عبد الله السعداوي.. أجمل غريق في بحر المسرح

أسس خروجا على نمط «مسرح العلبة» الإيطالي السائد باتجاه مسرح مفتوح

السعداوي في أحد أدواره
السعداوي في أحد أدواره
TT

عبد الله السعداوي.. أجمل غريق في بحر المسرح

السعداوي في أحد أدواره
السعداوي في أحد أدواره

«أذكر في سنين طويلة مرت ما زالت في ذاكرتي، في يوم ما وجدت أن لا معنى للحياة، لا معنى لهذا الوجود، وفجأة (شعرت) أن كل شيء صار مظلما.. (حيث) لا مسرح.. بحثت، وبحثت، وبحثت، لعلي أجد مسرحا، فلم أجد.. فكرت أين أذهب؟
فلم يكن أمامي إلا جسر المحرق.. وقفت عند هذا الجسر.. ونظرت إلى البحر، فوجدته المكان الوحيد الذي يمكنه أن (يضمني)..
لم أكن أعرف السباحة، وكانت مغامرة (بالطبع).. لم أكن أحب الموت.. لكن في لحظة ما قررت أن أنتحر.. فقذفت بنفسي في البحر.
فجأة فتحت (بصري).. رأيت نفسي على الشاطئ، وإذا بوجوه تحلق حولي.. وبعضها أراه في صالة المسرح، انتشلتني من هذا الغرق.. فصرت أجمل غريق في هذا العالم، وصار هؤلاء أجمل منقذين في هذا العالم.. فكيف يمكن للغريق أن يقدم هؤلاء المنقذين؟!
كل ما أقوله لهم: حين وضعتم شفاهكم على فمي لتمنحوني قبلة الحياة ونفختم الهواء في رئتي.. شعرت أن لهذه الحياة معنى.. وأعتقد أن الحياة من دون مسرح، ليس لها معنى..!».
بهذه الكلمات يعبر الفنان والمخرج المسرحي البحريني عن شغفه بالمسرح. علاقة تقترب من «الفانتازيا» تجمع بين السحر والخيال، وبهذا الوصف الذي تحدث عنه في فيلم ختام مهرجان الصواري التاسع أكتوبر (تشرين الأول) 2013، يعكس المكانة التي يحتلها المسرح في المنظومة الثقافية للمجتمع البحريني.
السعداوي، الذي يعد من أهم المسرحيين الخليجيين (مواليد البحرين 1948) هو مخرج وكاتب سيناريوهات مسرحية، وناقد في مجال السينما والمسرح والأدب والقضايا الفكرية المتنوعة، بدأ حياته الفنية في العام 1964 من خلال الانفتاح على المؤلفات المسرحية العالمية، وحصل على جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة التجريبي عن مسرحيته (الكمامة). وهو عضو مؤسس في مسرح الصواري. وكانت التجربة الأولى للفنان عبد الله السعداوي هي مسرحية قام بتأليفها وهي مسرحية «الحمار ومقصلة الإعدام» وقام بإخراجها الفنان جمال الصقر تحت عنوان: «مؤلف ضاع في نفسه»، وفي العام 1970 شارك في تمثيل أول مسرحية على نطاق المسارح الأهلية البحرينية، وهي مسرحية «أنتيجونا».
سافر إلى قطر، وشارك في تأسيس مسرح السد مع الفنان القطري غانم السليطي وعدد من الفنانين، وفي العام 1975 سافر إلى دولة الإمارات، وشارك في تأسيس مسرح الشارقة مع عدد من الفنانين الإماراتيين، والتقى حينها الفنان العراقي إبراهيم جلال، الذي أثر في مسيرة السعداوي الفنية.
أخرج الكثير من الأعمال المسرحية منها: «الرجال والبحر» لعوني كرومي 1986، «الصديقان» لمحيي الدين زنكنة 1987، «الجاثوم» ليوسف الحمدان 1989، «الرهائن» لعصام محفوظ 1990، «اسكوريال» لميشيل دي غيلدرود 1993، «الكمامة» لألفونسو ساستري 1994، «القربان» لصلاح عبد الصبور 1996، «الطفل البريء» لبريم تشند 1999، «الكارثة» لعبد الله السعداوي 2002، «الستارة المغلقة» لمحمد عبد الملك 2003، «ابني المتعصب» لحنيف قريشي 2003، «بورتريه» لغالية قباني 2003، «الحياة ليست جادة» لخوان رولفو 2003، «الساعة 12 ليلا» لعبد الله السعداوي 2004.
