عبد الله السعداوي.. أجمل غريق في بحر المسرح

أسس خروجا على نمط «مسرح العلبة» الإيطالي السائد باتجاه مسرح مفتوح

السعداوي في أحد أدواره
السعداوي في أحد أدواره
TT

عبد الله السعداوي.. أجمل غريق في بحر المسرح

السعداوي في أحد أدواره
السعداوي في أحد أدواره

«أذكر في سنين طويلة مرت ما زالت في ذاكرتي، في يوم ما وجدت أن لا معنى للحياة، لا معنى لهذا الوجود، وفجأة (شعرت) أن كل شيء صار مظلما.. (حيث) لا مسرح.. بحثت، وبحثت، وبحثت، لعلي أجد مسرحا، فلم أجد.. فكرت أين أذهب؟
فلم يكن أمامي إلا جسر المحرق.. وقفت عند هذا الجسر.. ونظرت إلى البحر، فوجدته المكان الوحيد الذي يمكنه أن (يضمني)..
لم أكن أعرف السباحة، وكانت مغامرة (بالطبع).. لم أكن أحب الموت.. لكن في لحظة ما قررت أن أنتحر.. فقذفت بنفسي في البحر.
فجأة فتحت (بصري).. رأيت نفسي على الشاطئ، وإذا بوجوه تحلق حولي.. وبعضها أراه في صالة المسرح، انتشلتني من هذا الغرق.. فصرت أجمل غريق في هذا العالم، وصار هؤلاء أجمل منقذين في هذا العالم.. فكيف يمكن للغريق أن يقدم هؤلاء المنقذين؟!
كل ما أقوله لهم: حين وضعتم شفاهكم على فمي لتمنحوني قبلة الحياة ونفختم الهواء في رئتي.. شعرت أن لهذه الحياة معنى.. وأعتقد أن الحياة من دون مسرح، ليس لها معنى..!».
بهذه الكلمات يعبر الفنان والمخرج المسرحي البحريني عن شغفه بالمسرح. علاقة تقترب من «الفانتازيا» تجمع بين السحر والخيال، وبهذا الوصف الذي تحدث عنه في فيلم ختام مهرجان الصواري التاسع أكتوبر (تشرين الأول) 2013، يعكس المكانة التي يحتلها المسرح في المنظومة الثقافية للمجتمع البحريني.
السعداوي، الذي يعد من أهم المسرحيين الخليجيين (مواليد البحرين 1948) هو مخرج وكاتب سيناريوهات مسرحية، وناقد في مجال السينما والمسرح والأدب والقضايا الفكرية المتنوعة، بدأ حياته الفنية في العام 1964 من خلال الانفتاح على المؤلفات المسرحية العالمية، وحصل على جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة التجريبي عن مسرحيته (الكمامة). وهو عضو مؤسس في مسرح الصواري. وكانت التجربة الأولى للفنان عبد الله السعداوي هي مسرحية قام بتأليفها وهي مسرحية «الحمار ومقصلة الإعدام» وقام بإخراجها الفنان جمال الصقر تحت عنوان: «مؤلف ضاع في نفسه»، وفي العام 1970 شارك في تمثيل أول مسرحية على نطاق المسارح الأهلية البحرينية، وهي مسرحية «أنتيجونا».
سافر إلى قطر، وشارك في تأسيس مسرح السد مع الفنان القطري غانم السليطي وعدد من الفنانين، وفي العام 1975 سافر إلى دولة الإمارات، وشارك في تأسيس مسرح الشارقة مع عدد من الفنانين الإماراتيين، والتقى حينها الفنان العراقي إبراهيم جلال، الذي أثر في مسيرة السعداوي الفنية.
أخرج الكثير من الأعمال المسرحية منها: «الرجال والبحر» لعوني كرومي 1986، «الصديقان» لمحيي الدين زنكنة 1987، «الجاثوم» ليوسف الحمدان 1989، «الرهائن» لعصام محفوظ 1990، «اسكوريال» لميشيل دي غيلدرود 1993، «الكمامة» لألفونسو ساستري 1994، «القربان» لصلاح عبد الصبور 1996، «الطفل البريء» لبريم تشند 1999، «الكارثة» لعبد الله السعداوي 2002، «الستارة المغلقة» لمحمد عبد الملك 2003، «ابني المتعصب» لحنيف قريشي 2003، «بورتريه» لغالية قباني 2003، «الحياة ليست جادة» لخوان رولفو 2003، «الساعة 12 ليلا» لعبد الله السعداوي 2004.
