منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

«الشرق الأوسط» تستطلع موقع التفجير الانتحاري وخطوط الانتشار بين قوات دول كبرى

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
TT

منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)

على رصيف مستشفى الأمل وسط مدينة منبج التابعة لريف حلب الشرقي، أجهش رجل أربعيني بالبكاء بحرقة وحزن شديدين، بعدما آلت ابنته الصغيرة سحر ووالدتها إلى أشلاء. وضعوها في صندوق مخصّص للموتى، حيث إنهما لقيا مصرعيهما بالتفجير الانتحاري الذي وقع الأربعاء الماضي أمام مطعم قصر الأمراء وسط مدينة منبج راح ضحيته 15 قتيلاً، كان من بينهم أربعة أميركيين.
سحر كانت تبلغ من العمر 13 ربيعاً طالبة بالمعهد المتوسط. وبعد انتهاء دوامها الصباحي، ذهبت والدتها لتصحبها إلى المنزل خشية من الأوضاع الأمنية المتردية في مسقط رأسها منذ أشهر، لكن الموت كان أسرع من طريق العودة، فيما لم يتبقَ للأب المفجوع سوى الذكريات.
وبصوت مصحوب بالحزن وعيون تذرف الدموع، قال حسين والد سحر الذي خط الشيب شعره وذقنه: «يا ريت لو كنت معهم لحظة الانفجار وارتحت من هذا العذاب. ماذا بقي لي من أعزّ الناس على قلبي، ذكريات مثقلة والقليل من الصور التي سأبقى طوال حياتي أعيش بعذاب فراقها».
فالهجوم الذي وقع في مركز مدينة منبج بوضح النهار، كان الأكبر من حيث عدد القتلى الذين تعرضت له القوات الأميركية العاملة في سوريا منذ انتشارها هناك عام 2015، في مدينة تسيطر عليها «قوات مجلس منبج العسكري»، المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية والمنضوية في صفوف «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ويقول عبد الجيل (47 سنة) وهو سائق سيارة أجرة عمومي، الذي كان موجودا قرب مطعم قصر الأمراء لحظة وقوع الانفجار: «عادة تقوم دوريات أميركية بتفقّد أوضاع المدينة بعد تصاعد التهديدات التركية قبل أشهر، كانوا يتودّدون للسكان المحليين عبر شراء أطعمة ومشروبات محلّية، ولحظة دخولهم للمطعم قام الانتحاري بتفجير نفسه».
والهجوم تبنّاه تنظيم داعش بعد نحو شهر من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قراره في 19 ديسمبر (كانون الأول) بسحب قوات بلاده البالغ قوامها ألفي جندي من سوريا معلنا هزيمة التنظيم هناك.
وذكر الطبيب أحمد (40 سنة) الذي يعمل في مشفى الأمل الخاص وسط منبج، أنّ الحصيلة النهاية كانت مقتل 15 شخصاً، «كان من بينهم مقتل 4 أميركيين، جنديان ومترجم مدني ومتعاقد، إلى جانب مقتل عنصرين من مجلس منبج العسكري المرافقين لهم، فيما راح ضحيتها 9 مدنيين».
ويروي أنّه لحظة الانفجار كان متواجداً بالمشفى، وأضاف: «شعرت بأنّ نوافذ المشفى والأبواب ستتعرض للخلع من شدة الصوت، بعد لحظات بدأت تصل الجثث والمصابون، واستنفر الطاقم الطبي واستدعي كلّ الأطباء»، وبحسب الطبيب المناوب وصل يومذاك إلى المستشفى أكثر من 15 جريحاً، مشيرا إلى أنّ: «من بينها كانت هناك 5 حالات حرجة، إحداها فارقت الحياة عند منتصف الليل، لترتفع الحصيلة إلى 15 ضحية».
وتضم مدينة منبج ومحيطها قواعد ومقرات عسكرية لقوات التحالف لا سيما الأميركية، ونادراً ما تُستهدف بتفجيرات من هذا النوع، منذ طرد تنظيم داعش سنة 2016. والعملية الانتحارية فتحت باب التساؤل لدى المراقبين والمتابعين، ما إذا كانت واشنطن ستنفّذ قرارها بسحب قواتها من سوريا بحجة أنّ تنظيم داعش قد تمت هزيمته.
بينما نقل عبد الجبار (30 سنة) والذي يمتلك متجراً لبيع الألبان والاجبان، إنه ومنذ وقوع التفجير الانتحاري أغلق محله، لكنه عاد وفتحت من جديد وأعرب عن قلقه قائلاً: «حركة السوق ضعيفة وتكاد تنعدم البيع والشراء، وعلامات الخوف والقلق ارتسمت على وجوه الجميع».