«الشرق الأوسط» تستعرض آراء عدد من النقاد المسرحيين الخليجيين عن مسيرة وتجربة الفنان المسرحي البحريني عبد الله السعداوي، في التحقيق التالي:
د. حسن رشيد : ريادة مسرحية
تجربة المبدع المسرحي البحريني تجربة ثرية، وإذا كنا نتحدت عن تأثير عدد من المسرحيين في الحراك المسرحي الخليجي، فإن تجربة هذا الرائد تجربة لم تتوقف عند نقطة محددة، وإذا كان التاريخ المسرحي في دول الخليج يتذكر على، سبيل المثال لا الحصر، تجارب صقر الرشود، وعبد الرحمن المناعي، وناجي الحاي، وعبد الكريم جواد، وغيرهم.. فإن ما يميز تجربة السعداوي استمراريته حتى الآن، ولم تقتصر تجربته على خوض غمار التجريب حتى حصد فرس الرهان وسط دهشة العالم ذات يوم في قاهرة المعز عبر فعاليات المسرح التجريبي، ومن هنا كان ثراء التجربة لديه:
أولا: في التنوع والابتكار وعدم الجمود عند نقطة محددة، أو شكل ممسرح واحد.
ثانيا: إن ثراء هذه التجربة لهذا الفنان تكمن في أنه يحمل عصا الترحال ويلبي الدعوة عبر كل المدن الخليجية محاضرا ومدربا ومحفزا للأجيال.
السعداوي مخرج خليجي، عربي، ذو نزعة عالمية، وما يميزه قدرته على إعادة صياغة الأعمال حسب رؤيته، وهو بهذا يبتعد عن النماذج التي لا تخلق إطارا إبداعيا مع النص، أما عن كونه يحمل روح الفنان فيتجلى في الإيثار والارتماء في حضن المسرح، بل إن السعداوي جزء من حراكنا المسرحي، وهو الجندي المجهول الذي يحمل عصاه في كل معركة مسرحية، ممثلا، مخرجا، معدا، ناقدا، باحثا، وفي إطار الإيثار دعمه لكل الأجيال المتعاقبة.
أما فيما يخص تجربته وتنوعها، فمن المؤسف أنه لم تقدم في دول الخليج دراسة حقيقية عن ثراء تجربته، فعلى الرغم من أنه منذ السبعينات قد حمل عصا الترحال إلى قطر وساهم مساهمة فعالة في خلق مسرح السد، بل ساهم في بلورة أفكار عدد من المنتمين إلى حركة المسرح القطري مثل غانم السليطي، محمد البلم، فالح فايز وغيرهم، ولم يتوقف قطار الحركة عند هذا المبدع في قطر، بل ساهم بدوره في الحراك المسرحي في دولة الإمارات.
أما في البحرين فإن التأثر به واضح وجلي عبر إسهامه في ترسيخ مدرسته ورؤيته وتجاربه المسرحية، ليس فقط عبر الدراسات والبحوث والدورات والورش أو كما يفعل في المنطقة الشرقية في المملكة، بل إن أعماله علامات فارقة في مسار المسرح البحريني مع قلة الدعم المادي.
ولذا، فإن السعداوي جزء من حراكنا المسرحي، بل هو جزء مهم، لأن دوره واضح الملامح بلا ادعاء، وهو بجانب ذلك لم يتوقف عن تجارب معينة، بل إن إنجازاته الأهم كما يقول لم تأت بعد، وهذا ما يشعرنا بأننا أمام فيلسوف خليجي في مجال اللعبة المسرحية، وقد يؤخذ عليه أن نجاح تجاربه في إطار التجريب قد أغرى من لم يقرأ بخوض غمار التجارب دون وعي. وهنا نقول وما ذنب السعداوي المسرحي المثقف الذي خلق طوال ما يقارب من نصف قرن تاريخا مشرفا لمعنى المخرج في المسرح، وفي تأكيد هوية لمسرحنا عبر الكثير من الفعاليات عبر كل المدن والعواصم.

