترمب.

وضاح الجليل (عدن)
العالم العربي رئيس الحكومة اليمنية أحمد عوض بن مبارك (سبأ)

وعود يمنية بإطلاق عملية شاملة لإعادة بناء المؤسسات الحكومية

وعد رئيس الحكومة اليمنية، أحمد عوض بن مبارك، بإطلاق عملية شاملة لإعادة بناء المؤسسات، ضمن خمسة محاور رئيسة، وفي مقدمها إصلاح نظام التقاعد.

«الشرق الأوسط» (عدن)
العالم العربي مسلحون حوثيون خلال حشد في صنعاء دعا إليه زعيمهم (إ.ب.أ)

الحوثيون يحولون المنازل المصادرة إلى معتقلات

أفاد معتقلون يمنيون أُفْرج عنهم أخيراً بأن الحوثيين حوَّلوا عدداً من المنازل التي صادروها في صنعاء إلى معتقلات للمعارضين.

محمد ناصر (تعز)
العالم العربي بوابة البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)

تفاقم معاناة القطاع المصرفي تحت سيطرة الحوثيين

يواجه القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية شبح الإفلاس بعد تجريده من وظائفه، وتحولت البنوك إلى مزاولة أنشطة هامشية والاتكال على فروعها في مناطق الحكومة

وضاح الجليل (عدن)
الخليج جاسم البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية (مجلس التعاون)

إدانة خليجية للاعتداء الغادر بمعسكر قوات التحالف في سيئون اليمنية

أدان جاسم البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الاعتداء الغادر في معسكر قوات التحالف بمدينة سيئون بالجمهورية اليمنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.