«الشرق الأوسط» تستعرض آراء عدد من النقاد المسرحيين الخليجيين عن مسيرة وتجربة الفنان المسرحي البحريني عبد الله السعداوي، في التحقيق التالي:
د. حسن رشيد : ريادة مسرحية
تجربة المبدع المسرحي البحريني تجربة ثرية، وإذا كنا نتحدت عن تأثير عدد من المسرحيين في الحراك المسرحي الخليجي، فإن تجربة هذا الرائد تجربة لم تتوقف عند نقطة محددة، وإذا كان التاريخ المسرحي في دول الخليج يتذكر على، سبيل المثال لا الحصر، تجارب صقر الرشود، وعبد الرحمن المناعي، وناجي الحاي، وعبد الكريم جواد، وغيرهم.. فإن ما يميز تجربة السعداوي استمراريته حتى الآن، ولم تقتصر تجربته على خوض غمار التجريب حتى حصد فرس الرهان وسط دهشة العالم ذات يوم في قاهرة المعز عبر فعاليات المسرح التجريبي، ومن هنا كان ثراء التجربة لديه:
أولا: في التنوع والابتكار وعدم الجمود عند نقطة محددة، أو شكل ممسرح واحد.
ثانيا: إن ثراء هذه التجربة لهذا الفنان تكمن في أنه يحمل عصا الترحال ويلبي الدعوة عبر كل المدن الخليجية محاضرا ومدربا ومحفزا للأجيال.
السعداوي مخرج خليجي، عربي، ذو نزعة عالمية، وما يميزه قدرته على إعادة صياغة الأعمال حسب رؤيته، وهو بهذا يبتعد عن النماذج التي لا تخلق إطارا إبداعيا مع النص، أما عن كونه يحمل روح الفنان فيتجلى في الإيثار والارتماء في حضن المسرح، بل إن السعداوي جزء من حراكنا المسرحي، وهو الجندي المجهول الذي يحمل عصاه في كل معركة مسرحية، ممثلا، مخرجا، معدا، ناقدا، باحثا، وفي إطار الإيثار دعمه لكل الأجيال المتعاقبة.
أما فيما يخص تجربته وتنوعها، فمن المؤسف أنه لم تقدم في دول الخليج دراسة حقيقية عن ثراء تجربته، فعلى الرغم من أنه منذ السبعينات قد حمل عصا الترحال إلى قطر وساهم مساهمة فعالة في خلق مسرح السد، بل ساهم في بلورة أفكار عدد من المنتمين إلى حركة المسرح القطري مثل غانم السليطي، محمد البلم، فالح فايز وغيرهم، ولم يتوقف قطار الحركة عند هذا المبدع في قطر، بل ساهم بدوره في الحراك المسرحي في دولة الإمارات.
أما في البحرين فإن التأثر به واضح وجلي عبر إسهامه في ترسيخ مدرسته ورؤيته وتجاربه المسرحية، ليس فقط عبر الدراسات والبحوث والدورات والورش أو كما يفعل في المنطقة الشرقية في المملكة، بل إن أعماله علامات فارقة في مسار المسرح البحريني مع قلة الدعم المادي.
ولذا، فإن السعداوي جزء من حراكنا المسرحي، بل هو جزء مهم، لأن دوره واضح الملامح بلا ادعاء، وهو بجانب ذلك لم يتوقف عن تجارب معينة، بل إن إنجازاته الأهم كما يقول لم تأت بعد، وهذا ما يشعرنا بأننا أمام فيلسوف خليجي في مجال اللعبة المسرحية، وقد يؤخذ عليه أن نجاح تجاربه في إطار التجريب قد أغرى من لم يقرأ بخوض غمار التجارب دون وعي. وهنا نقول وما ذنب السعداوي المسرحي المثقف الذي خلق طوال ما يقارب من نصف قرن تاريخا مشرفا لمعنى المخرج في المسرح، وفي تأكيد هوية لمسرحنا عبر الكثير من الفعاليات عبر كل المدن والعواصم.