(*) ناقد ومؤلف مسرحي قطري

* عبد العزيز السماعيل: مسرح مفتوح
* أستطيع القول بكل ثقة إن عبد الله السعداوي أكثر المسرحيين الخليجيين شغفا بالمسرح وإيمانا برسالته وأهميته.. منذ أن عرفته في مسرح الصواري في تسعينات القرن الماضي وهو يعمل ويتعامل مع كل تجربة مسرحية له كحالة جديدة منفتحة بقوة على كل الاحتمالات الفنية، حتى يمكن أن نصف مسرحياته بأنها تعد ولادات جديدة في حياة المسرح البحريني، فكنا نحضر ونتابع تجاربه في كل مرة لاكتشاف المسرح والسعداوي معا.
لقد أسس السعداوي خروجا قويا على نمط «مسرح العلبة» الإيطالي السائد، باتجاه مسرح مفتوح بلا حدود، واستلهم نصوصا وروايات عالمية لم نعهدها في المسرح من قبل، فقدم السعداوي مسرحا خليجيا جديدا وجريئا في الطرح وفي أسلوب العرض، إلا أن تجربة مسرح الصواري لم تستمر للأسف بالإيقاع والحماس نفسيهما التي بدأت بهما في بداية التسعينات، وتراجع عطاء السعداوي في الإخراج والتمثيل تبعا لذلك.. ولا أعرف الأسباب.. إلا أن عبد الله السعداوي ظل المسرحي الأكثر حبا للمسرح في الخليج.