وفي الآونة الأخيرة صعّدت تركيا من تهديداتها للقيام بهجمات على منبج لطرد القوات المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية منها، وكانت قد حشدت نحو 8 آلاف مسلح من الفصائل السورية الموالية لها على طول خط نهر الساجور، مهددة بالدخول إلى منبج خلال أيّام معدودة.
وأكد إبراهيم (57 سنة) والذي يمتلك متجراً للذهب وتحويل الأموال، أن غالبية سكان المدينة ليسوا مع دخول فصائل درع الفرات والجيش التركي، وقال: «ينقل أصدقاء من هناك لي صورة الفوضى التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرة درع الفرات، حروب وسرقة وخطف وسطوا بقوة السلاح، أما منبج تديرها قوة عسكرية منضبطة وجهاز أمني وإدارة مدنية تحظى بقبول من أبناء المدينة».

خوف ورعب
حركة غير اعتيادية في ساحة منبج المركزية وتحديداً أمام شارع مطعم قصر الأمراء. السادس عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري يوم غيّر معادلة الحياة في المدينة التي قد تشعل شرارة حرب عالمية ثالثة مصغرة. وارتسمت علامات الاستفهام والقلق على وجوه سكان المدينة، بعد وقوع عملية انتحارية راح ضحيتها مدنيون أبرياء وجنود أميركيون، مخلفة حالة من الفزع في قلوب الأهالي، وزادت حالة الحيرة والترقب بعد التقلبات الميدانية التي تعيشها المدينة ومنطقة شرقي الفرات.
وفي المطعم الذي تعرض للانفجار قبل أيّام، يقف عامل على سلم يقوم بتلبين الجدران التي تهاوت من شدة التفجير، فيما انشغل معلم الديكور بتنظيف سقفه الذي احترق معظمه، بينما كان عمال المطعم منشغلون بإزالة الركام والدمار، وكان يقف على مقربة منهم صالح اليوسف (32 سنة) صاحب مطعم قصر الأمراء يتابع أعمال الصيانة والإصلاح يشرف على العمال.
يروي صالح كيف أنه نجا بأعجوبة من العملية الانتحارية وموت محقق، وأنّ الدورية الأميركية كانت تأتي في الأسبوع مرتين لسوق المدينة، وكانوا يتبضعون يومي الأحد والأربعاء من السوق لشراء حاجاتها بعد الانتهاء من مهمتها، وقال: «أثناء عودتهم قصدوا مطعمي لتناول وجبة الغداء، وعندما وصل الأميركان ذهبت إلى المطبخ لتفقد طلبتهم، ووقع الانفجار وسقطت على الأرض من شدة الانفجار، وأغمي عليه وأسعفوني إلى المستشفى».
ونشر نشطاء وصفحات التواصل الاجتماعي الجمعة الماضي، مقطع فيديو أظهر لحظة وقوع التفجير الانتحاري والذي أودى بحياة جنود أميركيين و9 مدنيين ومقاتلين من قوات «مجلس منبج العسكري»، ولم يتم التأكد من هوية منفذ العملية وجنسه ما إذا كانت سيدة أو رجل، وتشرف قوات التحالف الدولي والولايات المتحدة الأميركية على سير التحقيقات.
ولم يخف صالح أنّ الحادثة تسببت بنشر حالة من الخوف والرعب بين الناس: «منذ 8 سنوات ونحن نعيش بين الموت، شاهدنا الموت بقصف الطيران الحربي والعبوات الناسفة والصواريخ وقذائف الهاون، لكنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لحادثة انفجار حزام ناسف»، مؤكداً أنّ الحياة ستستمر.
وأضاف: «كما تشاهد، نعيد ترميم المطعم ما جنينياه خلال عشرات السنوات دمر في لحظة، لكن نشكر الله ونحمده».
وكانت تعد منبج نقطة جغرافية مهمة في شمال سوريا، إذ استخدمها تنظيم داعش سابقاً لاستقبال وإرسال عناصره من وإلى سوريا، وخاصة أولئك القادمين من أوروبا وباقي أنحاء العالم، إلا أن «قوات سوريا الديمقراطية التي دعمها طيران التحالف الدولي تمكنت من طردها منذ عام 2016».
