رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

خطوة للخروج من العزلة موجهة لبلدان متعاطفة مع القضية الفلسطينية

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
TT

رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)

في الفترة الممتدة من 1999 وحتى 2009 استطاع تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» أن يكتتب مئات الشباب الموريتانيين في صفوفه، مستغلاً إقامة نظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيد أحمد الطائع، علاقات دبلوماسية مُعلنة مع إسرائيل، لقد كانت أدبيات التنظيم ورسائله الدعائية في تلك الفترة تستهدف الموريتانيين أكثر من غيرهم، وتوجه لهم خطاباً يحرضهم على نظامهم الذي يقول التنظيم إنه «يوالي اليهود والنصارى ويعادي فلسطين المحتلة»، وكثيراً ما نجحت تلك الدعاية في التغرير بالشباب الموريتانيين الغاضبين والمتحمسين.
اليوم، تستعد الكثير من بلدان غرب أفريقيا ومنطقة الساحل لاستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وهي علاقات ظلت مجمدة لأكثر من أربعة عقود، ومع عودة الدفء إليها ورؤية العلم الإسرائيلي وهو يرفرف من جديد في عواصم هذه الدول، عاد تنظيم القاعدة إلى دعايته القديمة؛ ما يثير مخاوف المراقبين والمسؤولين الأمنيين من إمكانية استغلال التنظيم، وتنظيمات مسلحة أخرى، للوضع من أجل تجديد دمائه وتجنيد مقاتلين جدد، يخرجونه من حالة العزلة التي يعيشها منذ بداية الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي قبل ست سنوات.
ظهر ذلك بشكل واضح في آخر بيان يصدر عن «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة، شنّت الأسبوع الماضي هجوماً دامياً على معسكر تابع للأمم المتحدة في شمال مالي، قتلت فيه عشرة جنود تشاديين، واعتبرت أن ذلك عقاب لنظام الرئيس التشادي إدريس ديبي على استئناف علاقاته مع إسرائيل، خطوة من الواضح أنها موجهة للاستغلال المحلي، ومحاولة دغدغة عواطف الرافضين لهذه العلاقات، في بلد أغلب مواطنيه مسلمون متعاطفون مع القضية الفلسطينية.

استغلال رمزية القدس
مما أثار انتباه المراقبين للوضع الأمني والحركات المتطرفة في أفريقيا، اتفاقها خلال الأيام الأخيرة على عبارة «القدس لن تُهوّد» كهاشتاغ موحد في مناشيرها وبياناتها؛ فقد ظهرت هذه العبارة في بيان صادر عن «مؤسسة الزلّاقة»، التي هي الذراع الإعلامية لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» المرتبطة بتنظيم القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي، كما ظهر أيضاً في بيان صادر عن «وكالة شهادة الإخبارية» التي تتولى الدعاية لصالح «حركة الشباب» في الصومال بالقرن الأفريقي، وظهر أيضاً في رسائل دعائية صادرة عن جماعة «بوكو حرام» الإرهابية في شمال نيجيريا بمنطقة خليج غينيا بغرب أفريقيا.
إجماع الحركات المتطرفة في مختلف مناطق القارة الأفريقية، على استغلال «مطية التطبيع» في آلتها الدعائية والترويجية، يثير مخاوف المراقبين من ركوب هذه الحركات والتنظيمات حالة الرفض الشعبي لقرارات الأنظمة الحاكمة باستئناف العلاقات مع إسرائيل، وبالتالي محاولة اكتتاب مقاتلين جدد يتم التغرير بهم بسبب العاطفة والجهل والحماس، وفق ما يقول الخبراء.
ذلك ما كشفه البيان الصادر عن جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الذي أصدرته تحت عنوان «غزوة أجلهوك... وقوف في وجه قطار التطبيع»، في إشارة إلى الهجوم الذي أودى بحياة عشرة جنود تشاديين في مدينة أجلهوك، أقصى شمالي دولة مالي.
وقالت الجماعة الإرهابية في بيانها: إن قرار تشاد استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل «تحدٍ سافر لمشاعر ملايين المسلمين في تشاد الذين جعلهم ديبي يرزحون تحت وطأة الفقر والجوع، رغم الثروات الهائلة التي تنعم بها أرضهم»، وفي هذه العبارات تعيد «نصرة الإسلام والمسلمين» إلى الواجهة مصطلحات قديمة من أدبيات تنظيم القاعدة الدعائية، من قبيل «الفقر»، و«مشاعر المسلمين»، و«نهب الثروات».
كما حاولت الجماعة في بيانها استغلال الرفض الشعبي في تشاد لقرار الحكومة، وحالة التذمر من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة، حين تقول إن تبادل ديبي الزيارات مع نتنياهو «كان الهدف منه محاولة إنقاذ حكمه والحصول على طوق نجاة اقتصادي من قبل اليهود، يخرجه من دائرة الغضب الشعبي في تشاد، والتي تزداد يوماً بعد يوم».

