التوقعات أن تصبح منطقة المحيطين الهندي والهادي من أبرز ساحات الجغرافيا السياسية الرئيسية خلال الجيل القادم، فالعديد من البلدان الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا، فضلا عن الولايات المتحدة الأميركية، واليابان، وأستراليا، والهند، يحدوها التزام جدي وتام بصياغة الاستجابة المشتركة على مختلف الصُعد لمجابهة التحديات القائمة والتهديدات الماثلة في تلك المنطقة التي تشهد تناميا ملحوظا للنفوذ والهيمنة الصينية اقتصاديا وعسكريا. وقد أعلنت الحكومة البريطانية في أكثر من مناسبة بأن المملكة المتحدة معنية تماما بزيادة أنشطتها المختلفة في المياه الآسيوية، وهي مهتمة إلى حد كبير بالرد على التهديدات الناشئة عن التواجد العسكري المتصاعد للصين في المنطقة. وفي الآونة الأخيرة، أجرت سفن البحرية البريطانية تدريبات عسكرية في بحر الصين الجنوبي الذي يعد جزءا رئيسيا لا ينفصم عن المنطقة.
وتعد التجارة العابرة لهذه المنطقة من أهم أسباب تعزيز الاهتمام في منطقة المحيطين من قبل الدول الأوروبية المختلفة. وقال المعلق الهندي سي راجا موهان بأن أكثر من 70 في المائة من التجارة الأوروبية تمر عبر منطقة المحيطين الهندي والهادي. كما أن المنطقة تعتبر من أبرز الوجهات العالمية لمبيعات الأسلحة الأوروبية.
- دور أكبر لبريطانيا في المنطقة
وتأتي التحركات البحرية البريطانية بعد بضعة أشهر من إبحار إتش إم إس ألبيون، وهي سفينة حربية زنة 22 ألف طن وتحمل مفرزة من وحدات مشاة البحرية الملكية، عبر جزر باراسيل المتنازع عليها والتي تخضع للسيطرة الصينية. وجاء الرد الصيني حادا وصارما وطالبت بريطانيا بوقف تلك العمليات على الفور وأن تترفع لندن عن الدوران في فلك الولايات المتحدة. ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، رافقت السفينة البريطانية (إتش أم إس أرغيل) حاملة الطائرات المروحية اليابانية (كاجا) في رحلة مشتركة عبر المحيط الهندي لإجراء تدريبات عسكرية في بحر الصين الجنوبي. كما أعلنت الحكومة البريطانية كذلك عن إرسال أول رادار محلي للدوران حول الأرض باستخدام صاروخ هندي الصنع. ويقوم «نوفوسار» بمراقبة أنشطة الشحن في المحيط الهندي.
وكانت الفرقاطة البريطانية المضادة للغواصات «إتش إم إس مونتروز» هي رابع قطعة بحرية بريطانية تبحر إلى حافة المحيد الهادي منذ يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، ويأتي ذلك نتيجة مباشرة لتجدد التركيز والاهتمام الأوروبي بتلك المنطقة المهمة من العالم. وأوضح وزير الدفاع البريطاني غافن ويليامسون أن البحرية الملكية معنية بالمحافظة على تواجدها المستمر في منطقة المحيطين الهندي والهادي في عام 2019 وما بعده، مضيفا أن مثل هذا الانتشار العسكري يهدف إلى حماية النظام العالمي القائم على القواعد، بما في ذلك حرية الملاحة، والتي تعتبر من ركائز أمن ورخاء المملكة المتحدة الأساسية.
وكان وزير الخارجية البريطاني الأسبق بوريس جونسون قد أعلن في عام 2017 أن حاملة الطائرات الملكية البريطانية الجديدة «إتش إم إس إليزابيث» سوف تتجه إلى بحر الصين الجنوبي في رحلتها الأولى اعتبارا من عام 2021. وسوف تجري تدريبات عسكرية مع القوات البحرية اليابانية والكورية الجنوبية. وكشف وزير الدفاع ويليامسون في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي عن الخطط البريطانية الرامية إلى إنشاء قاعدة عسكرية بحرية بريطانية إما في سنغافورة أو في بروناي، حتى يتسنى تأمين الوجود العسكري البريطاني المستمر في غرب المحيط الهادي، في الوقت الذي قد تعيد لندن النظر في سياساتها الخارجية على ضوء خروجها من التكتل الأوروبي.