(*) ناقد ومؤلف مسرحي قطري

* عبد العزيز السماعيل: مسرح مفتوح
* أستطيع القول بكل ثقة إن عبد الله السعداوي أكثر المسرحيين الخليجيين شغفا بالمسرح وإيمانا برسالته وأهميته.. منذ أن عرفته في مسرح الصواري في تسعينات القرن الماضي وهو يعمل ويتعامل مع كل تجربة مسرحية له كحالة جديدة منفتحة بقوة على كل الاحتمالات الفنية، حتى يمكن أن نصف مسرحياته بأنها تعد ولادات جديدة في حياة المسرح البحريني، فكنا نحضر ونتابع تجاربه في كل مرة لاكتشاف المسرح والسعداوي معا.
لقد أسس السعداوي خروجا قويا على نمط «مسرح العلبة» الإيطالي السائد، باتجاه مسرح مفتوح بلا حدود، واستلهم نصوصا وروايات عالمية لم نعهدها في المسرح من قبل، فقدم السعداوي مسرحا خليجيا جديدا وجريئا في الطرح وفي أسلوب العرض، إلا أن تجربة مسرح الصواري لم تستمر للأسف بالإيقاع والحماس نفسيهما التي بدأت بهما في بداية التسعينات، وتراجع عطاء السعداوي في الإخراج والتمثيل تبعا لذلك.. ولا أعرف الأسباب.. إلا أن عبد الله السعداوي ظل المسرحي الأكثر حبا للمسرح في الخليج.