استغلال الرفض الشعبي
يقول جبرين عيسى، وهو كاتب تشادي مختص في الشأن الأفريقي: إن الجماعات المتطرفة ستحاول استغلال الوضع لصالحها، وبخاصة أن جميع التشاديين يرفضون قرار الرئيس إدريس ديبي وزيارته لإسرائيل، ويدركون أن استعادة العلاقات بين تشاد وإسرائيل في هذا الظرف هو «تبادل مصالح سياسية بين نتنياهو وديبي»، ويشرح عيسى قائلاً: «نتنياهو يحتاج إلى إحداث ضجة إعلامية عالمية باختراق أفريقيا لتحقيق مكاسب داخلية بعد تدهور سمعته بسبب جرائم الفساد التي تحقق فيها الشرطة الإسرائيلية، وكذلك لقرب الانتخابات، أما ديبي فبلاده تمر بأزمة اقتصادية خانقة حين فشلت الحكومة في توفير أبسط مقومات الحياة للشعب؛ لذا يسعى للبحث عن جهة لتأمين أموال تمكنه من تجاوز هذه الأزمة».
لكن عيسى في حديثه مع «الشرق الأوسط» قال: إن ديبي وهو يستعيد علاقاته مع إسرائيل كان يفكر في «فصائل من المعارضة التشادية، شمالي البلاد، شنت هجمات العام الماضي ضد قواته، وهو يحتاج إلى خدمات أمنية خاصة، من أبرزها نظم التجسس المتطورة لدى إسرائيل».
من جهة أخرى، يؤكد عيسى أن «الحركات المتطرفة تعتبر تشاد هدفاً لعملياتها الإرهابية؛ بسبب دخول نظام ديبي في الحرب ضد (بوكو حرام) النيجيرية، التي نفذت عمليات تفجير داخل العاصمة انجامينا، قُتل فيها مواطنون أبرياء، هذا ناهيك عن الخسائر البشرية في صفوف الجنود التشاديين في مالي والنيجر ونيجيريا والكاميرون».
وبالنسبة لهذا الكاتب التشادي المختص في الشأن الأفريقي، فإن الحركات الإرهابية سوف تعمل على استغلال كل هذه العوامل لصالحها، وأضاف: «عودة العلاقات مع إسرائيل ستتخذه هذه الحركات ذريعة للقيام بتجنيد التشاديين، ما سيزيد تردي الأوضاع الأمنية في المنطقة، وبخاصة أن الحركات المتطرفة تنشط على الحدود التشادية مع ليبيا، والنيجر، ونيجيريا، والكاميرون، وأفريقيا الوسطى، كما أن حدود تشاد غير مؤمّنة؛ لذا فإن التطبيع مع إسرائيل ستكون عواقبه وخيمة».