(*) مؤلف ومخرج مسرحي سعودي، مدير عام الجمعية العربية للثقافة والفنون

* أثير السادة: اللغة كمسرح
* بقدر ما يقترب الفنان البحريني عبد الله السعداوي من المسرح نجده يحرض على الافتراق عنه في تجارب ونصوص مسرحية تجادل كل شيء حتى خصوصيتها الفنية، فهي حبلى بمغامرات اللغة ومغامرات البناء الفني التي تصيبها مرات حالة من حالات التشظي، فيما يبدو هاجسا مشتركا يدفع بالسعداوي إلى فسحة من التحولات الجمالية المستمرة.
هذه الرغبة للمغايرة، للخروج عن لحظة التوازن الشكلي، تمثل مفتاحا لتبيان أحوال النص المسرحي عنده، هذا النص الذي تحتشد فيه الكثير من هواجس السعداوي التي تستدرجنا غالبا لمواجهة اليومي والسياسي في صور مفرطة في سيرياليتها؛ حيث لا نهايات تقليدية، ولا إحساس بتلازم الأفعال والمشاهد، ولا حتى ردات الفعل أحيانا، كل شيء ينطلق باتجاه إحداث انتباه مشبعة بالأسئلة عن درامية الأشياء من حولنا، وعن قيمتها.
من يقرأ السعداوي نصا يمكنه أن يلحظ توقه الدائم للتواصل روحيا، وصورة العبث «البيكيتي»، ذلك الذي حرك في لغة المسرح كل إشكالاتها، وراح يلعب على حافة اللغة، لتصبح اللغة ذاتها مسرحا محتملا، يتهدد يقين المسرح السائد وسحرية الطقوس فيه. السعداوي الذي تنبه باكرا لفاعلية اللغة حتى وهو يختبر وعينا الجمالي بالصورة بصفته مخرجا، يتواطأ هنا مع اللغة لفضح الواقع، لاستثمار الحضور المستفز للغة في الكشف عن هزيمة الواقع أمام استحقاقات الحلم، جاذبية النص «السعداواتي» هو في تلذذه بالتدوير اللغوي الذي يكفي لمضاعفة الإحساس بقبح الأحداث وعبثيتها، كأنها المقابل لقدرية الأشياء، وسيرها الأعمى باتجاه النهايات الموجعة.
نصوص السعداوي تبدو منحازة إلى الإنسان في هواجسه اليومية، في أحلامه المؤجلة، في هزائمه السياسية، وفي أسئلته الوجودية، وحتى في لغة النص التي ترتدي عباءة المحكي واليومي، لتصبح أكثر امتلاكا للقدرة على التعبير عن مزاج الفرد العادي، وفي خياراته الفنية التي تجعل كثيرا من نصوصه قابلة للتنفيذ في أي مكان.
سنقرأ (مثلا) عن العلاقة بين السيد والعبد في نص «حد الموال»، علاقة سيقرر السعداوي فيها أن أمل السيد أقوى من يأس العبد، في سياق لعبة مسرحية تعاود اكتشاف المسرح داخل المسرح، والشخصية داخل الشخصية.. وسنقف عند حدود العلاقة بين الوطن والاستعمار، والحرب والسلام، والحياة والموت في نص «الضفة الأخرى من الجنة»، النص الذي يركض بنا مع شيخوخة الشخوص بلا فواصل إلا فاصلة الحرب وصفارات الإنذار، صفارات الخوف التي تشبه القيامة، كما سيستدعي نداءات المناضل الهندي الأحمر في «روح جرينمو»، لا نعرف شيئا في هذا النص أكثر من الحوارات التي تمسك بأنفاس الحدث، تنخفض كل احتمالات الدراما لصالح إضاءة الطريق إلى تاريخ مظلم من المفارقات الإنسانية التي تحفل بها السياسة الأميركية، هنا نطالع المناضل هنري ديفيد ثورو، الجنرال سمولي بتلر، نورمان فنكلستين المفكر اليهودي المدافع عن القضية الفلسطينية، درايتون، هنري كيسنجر، وقائمة من الأسماء التي سترفع بمرافعاتها من سردية النص الذي بحسب الإرشادات الإخراجية يحفل بالكثير من التوظيف لمشاهد فيلمية وشرائح عرض وصور فوتوغرافية.
السياسة تلتهم كل شيء..! هذا ما يقرره السعداوي في مفتتح نص «المعرض»، الذي يؤكد فيه انغماسه في هذا الشاغل الذي يصبح طبقا لكل شيء، التاريخ هنا يصبح كطواحين الهواء في سيرة حب لعجوزين، يصعد وينزل بذات النول، نذهب إلى الأمام والخلف، نستدعي ماضي سيرة حب مؤجل، وفي دفاتر الانتظار حكايا عن الهواجس اليومية، والطائفية والديمقراطية وبقية مفردات الطحن السياسي.
ينجح السعداوي غالبا في خلق نهايات ترمي بنا في أتون الصدمة، فمن بين زحام الاحتمالات يباغتنا السعداوي بمواعيد مع الموت، مع الفقد، مع اللاجدوى، ومع المفارقات المضحكة، سنعرف معها ذلك الحس السيريالي الذي يغلف روحه المسرحية، وفي نص «المعرض» تصبح صدفة اللقاء بين الاثنين في معرض للصور صدفة مضاعفة، أشبه بمبالغات الأفلام الهندية، نكتشف في نهاية النص أنهما العشيقان نفساهما اللذان افترقا في هامش معرض للصور قبل 30 سنة، وأن الأبوين اللذين حالا دون اكتمال قصة الحب ماتا في ظروف مشابهة، وهي الانزلاق بقشرة موز!.
نص «فجأة لم يهطل المطر» كبقية نصوص السعداوي لا يخلو من مقاربة لقضايا السياسة، هو مأخوذ دائما بنقد تلونات المال والإعلام والسياسة، هنا نطالع في النقطة 16، والنص مجزأ إلى 19 نقطة، هي بحسب السعداوي نوافذ النص، نطالع حديثا عن الفقر في العالم وعن الاحتكار وعن المطاردات، وذلك ضمن حوارات لا تنتمي إلى لحظة، ولا تجهد إلى بناء حدث، تشيخ ببوحها حتى تصل إلى النهاية، نهاية يغفو فيها الأمل بالنهايات الجميلة، نهاية كالحة، يقتل فيها الواحد منهم الآخر بالرصاص، مع لوحة خاتمة يظهر فيها جسد امرأة جميلة داخل صندوق زجاجي مليء بالماء، يترك فيها السعداوي سقف الدلالة مفتوحا للمتلقي كي يقرر إن كانت في وضع استحمام أو غرق!.
يحرضك النص على الانتظار من أول لازمة «خمسون سنة»، إلى أكثرها قدحا لشرارة التأويل في قوله «خل الغيمة تمر»، مرات كثيرة شاهدنا الغيمة وهي تمر فوق رأس الشاب الوسيم، صورة كثيفة نعاينها كمفتاح أول من مفاتيح النص الذي يشتهي البوح ولا يشتهيه، يومئ إلى خواطر من أحداث دون أن يكمل بناؤها، إلى دقائق من العمر التي ابتلع نصفها النسيان في لحظات ألزهايمر.
كما يتصاعد الجدل حول الحب والخيانة في نص «قهوة ساخنة» الذي يرسم إيقاعه من خلال أغنية البداية، أغنية بها حديث عن الموت والحب، الأمر الذي سيدفع بالحوار بين شخوص النص: رجل وامرأة إلى الوقوف على أطراف السؤال عن ماهية الحب والإنسان، حب سنعرف مبكرا أنه تولد عن لحظة حوار إلكترونية، ليصبح معها النص قراءة نفسية في أحوال التواصل الإلكتروني، محاولة لاختبار فاعلية الإنترنت في توليد فضاءات عاطفية متوهمة.
هذه النصوص لا تختصر كل شيء عن السعداوي، خصوصا أنها تحملنا إلى صورته بوصفه مؤلفا فقط، لكنها تأخذنا إلى أكثر الأسئلة الجمالية والفلسفية وطأة على ذاكرته، إلى مزاجه الفني مباشرة، تطوف بنا في مساحة من الوعي المسرحي المختلف، وعي شديد التعالق بالحياة، وبالرغبة في الاختلاف.