(*) مؤلف ومخرج مسرحي سعودي، مدير عام الجمعية العربية للثقافة والفنون

* أثير السادة: اللغة كمسرح
* بقدر ما يقترب الفنان البحريني عبد الله السعداوي من المسرح نجده يحرض على الافتراق عنه في تجارب ونصوص مسرحية تجادل كل شيء حتى خصوصيتها الفنية، فهي حبلى بمغامرات اللغة ومغامرات البناء الفني التي تصيبها مرات حالة من حالات التشظي، فيما يبدو هاجسا مشتركا يدفع بالسعداوي إلى فسحة من التحولات الجمالية المستمرة.
هذه الرغبة للمغايرة، للخروج عن لحظة التوازن الشكلي، تمثل مفتاحا لتبيان أحوال النص المسرحي عنده، هذا النص الذي تحتشد فيه الكثير من هواجس السعداوي التي تستدرجنا غالبا لمواجهة اليومي والسياسي في صور مفرطة في سيرياليتها؛ حيث لا نهايات تقليدية، ولا إحساس بتلازم الأفعال والمشاهد، ولا حتى ردات الفعل أحيانا، كل شيء ينطلق باتجاه إحداث انتباه مشبعة بالأسئلة عن درامية الأشياء من حولنا، وعن قيمتها.
من يقرأ السعداوي نصا يمكنه أن يلحظ توقه الدائم للتواصل روحيا، وصورة العبث «البيكيتي»، ذلك الذي حرك في لغة المسرح كل إشكالاتها، وراح يلعب على حافة اللغة، لتصبح اللغة ذاتها مسرحا محتملا، يتهدد يقين المسرح السائد وسحرية الطقوس فيه. السعداوي الذي تنبه باكرا لفاعلية اللغة حتى وهو يختبر وعينا الجمالي بالصورة بصفته مخرجا، يتواطأ هنا مع اللغة لفضح الواقع، لاستثمار الحضور المستفز للغة في الكشف عن هزيمة الواقع أمام استحقاقات الحلم، جاذبية النص «السعداواتي» هو في تلذذه بالتدوير اللغوي الذي يكفي لمضاعفة الإحساس بقبح الأحداث وعبثيتها، كأنها المقابل لقدرية الأشياء، وسيرها الأعمى باتجاه النهايات الموجعة.
نصوص السعداوي تبدو منحازة إلى الإنسان في هواجسه اليومية، في أحلامه المؤجلة، في هزائمه السياسية، وفي أسئلته الوجودية، وحتى في لغة النص التي ترتدي عباءة المحكي واليومي، لتصبح أكثر امتلاكا للقدرة على التعبير عن مزاج الفرد العادي، وفي خياراته الفنية التي تجعل كثيرا من نصوصه قابلة للتنفيذ في أي مكان.
سنقرأ (مثلا) عن العلاقة بين السيد والعبد في نص «حد الموال»، علاقة سيقرر السعداوي فيها أن أمل السيد أقوى من يأس العبد، في سياق لعبة مسرحية تعاود اكتشاف المسرح داخل المسرح، والشخصية داخل الشخصية.. وسنقف عند حدود العلاقة بين الوطن والاستعمار، والحرب والسلام، والحياة والموت في نص «الضفة الأخرى من الجنة»، النص الذي يركض بنا مع شيخوخة الشخوص بلا فواصل إلا فاصلة الحرب وصفارات الإنذار، صفارات الخوف التي تشبه القيامة، كما سيستدعي نداءات المناضل الهندي الأحمر في «روح جرينمو»، لا نعرف شيئا في هذا النص أكثر من الحوارات التي تمسك بأنفاس الحدث، تنخفض كل احتمالات الدراما لصالح إضاءة الطريق إلى تاريخ مظلم من المفارقات الإنسانية التي تحفل بها السياسة الأميركية، هنا نطالع المناضل هنري ديفيد ثورو، الجنرال سمولي بتلر، نورمان فنكلستين المفكر اليهودي المدافع عن القضية الفلسطينية، درايتون، هنري كيسنجر، وقائمة من الأسماء التي سترفع بمرافعاتها من سردية النص الذي بحسب الإرشادات الإخراجية يحفل بالكثير من التوظيف لمشاهد فيلمية وشرائح عرض وصور فوتوغرافية.
السياسة تلتهم كل شيء..! هذا ما يقرره السعداوي في مفتتح نص «المعرض»، الذي يؤكد فيه انغماسه في هذا الشاغل الذي يصبح طبقا لكل شيء، التاريخ هنا يصبح كطواحين الهواء في سيرة حب لعجوزين، يصعد وينزل بذات النول، نذهب إلى الأمام والخلف، نستدعي ماضي سيرة حب مؤجل، وفي دفاتر الانتظار حكايا عن الهواجس اليومية، والطائفية والديمقراطية وبقية مفردات الطحن السياسي.
ينجح السعداوي غالبا في خلق نهايات ترمي بنا في أتون الصدمة، فمن بين زحام الاحتمالات يباغتنا السعداوي بمواعيد مع الموت، مع الفقد، مع اللاجدوى، ومع المفارقات المضحكة، سنعرف معها ذلك الحس السيريالي الذي يغلف روحه المسرحية، وفي نص «المعرض» تصبح صدفة اللقاء بين الاثنين في معرض للصور صدفة مضاعفة، أشبه بمبالغات الأفلام الهندية، نكتشف في نهاية النص أنهما العشيقان نفساهما اللذان افترقا في هامش معرض للصور قبل 30 سنة، وأن الأبوين اللذين حالا دون اكتمال قصة الحب ماتا في ظروف مشابهة، وهي الانزلاق بقشرة موز!.
نص «فجأة لم يهطل المطر» كبقية نصوص السعداوي لا يخلو من مقاربة لقضايا السياسة، هو مأخوذ دائما بنقد تلونات المال والإعلام والسياسة، هنا نطالع في النقطة 16، والنص مجزأ إلى 19 نقطة، هي بحسب السعداوي نوافذ النص، نطالع حديثا عن الفقر في العالم وعن الاحتكار وعن المطاردات، وذلك ضمن حوارات لا تنتمي إلى لحظة، ولا تجهد إلى بناء حدث، تشيخ ببوحها حتى تصل إلى النهاية، نهاية يغفو فيها الأمل بالنهايات الجميلة، نهاية كالحة، يقتل فيها الواحد منهم الآخر بالرصاص، مع لوحة خاتمة يظهر فيها جسد امرأة جميلة داخل صندوق زجاجي مليء بالماء، يترك فيها السعداوي سقف الدلالة مفتوحا للمتلقي كي يقرر إن كانت في وضع استحمام أو غرق!.
يحرضك النص على الانتظار من أول لازمة «خمسون سنة»، إلى أكثرها قدحا لشرارة التأويل في قوله «خل الغيمة تمر»، مرات كثيرة شاهدنا الغيمة وهي تمر فوق رأس الشاب الوسيم، صورة كثيفة نعاينها كمفتاح أول من مفاتيح النص الذي يشتهي البوح ولا يشتهيه، يومئ إلى خواطر من أحداث دون أن يكمل بناؤها، إلى دقائق من العمر التي ابتلع نصفها النسيان في لحظات ألزهايمر.
كما يتصاعد الجدل حول الحب والخيانة في نص «قهوة ساخنة» الذي يرسم إيقاعه من خلال أغنية البداية، أغنية بها حديث عن الموت والحب، الأمر الذي سيدفع بالحوار بين شخوص النص: رجل وامرأة إلى الوقوف على أطراف السؤال عن ماهية الحب والإنسان، حب سنعرف مبكرا أنه تولد عن لحظة حوار إلكترونية، ليصبح معها النص قراءة نفسية في أحوال التواصل الإلكتروني، محاولة لاختبار فاعلية الإنترنت في توليد فضاءات عاطفية متوهمة.
هذه النصوص لا تختصر كل شيء عن السعداوي، خصوصا أنها تحملنا إلى صورته بوصفه مؤلفا فقط، لكنها تأخذنا إلى أكثر الأسئلة الجمالية والفلسفية وطأة على ذاكرته، إلى مزاجه الفني مباشرة، تطوف بنا في مساحة من الوعي المسرحي المختلف، وعي شديد التعالق بالحياة، وبالرغبة في الاختلاف.