شعب مسالم... لكن
يبلغ تعداد سكان تشاد 12 مليون نسمة، أغلبهم مسلمون ناطقون باللغة العربية، وينتشر فيه المذهب المالكي والتصوف، ولم يعرف عنه أي ميول نحو التطرف والإرهاب، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة قد تدفع الشباب إلى الانخراط في طرق منحرفة، وفق ما يؤكد جبرين عيسى حين يقول: «الشعب التشادي في عمومه غير مهيأ للانخراط في الحركات المتطرفة؛ لعدم وجود تشدد في البلاد، إلا أن الأوضاع الأمنية المتدهورة والأزمة الاقتصادية الخانقة، ورفض الشعب للتطبيع مع إسرائيل ومكانة القدس لدى الشعب التشادي، كلها عوامل قد تدفع البعض إلى الانخراط في الجماعات المتطرفة».
ويوضح عيسى، أن «الأجهزة الأمنية في تشاد ليس لديها التدريب والأدوات اللازمة لمنع انخراط الأفراد في الجماعات المتشددة، وبخاصة أن الأزمة الاقتصادية تؤثر بشكل واضح في مؤسسة الجيش والشرطة؛ ما جعل هذه المؤسسة عاجزة عن مواجهة أي خطط قد تنفذها الجماعات الجهادية لاستقطاب التشاديين».
ويؤكد الخبير في الشأن الأفريقي، أن الحركات الإرهابية الناشطة في أفريقيا «تركز في دعايتها على الجوانب التي تؤثر في مشاعر الشعوب الأفريقية، وبخاصة القضايا التي تتعلق بالموروث الديني، مثل قضية فلسطين، كما تركز على تحكم النظم الاستعمارية في ثروات البلاد والهيمنة على قرار الحكام، وعدم وجود حكم رشيد والديكتاتورية المطلقة».
وأشار عيسى إلى أن «مثل هذه الدعايات قد تؤثر في البعض، وبخاصة من ليس لديهم علم شرعي وفقه في الدين؛ لذا أتوقع أن خطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني ستزيد من حظوظ الجماعات الجهادية لاستقطاب مقاتلين من تشاد».

ضربات موجعة
تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» يمر بواحدة من أكثر الفترات صعوبة منذ تأسيسه عام 2007، وهو يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عمليات اكتتاب جديدة، من أجل تعويض الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها مؤخراً على يد القوات الفرنسية والأفريقية في شمال مالي ومنطقة الساحل الأفريقي.
الجيش الفرنسي الذي يخوض 4500 من جنوده حرباً شرسة ضد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، أعلن بشكل رسمي العام الماضي أنه ألحق خسائر فادحة بالتنظيمات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي، وأشار إلى أن قواته قضت على قرابة 500 إرهابي، بعضهم تم قتله وآخرون تم اعتقالهم، من ضمنهم قياديون بارزون، وبعضهم كان يلعب أدواراً عسكرية ودينية وروحية، إضافة إلى عناصر تتولى عمليات التنسيق والربط واللوجستيك.
أما وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي، فقد قالت في تصريحات صحافية مطلع العام الماضي: إنه منذ بداية 2014 قضت القوات الفرنسية في منطقة الساحل على 450 إرهابياً، وهو عدد ارتفع خلال الفترة الأخيرة في ظل عمليات نوعية قامت بها القوات الفرنسية، قتل في واحدة منها أكثر من ثلاثين متطرفاً وسط مالي.
وأشارت الوزيرة إلى أن القوات الفرنسية في الساحل الأفريقي صادرت ما يزيد على 200 طن من المعدات العسكرية والأسلحة، وهي معدات قالت الوزيرة: إنها «تستخدم من طرف الإرهابيين لصناعة الألغام والعبوات الناسفة».
وخلال السنوات الست الماضية فقدت التنظيمات المتطرفة الكثير من قادتها البارزين، وقد توجهت هذه التنظيمات إلى مهاجمة السجون من أجل تحرير مقاتليها المعتقلين، لتعزيز صفوفها المنهكة، لكنها مؤخراً لجأت إلى الدعاية والإعلام من أجل استقطاب مقاتلين جُدد، وقد ظهر ذلك في مقاطع فيديو صدرت قبل ثلاثة أشهر يدعو فيها محمدو كوفا، أمير «جبهة تحرير ماسينا» المرتبطة مع تنظيم القاعدة، شباب قبائل الفلان إلى الالتحاق بصفوف جبهته، مستغلاً الظلم الاجتماعي الواقع على هذه القبائل.
لكن ظهور كوفا في مقاطع الفيديو الدعائية وهو يستعرض قوته ويتجول بين مقاتليه، سرعان ما تم الرد عليها بهجوم قوي شنته القوات الفرنسية والجيش المالي على معسكر في غابات وسط مالي، انتهى بمقتله وعشرات المقاتلين من «جبهة تحرير ماسينا».
وفي حين يتحسس تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الطريق نحو الشباب الأفريقي مستغلاً المظالم الاجتماعية والفقر والجهل، أعاد الروح لأدبياته القديمة القائمة على «العداء المفترض» مع إسرائيل، التي ظل التنظيم الإرهابي يتفادى استهداف مصالحها في جميع بقاع العالم.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».