(*) ناقد مسرحي سعودي

* عباس الحايك: رمز المسرح الخليجي
* بعد سنوات من العمل والإخلاص والبحث في عوالم المسرح، تحول عبد الله السعداوي إلى رمز بل أيقونة للمسرح الخليجي، فالرجل الذي قدم للمسرح الخليجي تجارب مسرحية مثل «القربان»، و«الكارثة»، و«الكمامة» التي حقق بها جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، «اسكوريال»، و«متروشكا»، و«الصفحة الأولى من الجريدة»، وغيرها من عروض مسرحية تحولت إلى علامات بارزة، يمتلك مهارة التنقيب في خبايا المسرح، يكتشف من ذاكرة المسرح ليستشرف مستقبله، فتأتي أعماله المسرحية على تماس مع الواقع الذي نعيشه بكل تفاصيله، إحباطاته، أوجاعه.. فعيناه تريان بوضوح ما يدور في هذا العالم.
ما يميز السعداوي هو تجاوزه للتقاليد المسرحية الكلاسيكية وخروجه عنها، وهي ما تشكل مفهومه للتجريب، فالتجريب هو حالة هدم وبناء، ففي مجمل مسرحياته يتجاوز السعداوي العلبة الإيطالية، ليؤثث مكانه المسرحي؛ مما لا يخطر ببال؛ حيث قدم مسرحياته في قلعة البحرين، أو في بيت قديم، أو مدخل معرض الكتاب، أو في صالة فنون تشكيلية، أو تتعدد الأمكنة في مسرحية واحدة كما في «الصفحة الأولى من الجريدة» من مواقف الصالة الثقافية، البحر المحاذي للصالة، بهو الصالة ثم الصالة نفسها؛ حيث حرك المتفرجين مع مشاهد مسرحيته. السعداوي لم يتميز فقط كمخرج، بل تميز بنصوصه الإشكالية التي نبشت في قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية، وفضحت الزيف الذي نعيشه بكل جرأة. السعداوي أيقونة للمسرح الخليجي، ليس بملامحه ولحيته الكثة وبساطة هيئته، ولكن بإخلاصه للمسرح وانشغاله الدائم بهذا العالم الخصب، وأيضا بقربه لكل المسرحيين، خصوصا المسرحيين الشباب الذين كسر معهم كل الحواجز، صادقهم واقترب منهم، رغم سنوات عمره إلا أن له قلبا شابا وعنفوان شاب؛ لذا تجده يضج طاقة مسرحية تتجدد.

(*) كاتب مسرحي سعودي



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.