وكتب الدبلوماسي الهندي الأسبق آنيل وادوا معلقا على الأمر «برغم الحذر الذي تعتمده المملكة المتحدة في تعاملها مع الصين ومتابعتها لمستوى متوازن من العلاقات مع بكين، إلا أن مجال هذه الشراكة يتغير وفق ما يطرأ من مستجدات على مصالح لندن في المنطقة. فإذا ما قررت الصين توسيع نفوذها هناك، فلن تتردد المملكة المتحدة في إسناد التحالف الهندي، الياباني، الأسترالي، الأميركي المعني بالقضية ذاتها... بل ومن المتوقع تشكيل تحالف ثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وأستراليا لخدمة نفس الغرض. ولذلك، فإن ملامح الاستراتيجية النهائية هي كبح الجماح الصيني من خلال مزيد من الانخراط والتفاعل والمواجهة، والمحافظة في الأثناء ذاتها على حالة الوحدة القائمة مع البلدان الصديقة».
- تنامي الدور الفرنسي
تعمل فرنسا كذلك على ترسيخ وجودها في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وهناك قوات عسكرية فرنسية منتشرة بالفعل في المحيط الهادي. وفي عام 2017. شاركت القوات البحرية الفرنسية نظيرتها الأميركية، واليابانية، والبريطانية في إجراء مناورات عسكرية متعددة الجنسيات قبالة سواحل «جزيرة غوام» التابعة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية.
وقد أعربت باريس عن اهتمامها بالحفاظ على حرية الملاحة في منطقة المحيطين، كما أعربت عما يساورها من قلق غير مباشر بشأن تنامي الوجود العسكري الصيني في مناطق مثل بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. وتعتبر فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تملك وجودا عسكريا مستداما في تلك المنطقة. وفي عام 2016. صرح وزير الدفاع الفرنسي الأسبق لودريان أمام خبراء الأمن والدفاع الإقليميين خلال حوار شانغريلا في سنغافورة أن فرنسا تساند نشر الدوريات البحرية المنتظمة والمستمرة من قبل الاتحاد الأوروبي في بحر الصين الجنوبي. وأضاف الوزير الفرنسي قائلا: «تعبر القطع البحرية الفرنسية مياه هذه المنطقة مرات عدة من كل عام، وإننا مستمرون في القيام بذلك».
ولم يكن الاهتمام الفرنسي بالمنطقة وليد المصادفة. إذ يعيش أكثر من 1.5 مليون مواطن فرنسي في أقاليم وإدارات فرنسية خارجية منتشرة في تلك المنطقة، بالإضافة إلى 200 ألف مواطنا فرنسيا آخرين موجودين في مختلف بلدان المنطقة. كما تحتفظ باريس كذلك بمنطقة اقتصادية خالصة تبلغ مساحتها نحو 9 ملايين كيلومتر في نفس المنطقة، مما يجعلها ثاني أكبر المناطق الاقتصادية الأوروبية الخالصة في العالم.
ومما يُضاف إلى ذلك، أن فرنسا تعتبر شريكا استراتيجيا وثيق الصلة باليابان، وأستراليا، والهند، ومن أبرز محركات التفاعل الأوروبي في قضايا الأمن الإقليمي هناك، الأمر الذي يعني اعتماد الاتحاد الأوروبي لسياسات خارجية أكثر صرامة حيال الصين.
وحذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من تأثير النفوذ الصيني في البلقان بجنوب شرقي أوروبا. وأعرب وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل في مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقد عام 2018 عن قلقه العميق بشأن مبادرة الحزام والطريق الصينية، وقال خلال المؤتمر «إن الصين تعتزم تطوير نظام شامل لا يشبه نظامنا القائم، فهو لا يستند على أسس الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان».