(*) ناقد مسرحي سعودي

* عباس الحايك: رمز المسرح الخليجي
* بعد سنوات من العمل والإخلاص والبحث في عوالم المسرح، تحول عبد الله السعداوي إلى رمز بل أيقونة للمسرح الخليجي، فالرجل الذي قدم للمسرح الخليجي تجارب مسرحية مثل «القربان»، و«الكارثة»، و«الكمامة» التي حقق بها جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، «اسكوريال»، و«متروشكا»، و«الصفحة الأولى من الجريدة»، وغيرها من عروض مسرحية تحولت إلى علامات بارزة، يمتلك مهارة التنقيب في خبايا المسرح، يكتشف من ذاكرة المسرح ليستشرف مستقبله، فتأتي أعماله المسرحية على تماس مع الواقع الذي نعيشه بكل تفاصيله، إحباطاته، أوجاعه.. فعيناه تريان بوضوح ما يدور في هذا العالم.
ما يميز السعداوي هو تجاوزه للتقاليد المسرحية الكلاسيكية وخروجه عنها، وهي ما تشكل مفهومه للتجريب، فالتجريب هو حالة هدم وبناء، ففي مجمل مسرحياته يتجاوز السعداوي العلبة الإيطالية، ليؤثث مكانه المسرحي؛ مما لا يخطر ببال؛ حيث قدم مسرحياته في قلعة البحرين، أو في بيت قديم، أو مدخل معرض الكتاب، أو في صالة فنون تشكيلية، أو تتعدد الأمكنة في مسرحية واحدة كما في «الصفحة الأولى من الجريدة» من مواقف الصالة الثقافية، البحر المحاذي للصالة، بهو الصالة ثم الصالة نفسها؛ حيث حرك المتفرجين مع مشاهد مسرحيته. السعداوي لم يتميز فقط كمخرج، بل تميز بنصوصه الإشكالية التي نبشت في قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية، وفضحت الزيف الذي نعيشه بكل جرأة. السعداوي أيقونة للمسرح الخليجي، ليس بملامحه ولحيته الكثة وبساطة هيئته، ولكن بإخلاصه للمسرح وانشغاله الدائم بهذا العالم الخصب، وأيضا بقربه لكل المسرحيين، خصوصا المسرحيين الشباب الذين كسر معهم كل الحواجز، صادقهم واقترب منهم، رغم سنوات عمره إلا أن له قلبا شابا وعنفوان شاب؛ لذا تجده يضج طاقة مسرحية تتجدد.

