المصريون والدولار... «التحركات المفاجئة» تلعب برؤوس الفقراء والأغنياء

قطاعات اجتماعية مختلفة تترقب أثر تغير سعر الصرف

TT

المصريون والدولار... «التحركات المفاجئة» تلعب برؤوس الفقراء والأغنياء

قبل نحو خمسة أشهر، فوجئ مالك مبنى إداري في منطقة التجمع الخامس الراقية، شرق القاهرة، برغبة المستأجرين الممثلين لفرع إحدى الشركات الدولية بمصر، في تعديل العقد لتكون قيمته بالجنيه، على عكس اتفاقه السابق معهم والمحدد بالدولار الأميركي.
أبدى الرجل - الذي تحفظ على ذكر اسمه لخصوصية معاملاته المالية - رفضاً لفكرة رهن دخله بمصير العملة المحلية غير المستقر مقارنة بالنقود الخضراء؛ لكن المستأجرين قدموا له عرضاً مغرياً حينها، بأن يُقدر بنفسه قيمة الدولار الأميركي بغض النظر عن سعره مقابل الجنيه وقت إبرام العقد. حاول مالك البناية تأمين نفسه قدر المستطاع ضد تقلبات سعر الصرف، فقرر أن يحصل من المستأجرين على مقابل التعاقد بسعر 23 جنيهاً مصرياً مقابل الدولار الواحد، ووافقوا رغم أن ذلك كان يزيد أكثر من 5 جنيهات على السعر الرسمي السائد آنذاك.
لا تشير الواقعة السابقة على ما يبدو للوهلة الأولى، إلى حنكة تُدر دخلاً كبيراً طالما تمتع بها المستثمرون الأجانب في مصر ذات الاقتصاد الناشئ؛ خصوصاً أن الدولار الأميركي فقد على مدار اليومين الماضيين نحو 24 قرشاً من قيمته مقابل الجنيه المصري (الجنيه المصري يساوي 100 قرش)، وبعد أن استقرت معادلة القوة بين الطرفين منذ شهور عند مستوى 17.88 جنيه مقابل الدولار، بات المصريون على موعد مع تحركات لسعر عملتهم قد تحمل مفاجآت لقطاعات كبيرة بينهم.
ومهَّد محافظ البنك المركزي المصري، طارق عامر، قبل أسبوع تقريباً، في تصريحات لوكالة «بلومبرغ» لـ«تحركات بشكل أكبر في الفترة المقبلة (لسعر صرف الجنيه)».
وذكَّرت التغيرات في قيمة العملة الأميركية المصريين بالأجواء التي صاحبت إعلان حكومتهم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 تحرير الجنيه، أو ما عُرف بـ«قرارات التعويم»، والتي صاحبتها حالة ارتباك في الأسواق، وسجلت معدلات التضخم مستويات غير مسبوقة.
وإذا كانت زيادة قيمة الجنيه تمثل خبراً ساراً للمواطن مالك بناية الحي الراقي، والذي يُمكن تصنيفه من بين قطاعات الأغنياء نسبياً، فإنها بدت مقلقة لآخر من أصحاب الدخل شبه المحدود، هو محمود إبراهيم، الذي يعمل مُدرساً في مؤسسة تعليمية خاصة بمنطقة الهرم بمحافظة الجيزة، ويتقاضى دخلاً شهرياً يقدر بـ3 آلاف جنيه تقريباً (170 دولاراً تقريباً)، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن اقتراب موسم شهر رمضان الذي يرتبط بزيادة النفقات على بند المأكولات والمشروبات، يثير مخاوفه من أن حالة التغيرات ربما يعقبها صعود للدولار، وهو ما سينعكس على أسعار السلع المختلفة.
ويشير إبراهيم إلى أن اعتماده وقطاعات واسعة على شراء السلع من تجار التجزئة، سيدفع الفئة الثانية إلى تأمين نفسها ضد التقلبات، بوضع هامش ربح كبير لمواجهة أي ارتباك قد يطرأ على سلعهم الرمضانية المستوردة في معظمها. ويستدرك: «طوال العامين الماضيين بعد التعويم كنا نسمع ردوداً من مختلف التجار بأن الدولار ارتفع، وبالتالي زادت السلع، ولا نتوقع منهم أن يخفضوا أسعار سلعهم تأثراً بارتفاع قيمة الجنيه. هؤلاء اعتادوا على الزيادة وتأمين أنفسهم».
وتبدو التوقعات العفوية المُستندة إلى تعاملات إبراهيم السابقة، متوافقة إلى حد كبير مع تقرير لمؤسسة «فاروس» للأبحاث، أصدرته في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، توقعت فيه انخفاض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي بنسبة 4.5 في المائة، ليسجل 18.53 جنيه مقابل الدولار في 2018 – 2019؛ بل إنها قدرت استمرار الانخفاض للجنيه بنسبة 6.2 في المائة، وبما يساوي 19.59 جنيه مقابل الدولار الواحد في 2019 - 2020.
ويرى الخبير الاقتصادي عمر الشنيطي، أن التذبذب في سوق العملات يرجع إلى توصيات صندوق النقد الدولي لمصر، بأهمية أن تكون هناك مساحة لمرونة أكبر في سعر صرف الجنيه.
واستند الشنيطي في تقديره، إلى توجهات البنك المركزي المصري، التي تشير إلى أن سعر الصرف سيشهد تذبذباً في الفترة القادمة، مع تأكيد البنك على أن لديه «احتياطيات تساعد في مواجهة أي مضاربات أو ممارسات تسبب إرباكاً للسوق».
ووفق مؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بشأن بحث الدخل والإنفاق لعام 2015، فإن نسبة المصريين المصنفين تحت خط الفقر بلغوا 27.8 في المائة من إجمالي السكان (91.5 مليون) وبما يساوي 25.4 مليون شخص، وكانت تلك الإحصائية قبل قرارات تعويم العملة المحلية، التي لم يتم إعلان أثرها بعد على معدلات الفقر في البلاد.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.