رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

خطوة للخروج من العزلة موجهة لبلدان متعاطفة مع القضية الفلسطينية

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
TT

رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)

في الفترة الممتدة من 1999 وحتى 2009 استطاع تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» أن يكتتب مئات الشباب الموريتانيين في صفوفه، مستغلاً إقامة نظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيد أحمد الطائع، علاقات دبلوماسية مُعلنة مع إسرائيل، لقد كانت أدبيات التنظيم ورسائله الدعائية في تلك الفترة تستهدف الموريتانيين أكثر من غيرهم، وتوجه لهم خطاباً يحرضهم على نظامهم الذي يقول التنظيم إنه «يوالي اليهود والنصارى ويعادي فلسطين المحتلة»، وكثيراً ما نجحت تلك الدعاية في التغرير بالشباب الموريتانيين الغاضبين والمتحمسين.
اليوم، تستعد الكثير من بلدان غرب أفريقيا ومنطقة الساحل لاستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وهي علاقات ظلت مجمدة لأكثر من أربعة عقود، ومع عودة الدفء إليها ورؤية العلم الإسرائيلي وهو يرفرف من جديد في عواصم هذه الدول، عاد تنظيم القاعدة إلى دعايته القديمة؛ ما يثير مخاوف المراقبين والمسؤولين الأمنيين من إمكانية استغلال التنظيم، وتنظيمات مسلحة أخرى، للوضع من أجل تجديد دمائه وتجنيد مقاتلين جدد، يخرجونه من حالة العزلة التي يعيشها منذ بداية الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي قبل ست سنوات.
ظهر ذلك بشكل واضح في آخر بيان يصدر عن «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة، شنّت الأسبوع الماضي هجوماً دامياً على معسكر تابع للأمم المتحدة في شمال مالي، قتلت فيه عشرة جنود تشاديين، واعتبرت أن ذلك عقاب لنظام الرئيس التشادي إدريس ديبي على استئناف علاقاته مع إسرائيل، خطوة من الواضح أنها موجهة للاستغلال المحلي، ومحاولة دغدغة عواطف الرافضين لهذه العلاقات، في بلد أغلب مواطنيه مسلمون متعاطفون مع القضية الفلسطينية.

استغلال رمزية القدس
مما أثار انتباه المراقبين للوضع الأمني والحركات المتطرفة في أفريقيا، اتفاقها خلال الأيام الأخيرة على عبارة «القدس لن تُهوّد» كهاشتاغ موحد في مناشيرها وبياناتها؛ فقد ظهرت هذه العبارة في بيان صادر عن «مؤسسة الزلّاقة»، التي هي الذراع الإعلامية لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» المرتبطة بتنظيم القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي، كما ظهر أيضاً في بيان صادر عن «وكالة شهادة الإخبارية» التي تتولى الدعاية لصالح «حركة الشباب» في الصومال بالقرن الأفريقي، وظهر أيضاً في رسائل دعائية صادرة عن جماعة «بوكو حرام» الإرهابية في شمال نيجيريا بمنطقة خليج غينيا بغرب أفريقيا.
إجماع الحركات المتطرفة في مختلف مناطق القارة الأفريقية، على استغلال «مطية التطبيع» في آلتها الدعائية والترويجية، يثير مخاوف المراقبين من ركوب هذه الحركات والتنظيمات حالة الرفض الشعبي لقرارات الأنظمة الحاكمة باستئناف العلاقات مع إسرائيل، وبالتالي محاولة اكتتاب مقاتلين جدد يتم التغرير بهم بسبب العاطفة والجهل والحماس، وفق ما يقول الخبراء.
ذلك ما كشفه البيان الصادر عن جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الذي أصدرته تحت عنوان «غزوة أجلهوك... وقوف في وجه قطار التطبيع»، في إشارة إلى الهجوم الذي أودى بحياة عشرة جنود تشاديين في مدينة أجلهوك، أقصى شمالي دولة مالي.
وقالت الجماعة الإرهابية في بيانها: إن قرار تشاد استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل «تحدٍ سافر لمشاعر ملايين المسلمين في تشاد الذين جعلهم ديبي يرزحون تحت وطأة الفقر والجوع، رغم الثروات الهائلة التي تنعم بها أرضهم»، وفي هذه العبارات تعيد «نصرة الإسلام والمسلمين» إلى الواجهة مصطلحات قديمة من أدبيات تنظيم القاعدة الدعائية، من قبيل «الفقر»، و«مشاعر المسلمين»، و«نهب الثروات».
كما حاولت الجماعة في بيانها استغلال الرفض الشعبي في تشاد لقرار الحكومة، وحالة التذمر من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة، حين تقول إن تبادل ديبي الزيارات مع نتنياهو «كان الهدف منه محاولة إنقاذ حكمه والحصول على طوق نجاة اقتصادي من قبل اليهود، يخرجه من دائرة الغضب الشعبي في تشاد، والتي تزداد يوماً بعد يوم».