- الصين تعزز الموانئ الاستراتيجية
منطقة المحيطين هي تلك المنطقة التي تتألف من المحيط الهندي وغرب المحيط الهادي. والمنطقة بكاملها بدءا من شرق أفريقيا، مرورا بشرق وجنوب شرقي آسيا، ثم بحر الصين الجنوبي، وتايوان، واليابان، وإندونيسيا، وأستراليا، تعتبر موطنا طبيعيا لأكثر بلدان العالم اكتظاظا بالسكان، والكم الهائل من الموارد الطبيعية، ومراكز الصناعة والإنتاج في آسيا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المحيط الهندي، مقارنة بالماضي، يحمل دلالات كبيرة فيما يتعلق بالتجارة الدولية. فهناك ما لا يقل عن 63 ميناء موزعة عبر مختلف المواضع في هذا المحيط الكبير، تلك التي يمكن الوصول إليها من خلال ثلاثة مضايق بحرية مهمة هي مضيق هرمز، ومضيق ملقا (المطل على نقطة بحر أندامان في المحيط الهندي إلى الجنوب من المحيط الهادي)، ومضيق باب المندب (الذي يربط المحيط الهندي من خلال البحر الأحمر وقناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط). ويشكل المحيط الهندي وحده ما يقارب 80 في المائة من عبور ناقلات النفط العالمية.
كما يطل المحيط الهندي على أغلب مناطق الصراعات في العالم، بما في ذلك فلسطين، واليمن، والعراق، وأفغانستان. وبالتالي، فإن الموقف الاستراتيجي للمحيط الهندي يلعب دورا حاسما ومحوريا في مستقبل أمن التجارة العالمية (أي الطاقة). ويكمن السبب الرئيسي وراء المستجدات والتطورات التي تشهدها ساحة المحيطين الهندي والهادي في إصرار بكين على توسيع مجال النفوذ البحري في المحيط الهندي وما وراء ذلك حتى البحر الأبيض المتوسط. وترغب الصين في تطوير إمكاناتها البحرية في المياه العميقة، وتعزيز الموانئ الاستراتيجية على سبيل التحكم النهائي في طرق التجارة وممرات الطاقة الآتية من الشرق الأوسط.
وعلق الجنرال الهندي المتقاعد بي كيه ماليك على ذلك قائلا: «تستعد الصين لعسكرة قواعدها في الجزر التابعة لها في بحر الصين الجنوبي. وهناك نزاع بحري قائم لدى بكين مع العديد من دول رابطة الآسيان. كما رفضت الصين قبول قرار المحكمة الدولية في ذلك الشأن». هذا وقد أعربت أستراليا عن قلقها إزاء وتيرة ومجال الأنشطة الصينية غير المسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادي. كما حذرت استراتيجية الأمن القومي بالولايات المتحدة الأميركية من استغلال الصين للمحفزات والعقوبات الاقتصادية، وعمليات بسط النفوذ والهيمنة، والتهديدات العسكرية الضمنية، في إقناع البلدان الأخرى في المنطقة للاستجابة إلى أجندة مصالحها السياسية والأمنية. وعلى نفس القدر من الأهمية، يأتي موضع الهند من جوهر الصراع على منطقة المحيطين الهندي والهادي.
ووفقا لما ذكره ألكسندر زيغلر السفير الفرنسي لدى الهند «يعد الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد من أهم وأكبر شركاء الهند في المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية. ولهذا السبب، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، اعتمد الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية الأوروبية الهندية المشتركة. وبالتالي صياغة عرض قائم أمام نيودلهي يهدف إلى تعميق شراكتنا الاستراتيجية بصورة أكبر». وعلاوة على ذلك، فإن تواتر الزيارات الرسمية رفيعة المستوى بين الهند، وفرنسا، وألمانيا، يعكس وبكل وضوح ما يجري في هذا الصدد. ففي العام الماضي وحده، كما استطرد السفير الفرنسي في الهندي، تبادل رؤساء البلدين الزيارات الرسمية، كما بودلت الآراء ووجهات النظر بشأن جملة من القضايا المهمة ذات الاهتمام المشترك، تلك التي كانت علامة إيجابية بارزة على العلاقة الناضجة والعميقة التي تجمع بين البلدين.