(*) كاتب مسرحي سعودي



أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي
TT

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

يأتي كتاب «رولان بارت في المغرب» (دار توبقال - 2024) للمعطي قبال، ليضيء جانباً من سيرة الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 - 1980)، بالتحديد المتعلقة بالسنة التي أمضاها مدرساً بجامعة محمد الخامس بين (1969 - 1970) بدعوة من الشاعر والروائي الفرانكفوني مرسي زغلول الذي رأس قسم الآداب واللغة الفرنسية بهذه الجامعة مدة عشر سنوات.

ويتألف الكتاب من مجموعة من المقالات التي يبدو أنها كُتِبَت على مراحل متباعدة، بحكم التكرار الذي وسم بعضها، وكان يمكن تفاديه في سياق المراجعة النهائية والشاملة. على أن الوحدة الناظمة لهذه المقالات شخصية رولان بارت وما تركه من أثر مدرساً في هذه الجامعة، إذ أحدث نقلة في منهجية التدريس وطريقة قراءة النص الأدبي وفهمه وتأويله معتمداً المنهج النقدي البنيوي مذهباً جديداً ناهض الأساليب الكلاسيكية القديمة في تحليل النصوص. والواقع أن هذا التوجه الجديد، على الرغم من فترة الغليان السياسي التي طبعت الحياة الاجتماعية والثقافية في المغرب، ظل حاضراً وإلى اليوم، وهو ما تحقق توثيقه في هذا الكتاب، سواء في الحوار الذي أجراه الكاتب المغربي عبد الله بونفور الذي يعد من أوائل الطلبة الذين درسوا على يد بارت ولازموه على امتداد المرحلة التي أمضاها في المغرب، وضم كملحق في آخر الكتاب، إضافة إلى ترجمة مجموعة من آثاره ومقالاته النقدية من طرف أدباء وكتاب مغاربة عرفوا بكفاءتهم في حقل الترجمة.

وبذلك، فإن كان كتاب «رولان بارت في المغرب» يذهب - كما سلف - إلى تدوين سيرته في المغرب، فإنه ينفتح نسبياً على تفاصيل أخرى ترتبط بهذه السيرة، إن لم يكن بحياة بارت وشخصيته المتعددة الاهتمامات الأدبية والنقدية.

المتوسطي والعابر

إن أول ما يطالعنا في شخصية بارت الولع بالسفر، سواء إلى دول غربية أو عربية، بحكم الوظائف التي تقلدها، أو بحثاً عن المتعة وتقصياً للعلامات التي تتفرد بها المجتمعات وتشكل خصوصيتها. ويذهب المعطي قبال إلى أن ولع السفر ارتبط بفضاء المتوسط. ولذلك وُسم بارت بـ«المتوسطي والعابر»:

«المتوسط بحر، وهو أيضاً ينطق بتاريخ البداية ومنشأ الأساطير، الديانات، الحكايات، الحروب. المتوسط هو أيضاً مشهد يطفح بالعنف وبالشعر. والمتوسط مولد التراجيديا بمعناها الفلسفي والملحمي». (ص/13)