أما حسن (47 سنة) والذي كان منشغلاً بإصلاح واجهة ستوديو التصوير الذي يمتلكه، ويقع بجوار المطعم الذي تعرض للانفجار، يروي التفاصيل الأولى للحادثة، ليقول: «لحظة وقوع الانفجار كنت داخل المحل، تطايرت الشظايا بسرعة مثل الرصاص، وتعرضت النوافذ والأبواب للكسر من شدة الضغط، ركضت إلى المكان ولكني وجدت الجثث ملقاة في كل مكان»، ووصف اللحظات التي عاشها كأنه يوم الحشر، يضيف: «كأنها القيامة، فالجثث كانت متقطعة ولم يتبق منها سوى الأشلاء، كنت أركض فوق الموتى لأسعف الجرحى والمصابين على قيد الحياة، حملت أطفالاً بعمر الربيع كانوا يتنفسون أنفاسهم الأخيرة».
وسادت حالة من الخوف والترقب عند أصحاب المحال والأهالي الذين كانوا يتبضعون بالسوق المركزي لمنبج، ونقل الأهالي أنّ حركة المتسوقين وتنقلهم اقتصرت على شراء حاجات أساسية بعد تدهور الأوضاع الأمنية فيها.
يقول الصيدلي محمود (49 سنة) المتحدر من مدينة منبج، إنّ «الخيط الأبيض من الأسود بات ظاهراً للجميع، فالذين قاموا بالعملية ليسوا بشرا. من يستهدف المدنيين العزل ليس إنسانا، لأنه تسبب بمقتل 9 أبرياء لا ذنب لهم»، في إشارة إلى العملية الانتحارية التي تنباها تنظيم داعش المتطرف.
وأشار إلى أنّ سكان منبج والسوريين عموماً لم ينعموا بالاستقرار والأمان، وتابع حديثه ليقول: «بعد طرد (داعش) شهدت منبج ازدهاراً تجارياً وانتعاشا اقتصاديا، لكن منذ أشهر تحولت من جديد لساحة صراع تتنافس عليها جميع الجهات العسكرية المتصارعة»، ونقل أنّ سكان المدينة يخشون من عودة النظام ويعزو السبب إلى: «الكثير لم يخدم الجيش الإلزامي، وهناك نشطاء مطلوبون وهناك من عمل مع الجيش الحر و(داعش)، وحالياً مع الإدارة الذاتية. ففي حال عادت الأجهزة الأمنية هؤلاء بالدرجة الأولى يخافون من عودته».
وتعد مدينة منبج خطا اقتصاديا ساخناً تربط مدينة حلب البوابة التجارية لسوريا بطرفي نهر الفرات الشرقي والغربي منه، وممراً تجارياً يربط شمال سوريا بشرقه. وفي سوق المدينة، ينتشر عناصر من قوات الأمن الداخلي وشرطة المرور ينظمون السير رغم ضعف الحركة المرورية بعد الانفجار.
ويرى شوقي محمد الخبير في اقتصاديات الطاقة والنفط، أنّ الحالة السورية عموما ومنبج خصوصا، باتت معقّدة ولم يعد بالإمكان التكهّن بمجريات الأحداث، ويعزو السبب إلى «تقاطع مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين وتعارضها بالوقت نفسه على الساحة السورية».
ويرى أنّ التفوّق النوعي للعنصر الأميركي اليوم يجعل من الإدارة الأميركية الأكثر قدرة بالتحكم في سير الأحداث والضغط على باقي الأطراف، ويضيف: «لا أعتقد أن واشنطن ستنفذ قرار الانسحاب كما تشتهيه بعض الأطراف، ومردّ ذلك أنّ تهديد تنظيم داعش لا يزال قائما من جهة، والتهديد الإيراني وتوغله في الجغرافيا السورية من جهة ثانية».
وتقع منبج عند ملتقى ثلاث مناطق نفوذ منفصلة للروس والأتراك والأميركيين. وانسحاب القوات الأميركية قد يؤدي إلى مواجهة محتملة بين «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا، ويفتح الطريق أمام اتساع نطاق النفوذ الروسي والإيراني في المناطق التي ستغادرها القوات الأميركية.
فإعلان ترمب بسحب قوات بلاده من سوريا، جاء لتبيان حقيقة واقعية من وجهة النظر الأميركية، مفادها أن تواجد قواتها صمّام الأمان لهذه المنطقة بحسب الخبير شوقي محمد، الذي أضاف: «هي رسالة قوية للحكومة السورية وحلفائها إيران وروسيا، بأن انسحابها يعني دخول القوات التركية والجيش الحر إلى منبج، ورسالة بالوقت نفسه للجانب التركي بأنّ وجودها يعني عدم قدرة الجيش السوري السيطرة على المنطقة، وبالتالي عدم تمدّد النفوذ الإيراني لحدودها الجنوبية».

