رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

خطوة للخروج من العزلة موجهة لبلدان متعاطفة مع القضية الفلسطينية

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
TT

رفض التطبيع مَطية «القاعدة» لتجنيد المقاتلين مغاربياً

قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)
قوات من مالي تعاين موقعاً في واغادوغو بعد هجوم دامٍ لـ«القاعدة» (أ.ف.ب)

في الفترة الممتدة من 1999 وحتى 2009 استطاع تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» أن يكتتب مئات الشباب الموريتانيين في صفوفه، مستغلاً إقامة نظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيد أحمد الطائع، علاقات دبلوماسية مُعلنة مع إسرائيل، لقد كانت أدبيات التنظيم ورسائله الدعائية في تلك الفترة تستهدف الموريتانيين أكثر من غيرهم، وتوجه لهم خطاباً يحرضهم على نظامهم الذي يقول التنظيم إنه «يوالي اليهود والنصارى ويعادي فلسطين المحتلة»، وكثيراً ما نجحت تلك الدعاية في التغرير بالشباب الموريتانيين الغاضبين والمتحمسين.
اليوم، تستعد الكثير من بلدان غرب أفريقيا ومنطقة الساحل لاستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وهي علاقات ظلت مجمدة لأكثر من أربعة عقود، ومع عودة الدفء إليها ورؤية العلم الإسرائيلي وهو يرفرف من جديد في عواصم هذه الدول، عاد تنظيم القاعدة إلى دعايته القديمة؛ ما يثير مخاوف المراقبين والمسؤولين الأمنيين من إمكانية استغلال التنظيم، وتنظيمات مسلحة أخرى، للوضع من أجل تجديد دمائه وتجنيد مقاتلين جدد، يخرجونه من حالة العزلة التي يعيشها منذ بداية الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي قبل ست سنوات.
ظهر ذلك بشكل واضح في آخر بيان يصدر عن «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة، شنّت الأسبوع الماضي هجوماً دامياً على معسكر تابع للأمم المتحدة في شمال مالي، قتلت فيه عشرة جنود تشاديين، واعتبرت أن ذلك عقاب لنظام الرئيس التشادي إدريس ديبي على استئناف علاقاته مع إسرائيل، خطوة من الواضح أنها موجهة للاستغلال المحلي، ومحاولة دغدغة عواطف الرافضين لهذه العلاقات، في بلد أغلب مواطنيه مسلمون متعاطفون مع القضية الفلسطينية.

استغلال رمزية القدس
مما أثار انتباه المراقبين للوضع الأمني والحركات المتطرفة في أفريقيا، اتفاقها خلال الأيام الأخيرة على عبارة «القدس لن تُهوّد» كهاشتاغ موحد في مناشيرها وبياناتها؛ فقد ظهرت هذه العبارة في بيان صادر عن «مؤسسة الزلّاقة»، التي هي الذراع الإعلامية لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» المرتبطة بتنظيم القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي، كما ظهر أيضاً في بيان صادر عن «وكالة شهادة الإخبارية» التي تتولى الدعاية لصالح «حركة الشباب» في الصومال بالقرن الأفريقي، وظهر أيضاً في رسائل دعائية صادرة عن جماعة «بوكو حرام» الإرهابية في شمال نيجيريا بمنطقة خليج غينيا بغرب أفريقيا.
إجماع الحركات المتطرفة في مختلف مناطق القارة الأفريقية، على استغلال «مطية التطبيع» في آلتها الدعائية والترويجية، يثير مخاوف المراقبين من ركوب هذه الحركات والتنظيمات حالة الرفض الشعبي لقرارات الأنظمة الحاكمة باستئناف العلاقات مع إسرائيل، وبالتالي محاولة اكتتاب مقاتلين جدد يتم التغرير بهم بسبب العاطفة والجهل والحماس، وفق ما يقول الخبراء.
ذلك ما كشفه البيان الصادر عن جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الذي أصدرته تحت عنوان «غزوة أجلهوك... وقوف في وجه قطار التطبيع»، في إشارة إلى الهجوم الذي أودى بحياة عشرة جنود تشاديين في مدينة أجلهوك، أقصى شمالي دولة مالي.
وقالت الجماعة الإرهابية في بيانها: إن قرار تشاد استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل «تحدٍ سافر لمشاعر ملايين المسلمين في تشاد الذين جعلهم ديبي يرزحون تحت وطأة الفقر والجوع، رغم الثروات الهائلة التي تنعم بها أرضهم»، وفي هذه العبارات تعيد «نصرة الإسلام والمسلمين» إلى الواجهة مصطلحات قديمة من أدبيات تنظيم القاعدة الدعائية، من قبيل «الفقر»، و«مشاعر المسلمين»، و«نهب الثروات».
كما حاولت الجماعة في بيانها استغلال الرفض الشعبي في تشاد لقرار الحكومة، وحالة التذمر من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة، حين تقول إن تبادل ديبي الزيارات مع نتنياهو «كان الهدف منه محاولة إنقاذ حكمه والحصول على طوق نجاة اقتصادي من قبل اليهود، يخرجه من دائرة الغضب الشعبي في تشاد، والتي تزداد يوماً بعد يوم».

استغلال الرفض الشعبي
يقول جبرين عيسى، وهو كاتب تشادي مختص في الشأن الأفريقي: إن الجماعات المتطرفة ستحاول استغلال الوضع لصالحها، وبخاصة أن جميع التشاديين يرفضون قرار الرئيس إدريس ديبي وزيارته لإسرائيل، ويدركون أن استعادة العلاقات بين تشاد وإسرائيل في هذا الظرف هو «تبادل مصالح سياسية بين نتنياهو وديبي»، ويشرح عيسى قائلاً: «نتنياهو يحتاج إلى إحداث ضجة إعلامية عالمية باختراق أفريقيا لتحقيق مكاسب داخلية بعد تدهور سمعته بسبب جرائم الفساد التي تحقق فيها الشرطة الإسرائيلية، وكذلك لقرب الانتخابات، أما ديبي فبلاده تمر بأزمة اقتصادية خانقة حين فشلت الحكومة في توفير أبسط مقومات الحياة للشعب؛ لذا يسعى للبحث عن جهة لتأمين أموال تمكنه من تجاوز هذه الأزمة».
لكن عيسى في حديثه مع «الشرق الأوسط» قال: إن ديبي وهو يستعيد علاقاته مع إسرائيل كان يفكر في «فصائل من المعارضة التشادية، شمالي البلاد، شنت هجمات العام الماضي ضد قواته، وهو يحتاج إلى خدمات أمنية خاصة، من أبرزها نظم التجسس المتطورة لدى إسرائيل».
من جهة أخرى، يؤكد عيسى أن «الحركات المتطرفة تعتبر تشاد هدفاً لعملياتها الإرهابية؛ بسبب دخول نظام ديبي في الحرب ضد (بوكو حرام) النيجيرية، التي نفذت عمليات تفجير داخل العاصمة انجامينا، قُتل فيها مواطنون أبرياء، هذا ناهيك عن الخسائر البشرية في صفوف الجنود التشاديين في مالي والنيجر ونيجيريا والكاميرون».
وبالنسبة لهذا الكاتب التشادي المختص في الشأن الأفريقي، فإن الحركات الإرهابية سوف تعمل على استغلال كل هذه العوامل لصالحها، وأضاف: «عودة العلاقات مع إسرائيل ستتخذه هذه الحركات ذريعة للقيام بتجنيد التشاديين، ما سيزيد تردي الأوضاع الأمنية في المنطقة، وبخاصة أن الحركات المتطرفة تنشط على الحدود التشادية مع ليبيا، والنيجر، ونيجيريا، والكاميرون، وأفريقيا الوسطى، كما أن حدود تشاد غير مؤمّنة؛ لذا فإن التطبيع مع إسرائيل ستكون عواقبه وخيمة».