على أن من الدول الغربية التي حظيت باهتمام رولان بارت كانت اليونان. ويعود ذلك لشغفه بالحضارة الإغريقية القديمة، وتكريس جانب من الممارسة النقدية لفن المسرح. على أن ما يضاف لهذا الاهتمام الأدبي الوقوف على الهوامش التي تتشكل منها البنية الاجتماعية:

«لذا يبقى الإغريق بحسبه هم أسياد التاريخ، وفي كتاب أسطوريات يستهل الكتاب بنصوص تعرض علينا مشاهد مسرحية مثل لعبة الكاتش، التصوير أو الفوتوغرافيا، بل حتى كلام الأسطورة هو كلام ممسرح». (ص/31)

وأما إيطاليا فحصر عنايته بها في عصر النهضة، فركز على مختلف الأجناس الأدبية والفنون: الشعر، الموسيقى، الرسم والتشكيل. بمعنى آخر كما يرى المعطي قبال إن عنايته توقفت عند جمالية المتوسط دون أن تمتد لإيطاليا المعاصرة:

«... وبكلمة واحدة، إيطاليا الفنون والآداب قبل أن تترك مكانها لإيطاليا المعاصرة: أمبرتو إيكو، ماريا كالاس، فيلليني، أنطونيوني، بيراندللو، بازوليني وسواهم». (ص/ 31)

بيد أن صورة بارت المتوسطي، تقتضي عدم الغفل عن زيارته لليابان التي تردد عليها ثلاث مرات منذ 1966. وتعد المرجعية التي اعتمدها في قراءة وتأويل العلامات التي يتشكل منها فضاء الاجتماعي والثقافي. والأصل أن التوجه هو ما حذا به إلى ربط اليابان بالكتابة، إذ لما سئل: «لماذا اليابان؟»، رد بالقول: «لأنه بلد الكتابة» (ص/ 33).

وأما عربياً، فيشير المؤلف إلى زيارة بارت لمصر، حيث اشتغل موظفاً بمكتبة الإسكندرية، بينما زار عابراً الجزائر وتونس.

توظيف اللسانيات

لم تكن السنة التي أمضاها رولان بارت أستاذاً بجامعة محمد الخامس بالرباط، وحدها الفرصة التي أتيحت بغاية التعرف على المغرب، بل نجده يتردد عليه منذ 1960 وإلى غاية 1977 بهدف السياحة والتعرف على أصدقاء. من ثم زار أكثر من مدينة مغربية، وبالضبط طنجة التي ضمت في تلك الفترة جماعة «البيت» التي تشكلت من أمريكيين وأنجلوساكسونيين. وأما في 1964 فسيزور مراكش برفقة ميشيل فوكو، كما تعرف على أزمور والجديدة.

على أن السياق الذي دُعي فيه رولان بارت للتدريس الجامعي اتسم بأحداث بعضها سياسي، وآخر اجتماعي. هذه الأحداث رسمت صورة عن مغرب تلك المرحلة. يقول المعطي قبال:

«المغرب المقصود هنا هو مغرب الستينات وبداية السبعينات. شهد البلد في 30 من شهر يونيو عام 1969 تسليم إسبانيا منطقة إفني، حدوث زلزال، بدء المفاوضات مع المجموعة الأوروبية، تحقيق قفزة على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي، تكريس الدرهم كعملة رسمية». (ص/ 9)

والواقع أن هذه الصورة لم تؤثر على مسار الدرس الجامعي الجديد الذي أحدث كما سلف نقلة في التعامل مع النصوص العالمية قراءةً وتأويلاً. فإذا كان هدف هذا الدرس اتسم فيما مضى بتقليديته حيث ركز أساساً على تاريخ اللغة الفرنسية، إلى استنطاق المعاني اللاهوتية والقومية، فإن توظيف اللسانيات وعلم العلامات أسهم في تقريب النص من المتلقي الذي لم يكن يمتلك مرجعية تخوله تجديد آليات القراءة ومسايرة مستجدات التحليل الذي أرسى بارت أسسه، حيث درس مارسيل بروست، جول فيرن وإدغار آلان بو. يقول عبد الله بونفور في الحوار الملحق بالكتاب:

«أدين لرولان بارت كونه لقنني وجود علاقة بين المتعة والقراءة بصفتها اشتغالاً». (ص/ 94)

والواقع أن تأثير بارت الذي راكم في تلك المرحلة أو ربما قبلها أكثر من أثر أدبي ونقدي، بل خاض صراعات أدبية في فرنسا (نموذج صراعه مع ريمون بيكار المثبت في كتابه «نقد وحقيقة») قد قاد إلى ترجمة نماذج من هذه الآثار على يد مترجمين مغاربة أكفاء:

«الدرجة الصفر للكتابة» ترجمه محمد برادة، «علم الأدلة» و«س/ ز» وترجمهما محمد البكري، «درس السميولوجيا» عبد السلام بنعبد العالي، «الغرفة المضيئة» إدريس القري و«لذة النص» فؤاد الصفا.

ولم يكن أثر بارت مباشراً وحسب من حيث كونه الأستاذ الجامعي المدرس، وإنما غير مباشر في حال نقل وترجمة آثاره، علماً بأن المترجمين المغاربة لم يتفردوا بترجمته، وإنما أسهم السوريون والعراقيون والمصريون أيضاً في التعريف بآثار بارت. على أن التلقي الفاعل والمنتج كان مغربياً، حيث عُرف عن المغاربة في أكثر من محفل أدبي كونهم نقاداً وليسوا مبدعين.

يقول قبال:

«كان رولان بارت إذن، بالنسبة لجيلنا ولجيل بأكمله من الطلبة العرب، أيقونة فكرية وأدبية دامغة في المشهد الثقافي المغربي والعربي بشكل عام». (ص/ 6)

وانعكست النقلة النقدية في القراءة، الفهم والتأويل على اللغة، وكما يرى المؤلف جرى تداول معجم نقدي جديد تشكل من مفاهيم ومصطلحات لم تكن مألوفة على مستوى الخطاب النقدي، مثل: «اللذة»، «المتعة»، «النص»، «التناص»، «الخطاب العاشق»، «العلامة» و«الدلالة».

مفارقة

تتمثل المفارقة التي يثيرها الأستاذ المعطي قبال في كون بارت لم يهتم بالأدب المغربي الحديث المكتوب باللغة الفرنسية لأسماء وازنة كإدريس الشرايبي، ومحمد خير الدين ومصطفى النيسابوري، على الرغم من أن هذه الأسماء فرضت قوة حضورها داخل الوسط الأدبي بفرنسا. وبذلك فإن ما أولاه عناية الفضاء الأدبي الضيق الذي عاش فيه، والمتمثل في طلابه ومن ربطته بهم علاقة؛ مثل عبد الله بونفور، عبد الكبير الخطيبي، محمد عزيز الحبابي وزغلول مرسي. وقد يعود عدم الاهتمام إلى الحظوة التي كرسها بارت للنصوص العالمية. وأعتقد - كما يرى المؤلف - أن الخطيبي نفسه لم يحتف ببارت، كما يجدر، وإنما أولى الاهتمام لجاك دريدا. يقول المؤلف:

«لم يتسن للخطيبي الاحتفاء برولان بارت كما احتفى بجاك دريدا لما نظم بالرباط مناظرة حول (الهبة والزمن) التي كان جاء دريدا منشطها». (ص/ 65)

ومثلما لم يهتم بارت بالأدب المغربي الحديث، فإنه لم يكتب عن السنة التي أمضاها في المغرب.

ويبقى كتاب «بارت في المغرب» كتاباً توثيقياً لمرحلة في حياة علم من أعلام فرنسا في الأدب والثقافة والفكر.