مجلس حكم
تتبع منبج مدينة حلب شمال سوريا، وتبعد عنها نحو 80 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي، كما تبعد 30 كيلومتراً فقط عن الحدود التركيّة. خرجت عن سيطرة النظام الحاكم في شهر يوليو (تموز) 2012، بعد أن حررتها فصائل من الجيش السوري الحر آنذاك، لتخضع صيف 2014 لسيطرة عناصر تنظيم داعش؛ لكن «قوات سوريا الديمقراطية» و«مجلس منبج العسكري» وبدعم من التحالف الدولي، تمكنوا من انتزاع منبج في 15 أغسطس (آب) 2016، وطرد عناصر التنظيم، بعد معارك عنيفة استمرت لأكثر من شهرين.
ومنذ بداية 2017 يتولى المجلس التنفيذي لمنبج وريفها إدارة المدينة، ويتشكل من 13 هيئة ولجنة خدمية، منها الصحة والتعليم وقوات الأمن الداخلي وهيئة العدالة وغيرها، وشكلت الإدارة جهازاً للشرطة وللمرور، يتلقى التدريب والدعم العسكري من التحالف الدولي.
ولدى حديثه إلى «الشرق الأوسط» قال محمد خير الشيخو، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي إنّ منبج جزء من سوريا تنتظر حلا شاملا، وقال: «الحلّ الوحيد هو جلوس السوريون على طاولة الحوار، لوضع حدّ للنزاع الدائر في بلدهم منذ 8 سنوات عجاف، لأنّنا نؤمن بالحوار السوري - السوري».
وقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تصريحات صحافية نشرت قبل يومين، إنّه أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اتصال هاتفي «استعداد تركيا لتولي الأمن في منبج السورية»، والتي شهدت مقتل أربعة أميركيين في تفجير وقع الأسبوع الماضي.
وفي رده على إعلان إنشاء منطقة آمنة، يقول محمد خير: «تركيا طالبت مراراً بمنطقة آمنة، والسؤال آمنة من أي طرف، تركيا تعتدي على الأراضي السورية وتحتل مناطق بريف حلب الشمالي وتصعّد من تهديداتها»، ونقل أنّ ميثاق مجلس سوريا الديمقراطية والمجلس التنفيذي يعمل تحت جناحيه، يتعهد بالحفاظ على علاقات حسن الجوار، منوها: «منذ سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية) على الشريط الحدودي لم يهدّد أي طرف الأمن القومي التركي، ولم تطلق رصاصة واحدة على الجانب التركي».
وأكد رئيس المجلس التنفيذي أنّ التحالف الدولي والولايات المتحدة تدعمان المجلس خدميا عبر مشاريع إعادة استقرار المناطق المحرّرة من قبضة تنظيم داعش، وقال: «حتى اليوم لم تتوقف البرامج المخططة، ولا يزال الأميركان متواجدين على مستوى الموظفين والعاملين في هذه البرامج»، لكن الخطط المستقبلية والتي كانت عادة ما تتم مناقشتها مع بداية كلّ عام جديد، لافتا إلى أنّه: «لم يتم طرح أي مشروع أو تخصيص موازنة لتنفيذ برامج، ولم يبلغونا رسميا بجدول زمني لانسحابهم من منبج».
وكشف رئيس المجلس التنفيذي عن وجود حوارات مع محافظة حلب التابعة للحكومة السورية لعودة دائرة السجل المدني إلى مدينة منبج، وقال: «الكثير فقدوا هوياتهم جراء الحرب، أو عمرهم صار بسنّ الحصول على بطاقة شخصية ورقم وطني، حتى تاريخية لم نصدر أي بطاقة شخصية، على عكس مناطق ثانية والتي أصدرت هويات ووثائق رسمية»، مرحّباً بعودة مؤسسات الدولة الخدمية والتي باتت ضرورية لتقديم التسهيلات لسكان مدينة منبج، على حدّ تعبير محمد خير الشيخو.
وتشدّد قوات الأمن الداخلي من إجراءاتها الأمنية خشية وقوع المزيد من العمليات الانتحارية. وفي مدخل منبج الشرقي يطلب عناصر من الأسايش (شرطة كردية) يلبسون زيا موحدا الهويات الشخصية وتتأكد من أصحابها، كما تسيّر قوات النجدة دوريات داخل المدينة وفي مخارجها الرئيسية، إلا أنّ ذلك كله لا يهدئ من نفوس السكان القلقين بعد الانفجار حيث تسبب بنشر حالة من الخوف والرعب.