شعب مسالم... لكن
يبلغ تعداد سكان تشاد 12 مليون نسمة، أغلبهم مسلمون ناطقون باللغة العربية، وينتشر فيه المذهب المالكي والتصوف، ولم يعرف عنه أي ميول نحو التطرف والإرهاب، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة قد تدفع الشباب إلى الانخراط في طرق منحرفة، وفق ما يؤكد جبرين عيسى حين يقول: «الشعب التشادي في عمومه غير مهيأ للانخراط في الحركات المتطرفة؛ لعدم وجود تشدد في البلاد، إلا أن الأوضاع الأمنية المتدهورة والأزمة الاقتصادية الخانقة، ورفض الشعب للتطبيع مع إسرائيل ومكانة القدس لدى الشعب التشادي، كلها عوامل قد تدفع البعض إلى الانخراط في الجماعات المتطرفة».
ويوضح عيسى، أن «الأجهزة الأمنية في تشاد ليس لديها التدريب والأدوات اللازمة لمنع انخراط الأفراد في الجماعات المتشددة، وبخاصة أن الأزمة الاقتصادية تؤثر بشكل واضح في مؤسسة الجيش والشرطة؛ ما جعل هذه المؤسسة عاجزة عن مواجهة أي خطط قد تنفذها الجماعات الجهادية لاستقطاب التشاديين».
ويؤكد الخبير في الشأن الأفريقي، أن الحركات الإرهابية الناشطة في أفريقيا «تركز في دعايتها على الجوانب التي تؤثر في مشاعر الشعوب الأفريقية، وبخاصة القضايا التي تتعلق بالموروث الديني، مثل قضية فلسطين، كما تركز على تحكم النظم الاستعمارية في ثروات البلاد والهيمنة على قرار الحكام، وعدم وجود حكم رشيد والديكتاتورية المطلقة».
وأشار عيسى إلى أن «مثل هذه الدعايات قد تؤثر في البعض، وبخاصة من ليس لديهم علم شرعي وفقه في الدين؛ لذا أتوقع أن خطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني ستزيد من حظوظ الجماعات الجهادية لاستقطاب مقاتلين من تشاد».

ضربات موجعة
تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» يمر بواحدة من أكثر الفترات صعوبة منذ تأسيسه عام 2007، وهو يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عمليات اكتتاب جديدة، من أجل تعويض الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها مؤخراً على يد القوات الفرنسية والأفريقية في شمال مالي ومنطقة الساحل الأفريقي.
الجيش الفرنسي الذي يخوض 4500 من جنوده حرباً شرسة ضد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، أعلن بشكل رسمي العام الماضي أنه ألحق خسائر فادحة بالتنظيمات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي، وأشار إلى أن قواته قضت على قرابة 500 إرهابي، بعضهم تم قتله وآخرون تم اعتقالهم، من ضمنهم قياديون بارزون، وبعضهم كان يلعب أدواراً عسكرية ودينية وروحية، إضافة إلى عناصر تتولى عمليات التنسيق والربط واللوجستيك.
أما وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي، فقد قالت في تصريحات صحافية مطلع العام الماضي: إنه منذ بداية 2014 قضت القوات الفرنسية في منطقة الساحل على 450 إرهابياً، وهو عدد ارتفع خلال الفترة الأخيرة في ظل عمليات نوعية قامت بها القوات الفرنسية، قتل في واحدة منها أكثر من ثلاثين متطرفاً وسط مالي.
وأشارت الوزيرة إلى أن القوات الفرنسية في الساحل الأفريقي صادرت ما يزيد على 200 طن من المعدات العسكرية والأسلحة، وهي معدات قالت الوزيرة: إنها «تستخدم من طرف الإرهابيين لصناعة الألغام والعبوات الناسفة».
وخلال السنوات الست الماضية فقدت التنظيمات المتطرفة الكثير من قادتها البارزين، وقد توجهت هذه التنظيمات إلى مهاجمة السجون من أجل تحرير مقاتليها المعتقلين، لتعزيز صفوفها المنهكة، لكنها مؤخراً لجأت إلى الدعاية والإعلام من أجل استقطاب مقاتلين جُدد، وقد ظهر ذلك في مقاطع فيديو صدرت قبل ثلاثة أشهر يدعو فيها محمدو كوفا، أمير «جبهة تحرير ماسينا» المرتبطة مع تنظيم القاعدة، شباب قبائل الفلان إلى الالتحاق بصفوف جبهته، مستغلاً الظلم الاجتماعي الواقع على هذه القبائل.
لكن ظهور كوفا في مقاطع الفيديو الدعائية وهو يستعرض قوته ويتجول بين مقاتليه، سرعان ما تم الرد عليها بهجوم قوي شنته القوات الفرنسية والجيش المالي على معسكر في غابات وسط مالي، انتهى بمقتله وعشرات المقاتلين من «جبهة تحرير ماسينا».
وفي حين يتحسس تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الطريق نحو الشباب الأفريقي مستغلاً المظالم الاجتماعية والفقر والجهل، أعاد الروح لأدبياته القديمة القائمة على «العداء المفترض» مع إسرائيل، التي ظل التنظيم الإرهابي يتفادى استهداف مصالحها في جميع بقاع العالم.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.