تشكل شعرية الشفرة بلغتها التلغرافية المقطرة المختزلة محور الرؤية، ومركز الدوال الشعرية في ديوان الشاعر محمد الحمامصي «يده الأخيرة» الصادر حديثاً عن «دار أروقة» بالقاهرة، وتحلق في أجواء الديوان، مشرّبة بمجاز المفارقة وبنية السؤال المفتوح على أزمنة الروح والجسد والحلم والواقع، بينما تراوح الأنثى العاشقة بمراوغاتها العاطفية الملتبسة، ما بين أقصى الحسي والمجرد، وتقاطعات الحضور والغياب.
بهذه الروح يطالعنا المشهد في الديوان، عبر قماشة شعرية تمتد إلى نحو 140 صفحة، تتوزع ما بين 12 عنواناً داخلياً، معتمدة على بنية التسلسل الرقمي في ترتيب النصوص والربط فنياً بينها داخل كل فصل، يتبلور ويشف مجاز اليد الأخيرة، متجاوزاً دلالة العشق والوله بالأنثى، إلى معنى الوطن والحرية وافتقاد العدل، والشعور بالخوف والضعف.
في العشق تحضر كل الضمائر؛ تتكلم وتراوغ وتناور بسلاسة ومحبة مغوية إلى حد الجنون، وفي الوطن؛ تنطمس وتتشوه وتتآكل وتغيب الضمائر إلى حد التلاشي، تحت وطأة الظلم والقهر والعسف والرغبة في الاستئثار بالسلطة. ومن ثم، تتكثف في الديوان دلالة الباب بكل تمثلاته: الباب المفتوح والموارب، المكسور والمغلق، بل غير الموجود أصلاً، مشكلاً موازياً رمزياً للصرخة في نشدانها الإنساني العارم للحرية والحب، وللوطن حتى لا يصبح بيتاً بلا باب ـ أو باباً بلا بيت، وأيضاً الحبيبة موحداً بين فضائها (بابها) وفضاء الصحراء اللامترامي حيث «لا باب للصحراء/ ليغلق به على أنوثتها الضارية».
من ثقب هذه الرمزية، تطل الذات الشاعرة على عالمها وتستشرفه في مستهل الديوان على هذا النحو:
لا باب هناك
لا غرفة
لا مساء
لكنه يفضل أن يظل معلقاً برجاء...
وعلى عكس دلالة اليد التي تأتي مرادفاً ليقين ممزوج بالأسى والحسرة، ويصدر بها الشاعر الديوان قائلاً: «العمر كله دفتر، كتبته يد الغياب»، يبرز الباب شاهداً ودليلاً، لكنه شاهد صامت، يتحرك حين تلامسه الأيدي، وهناك أيضاً ثمة «باب للريح» عنواناً للفصل الثاني، وعلى ظهر غلاف الديوان ثمة بابٌ وجدران تتألم، وصرخة مكتومة لم تجد صدى لظلها سوى القسوة:
«أغلقتْ الباب
وقالت لن أصرخَ
حتى تتورمَ الجدرانُ من الألم
...
...
أحبكِ فلا تترفقي بي أيتها القسوة»
لا تعمل رمزية الباب، باب البيت، في الفصل بين الداخل والخارج، والشعور بالسكنى والطمأنينة، فحسب، بل تشكل نواة أساسية لفكرة الاحتواء، دونها تصبح هذه الفكرة مجرد عراء مبتذل ومجاني. لكن هل ثمة حكمة، تشكل خلاصة حياة لرمزية الباب. تخلص الذات الشاعرة إلى ذلك، في توقيعة شعرية، تطالعنا في فصل بعنوان «بين الباب والغرفة»، في المقطع رقم 2 (ص 28)، فحكمة الباب هي حكمة اليد الضائعة، بيد أنها حكمة غير جازمة، إنها محض حدس وظن يشارف الحكمة، مشرّباً بظلال من الشك والتوتر، وكأن الشاعر يريد أن يقول من خلال هذه اللطشة: أن تصل إلى حكمة ما، معنى ذلك أنك ستغلق الباب، أنه لا مكان آخر يحتويك أو تحتويه... يلمح النص لهذا المعنى، حيث تنقسم الذات الشاعرة على نفسها، في إشارة ضمنية إلى تعدد حالاتها وأحوالها، بحسب دفق العشق والحنين، موجهة الخطاب إليها على لسان المخاطب الغائب وفي ندهة شعرية تشبه الطرق على باب المجهول:
«كلما ظنَّهُ هناك
أو هنا
فرّ إليه...