ونقلت ساجدة البالغة من العمر أربعين عاماً وكانت تلبس ثوباً أسود وغطاء رأس ملونا، أنّ الأوضاع الأمنية في مدينتها تدهورت منذ تصعيد تركيا تهديداتها بشن عملية عسكرية.
وقالت: «بعد سواد (داعش) شهدت منبج حالة من الهدوء والاستقرار، كّنا بألف خير. فمنذ أشهر وفي كل مساء لا نعلم من هي الجهة العسكرية التي ستدخل المدينة باليوم التالي، والله أعلم». تقع مدينة منبج على الطريق الدولي السريع، حيث يربط مدينة حلب بالمحافظات الشرقية الرقة ودير الزور والحسكة، وتتقاسم السيطرة عليها ثلاث جهات عسكرية متصارعة:
القوات النظامية المدعومة من روسيا تسيطر على ريفها الجنوبي أبرزها بلدات الخفسة ومسكنة، فيما تسيطر فصائل «درع الفرات» بدعم من الجيش التركي على غرب نهر الساجور، بينما تسيطر قوات «مجلس منبج العسكري» على مركز المدينة وريفها الشرقي والشمالي المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ودعت قوات مجلس منبج العسكري الشهر الماضي القوات الموالية لدمشق لحماية منبج من هجوم تركي بعد تصعيد تهديداتها، وردت القوات الحكومية المدعومة من روسيا بنشر قواتها خارج المدينة، وتسيّر روسيا والقوات النظامية دوريات مشتركة على الحدود الفاصلة بين مناطق التماس الخاضعة لطرفي الصراع هناك، ويتقاسم «مجلس منبج العسكري» شرق نهر الساجور، فيما تسيطر «قوات درع الفرات» والجيش التركي على غرب النهر.
وعن عدد عناصر القوات الحكومية، قال علي أبو نجم نائب القائد العام لـ«مجلس منبج العسكري»، إن «عددهم لا يتجاوز 300 عنصر، ومعظمهم على خط التماس مع فصائل (درع الفرات) على الحدود الإدارية الفاصلة بين منبج وجرابلس - الباب، ومنطقة العريمة فقط». وأكد أنه خلال الاجتماعات الرسمية مع التحالف الدولي وأميركا: «لم تذكر جدولا زمنيا لانسحابها من منبج وشرق نهر الفرات، ولا تزال قوات التحالف تسير دوريات على طول خط التماس شرق نهر الساجور، في حين تسير روسيا والقوات النظامية دورياتها في مدينة العريمة حتى نقطة التقاء الساجور مع العريمة».
وذكر أن مجلسي الباب ومنبج المتحالفين مع قوات سوريا الديمقراطية، وبالتنسيق مع قوات النظام، «نشروا 5 نقاط مراقبة داخل العريمة، حتى المثلث الفاصل بين الجيش التركي وروسيا وأميركا»، منوهاً بأن القوات النظامية وروسيا كانت متواجدة سابقاً في العريمة، لكنها انسحبت قبل 6 أشهر: «اتصلنا مع الروس عبر قاعدة حميميم وطلبنا منهم بشكل رسمي عودة نقاط المراقبة ودخول الجيش السوري لحماية الحدود الفاصلة من التهديدات التركية».
وفي بدايات عام 2017، تشكل مجلس منبج العسكري من أبناء المدينة من العرب والأكراد وتلقى استشارات وتدريبات عسكرية من التحالف الدولي، وأعلن المجلس في بيان رسمي نشر على حسابه أمس أنه سيواصل العمل لـ«إحباط كل المؤامرات التي تستهدف إعادة الفوضى وضرب الأمن والاستقرار». ويبلغ عدد سكان منبج حسب الأرقام الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء عام 2004، ما يقارب 100 ألف نسمة، إلا أن هذا العدد تضاعف مرات عدة بعد نزوح السكان من المناطق المجاورة إليها مثل حلب وكوباني (عين العرب) وعفرين وغيرها من المدن السورية التي شهدت دماراً واسعاً.
ونقل صالح اليوسف صاحب مطعم «قصر الأمراء»، أنّ الانتحاري أو الانتحارية الذي استهدف الدورية الأميركية: «إذا كانت أميركا خصمه لماذا لم يذهب إلى مكان أو نقطة عسكرية واستهدفهم، لماذا نفذ العملية وسط شارع مزدحم راح ضحيته المدنيون وسقط 9 أغلبهم نساء وأطفال»، وفتح المطعم: «رسالة للجهة التي نفذت العملية والتي وقفت خلفها، لن تثنينا هذه العمليات، سنواصل الحياة بهمة وسواعد هؤلاء الذين يساعدونا في إعادة افتتاح المطعم».



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.