استغلال الرفض الشعبي
يقول جبرين عيسى، وهو كاتب تشادي مختص في الشأن الأفريقي: إن الجماعات المتطرفة ستحاول استغلال الوضع لصالحها، وبخاصة أن جميع التشاديين يرفضون قرار الرئيس إدريس ديبي وزيارته لإسرائيل، ويدركون أن استعادة العلاقات بين تشاد وإسرائيل في هذا الظرف هو «تبادل مصالح سياسية بين نتنياهو وديبي»، ويشرح عيسى قائلاً: «نتنياهو يحتاج إلى إحداث ضجة إعلامية عالمية باختراق أفريقيا لتحقيق مكاسب داخلية بعد تدهور سمعته بسبب جرائم الفساد التي تحقق فيها الشرطة الإسرائيلية، وكذلك لقرب الانتخابات، أما ديبي فبلاده تمر بأزمة اقتصادية خانقة حين فشلت الحكومة في توفير أبسط مقومات الحياة للشعب؛ لذا يسعى للبحث عن جهة لتأمين أموال تمكنه من تجاوز هذه الأزمة».
لكن عيسى في حديثه مع «الشرق الأوسط» قال: إن ديبي وهو يستعيد علاقاته مع إسرائيل كان يفكر في «فصائل من المعارضة التشادية، شمالي البلاد، شنت هجمات العام الماضي ضد قواته، وهو يحتاج إلى خدمات أمنية خاصة، من أبرزها نظم التجسس المتطورة لدى إسرائيل».
من جهة أخرى، يؤكد عيسى أن «الحركات المتطرفة تعتبر تشاد هدفاً لعملياتها الإرهابية؛ بسبب دخول نظام ديبي في الحرب ضد (بوكو حرام) النيجيرية، التي نفذت عمليات تفجير داخل العاصمة انجامينا، قُتل فيها مواطنون أبرياء، هذا ناهيك عن الخسائر البشرية في صفوف الجنود التشاديين في مالي والنيجر ونيجيريا والكاميرون».
وبالنسبة لهذا الكاتب التشادي المختص في الشأن الأفريقي، فإن الحركات الإرهابية سوف تعمل على استغلال كل هذه العوامل لصالحها، وأضاف: «عودة العلاقات مع إسرائيل ستتخذه هذه الحركات ذريعة للقيام بتجنيد التشاديين، ما سيزيد تردي الأوضاع الأمنية في المنطقة، وبخاصة أن الحركات المتطرفة تنشط على الحدود التشادية مع ليبيا، والنيجر، ونيجيريا، والكاميرون، وأفريقيا الوسطى، كما أن حدود تشاد غير مؤمّنة؛ لذا فإن التطبيع مع إسرائيل ستكون عواقبه وخيمة».

شعب مسالم... لكن
يبلغ تعداد سكان تشاد 12 مليون نسمة، أغلبهم مسلمون ناطقون باللغة العربية، وينتشر فيه المذهب المالكي والتصوف، ولم يعرف عنه أي ميول نحو التطرف والإرهاب، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة قد تدفع الشباب إلى الانخراط في طرق منحرفة، وفق ما يؤكد جبرين عيسى حين يقول: «الشعب التشادي في عمومه غير مهيأ للانخراط في الحركات المتطرفة؛ لعدم وجود تشدد في البلاد، إلا أن الأوضاع الأمنية المتدهورة والأزمة الاقتصادية الخانقة، ورفض الشعب للتطبيع مع إسرائيل ومكانة القدس لدى الشعب التشادي، كلها عوامل قد تدفع البعض إلى الانخراط في الجماعات المتطرفة».
ويوضح عيسى، أن «الأجهزة الأمنية في تشاد ليس لديها التدريب والأدوات اللازمة لمنع انخراط الأفراد في الجماعات المتشددة، وبخاصة أن الأزمة الاقتصادية تؤثر بشكل واضح في مؤسسة الجيش والشرطة؛ ما جعل هذه المؤسسة عاجزة عن مواجهة أي خطط قد تنفذها الجماعات الجهادية لاستقطاب التشاديين».
ويؤكد الخبير في الشأن الأفريقي، أن الحركات الإرهابية الناشطة في أفريقيا «تركز في دعايتها على الجوانب التي تؤثر في مشاعر الشعوب الأفريقية، وبخاصة القضايا التي تتعلق بالموروث الديني، مثل قضية فلسطين، كما تركز على تحكم النظم الاستعمارية في ثروات البلاد والهيمنة على قرار الحكام، وعدم وجود حكم رشيد والديكتاتورية المطلقة».
وأشار عيسى إلى أن «مثل هذه الدعايات قد تؤثر في البعض، وبخاصة من ليس لديهم علم شرعي وفقه في الدين؛ لذا أتوقع أن خطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني ستزيد من حظوظ الجماعات الجهادية لاستقطاب مقاتلين من تشاد».

ضربات موجعة
تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» يمر بواحدة من أكثر الفترات صعوبة منذ تأسيسه عام 2007، وهو يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عمليات اكتتاب جديدة، من أجل تعويض الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها مؤخراً على يد القوات الفرنسية والأفريقية في شمال مالي ومنطقة الساحل الأفريقي.
الجيش الفرنسي الذي يخوض 4500 من جنوده حرباً شرسة ضد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، أعلن بشكل رسمي العام الماضي أنه ألحق خسائر فادحة بالتنظيمات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي، وأشار إلى أن قواته قضت على قرابة 500 إرهابي، بعضهم تم قتله وآخرون تم اعتقالهم، من ضمنهم قياديون بارزون، وبعضهم كان يلعب أدواراً عسكرية ودينية وروحية، إضافة إلى عناصر تتولى عمليات التنسيق والربط واللوجستيك.
أما وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي، فقد قالت في تصريحات صحافية مطلع العام الماضي: إنه منذ بداية 2014 قضت القوات الفرنسية في منطقة الساحل على 450 إرهابياً، وهو عدد ارتفع خلال الفترة الأخيرة في ظل عمليات نوعية قامت بها القوات الفرنسية، قتل في واحدة منها أكثر من ثلاثين متطرفاً وسط مالي.
وأشارت الوزيرة إلى أن القوات الفرنسية في الساحل الأفريقي صادرت ما يزيد على 200 طن من المعدات العسكرية والأسلحة، وهي معدات قالت الوزيرة: إنها «تستخدم من طرف الإرهابيين لصناعة الألغام والعبوات الناسفة».
وخلال السنوات الست الماضية فقدت التنظيمات المتطرفة الكثير من قادتها البارزين، وقد توجهت هذه التنظيمات إلى مهاجمة السجون من أجل تحرير مقاتليها المعتقلين، لتعزيز صفوفها المنهكة، لكنها مؤخراً لجأت إلى الدعاية والإعلام من أجل استقطاب مقاتلين جُدد، وقد ظهر ذلك في مقاطع فيديو صدرت قبل ثلاثة أشهر يدعو فيها محمدو كوفا، أمير «جبهة تحرير ماسينا» المرتبطة مع تنظيم القاعدة، شباب قبائل الفلان إلى الالتحاق بصفوف جبهته، مستغلاً الظلم الاجتماعي الواقع على هذه القبائل.
لكن ظهور كوفا في مقاطع الفيديو الدعائية وهو يستعرض قوته ويتجول بين مقاتليه، سرعان ما تم الرد عليها بهجوم قوي شنته القوات الفرنسية والجيش المالي على معسكر في غابات وسط مالي، انتهى بمقتله وعشرات المقاتلين من «جبهة تحرير ماسينا».
وفي حين يتحسس تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الطريق نحو الشباب الأفريقي مستغلاً المظالم الاجتماعية والفقر والجهل، أعاد الروح لأدبياته القديمة القائمة على «العداء المفترض» مع إسرائيل، التي ظل التنظيم الإرهابي يتفادى استهداف مصالحها في جميع بقاع العالم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.