الباب وهم اليد الضائعة»
ثمة معنيان هنا يشارفان مفارقة الضد مجازياً وواقعياً، بين الباب والمعرفة، فالباب ابن الحياة، له دور محدد وكينونة واضحة، والمعرفة ابنة الظن والوهم والشطح، لذلك تتعدد أبوابها. لكن هناك ما يوحد بين هذين المعنيين في لحظات كثيرة، أو على الأقل يجعلنا نتخيل ذلك، تتجلى هذه اللحظة في فعل الطرق، ليس باليد أو العقل، وإنما بالروح... الطرق على باب لا يغلق أبداً، هو باب الله... هنا تكمن في تصوري، دلالة العنوان، عبر نص واخز درامياً وإنسانياً (ص 118)، مستحضراً هذه الدلالة القارة في الوجدان الشعبي، التي تمثل نقطة تلاقٍ شديدة الشجن، بين مظاهر البؤس والفقر والعوز الاجتماعي، وفي الوقت نفسه، بين الإيمان بالذات الإلهية منبع النور والروحانية والرزق. فنحن دائماً نصف الشحاذين على ناصية الشوارع وفي الطرقات بأنهم «على باب الله»، بل كثيراً ما نتأسى على وجودنا في غبار هذه النظرة، ونهمس «كلنا على باب الله»... ومن ثم، لا يمد الشحاذ العجوز الذي يلتحف الرصيف يده إلى المارة العابرين الذين يكتظ بهم الرصيف من كل صنف ولون، وإنما يمد يده إلى الله، كأنه يطرق بابه في ظلالهم، حذراً من أن تصاب اليد بأذى بعد أن باعه الوطن، لأنها عكاز وجوده وبقائه على قيد الحياة، فهو عارٍ على الرصيف لا بيت له ولا باب، كل ما يملكه يده، حصنه وملاذه الأخير... يقول النص الذي وسم العنوان وفي فصل بعنوان «خطيئة»، يرشح بمجاز المفارقة كأنه وعاء للنص والواقع معاً:
«العجوز الذي باعه الوطن
وطعنته الأفواهُ والأيدي والأقدام
وبَرَى جسده التراب
يلتزم الرصيف في الغدو أو الرواح
محتمياً بخبرة طويلة في الحذر
خائفاً أن يفقد يده
يده الأخيرة التي يستند عليها بقاؤه».
لا تحبذ شعرية الحمامصي الاندياح في التفاصيل، فثمة زهد تمارسه الذات الشاعرة مع نفسها، ونشعر أنه موجه ضدنا، ولذلك لا تعتمد المشهدية في الديوان على السرد والإيهام بحكاية ما، بقدر ما تعتمد على فضاء البصر وآلية الاختزال والسؤال المفتوح، إنها مشهدية الداخل، مسكونة بحرقتها وظمئها الذي تعيشه، ويلامس هذا الظمأ أحياناً مراتب التصوف، بيد أن التصوف يظل بمثابة غلالة شفيفة، وليس الموقف الصوفي بمكابداته الروحانية الزاهدة المعقدة، هو مجرد شفرة وعلامة في الديوان، تمنح الذات حيوية بناء المشهد والتحليق في فضائه من زوايا متعددة دون رتوش وتفاصيل... يقول الشاعر في فصل بعنوان «في جنازته» (ص 101):
«حافياً،
صائماً،
صامتاً،
أصعد وأهبط
لست نبياً ولا ولياً
لكن الأمر يعجبني
يعجبني رتقُ أثوابِ المارة
نبشُ وجوههم
وكنسُ مخلفات أعضائهم
يعجبني أن أطوف حول امرأة لا ترغب فيّ
أن أعيش ما بقي مني غباراً في هواء».
يتضافر مع ما سبق نظرة الذات الشعرية إلى الأشياء وتعاملها معها، حيث تمثل رمزية العبور محور ارتكاز لهذه التعامل، فدائماً ثمة ضفة أخرى تشد الذات إلى الأعمق، كما أن الأشياء ليست وجوداً ثابتاً خالصاً لذاته، بقدر ما هي علامة على وجود عابر، تتخفى حقيقته فيما وراءه، وهناك عابرون قدامى، وعابرون جدد، وآخرون لم تتح لهم الفرصة بعد... إنها مشهدية مرنة، تتمتع بحيوية خاصة، فالذات الشاعرة تعيش المشهد في الخارج، تقلِّبه على شتى أوجهه وأقنعته، وحين تجره إلى فضاء النص، تخلصه من الزوائد والأوهام، ليتعرى ويصفو إلى نفسه، مصطدماً بما يعتمل فيها من خراب وتواطؤ وخيانة.
تبلغ هذه المعايشة ذروتها درامياً، تحت وطأة الفساد الذي ينخر في جسد الواقع سياسياً واجتماعياً ونفسياً، وتتسرّب ظلال ومشاهد من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) بمفارقاتها المصيرية الحارقة، تمتد إلى خطى الشاعر نفسه، موسعة المسافة بينه وبين ظله، فنلمح في النصوص روحاً منكسرة، وشغفاً ذابلاً بالحياة إلى حد اليأس، بل إن المشهد برمته يتحول إلى كابوس، وشبح موت مباغت ينتظر الفرصة الملائمة، ليغلق باب الحياة إلى الأبد... يطالعنا ذلك في نصوص جمة بالديوان، على سبيل المثال (ص 74) في فصل بعنوان «أحوال» حيث يقول الشاعر:
«كل صباح يختار طريقاً
ويستأنف السير
ينادي على جوارحه:
اثبتي
لا تخافي
لا موعد لنا مع الموت اليوم»
ومثلما افتتحت الديوان رمزية الباب المعلَّق برجاء الوجود تحت وطأة الانتظار، ها هو يرسم لطشته الأخيرة بوجه هشمه الفقر، محاصر بالخوف الذي ملأ الشوارع، حتى كأن الحياة شحاذٌ ينتظر لقمة عاطبة، تسقط من أفواه الخونة واللصوص... يقول الشاعر في مشهد مفعم بالحزن والقسوة والعدم:
يحبو متسولاً
يقطع الطريقُ صوتَه
منذراً ومحذراً
«حاجة لله»
فلا يثير أذناً ولا عيناً
هكذا، يحول الشاعر نصه إلى قفزة مغوية، نحو مطلق الخيال، مطلق الروح والجمال والعشق والحرية، لكن يبقى الوطن محض مرثية حزينة ضاعت فيها أصوات الماضي والحاضر والمستقبل.
شعرية الشفرة
محمد الحمامصي في «يده الأخيرة»
شعرية الشفرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة