أحمد طوغان: الحروب القادمة ستكون ثقافية وليست عسكرية

شيخ رسامي الكاريكاتير المصريين يرى أن المرحلة الحالية هي مرحلة اختبار للمثقفين

أحمد طوغان
أحمد طوغان
TT

أحمد طوغان: الحروب القادمة ستكون ثقافية وليست عسكرية

أحمد طوغان
أحمد طوغان

يعد فنان الكاريكاتير أحمد طوغان شيخ رسامي الكاريكاتير في مصر وأحد رواده في العالم العربي بحكم تاريخه الطويل الذي يتجاوز 60 سنة في ممارسة هذا الفن، وهي مسيرة حافلة بالإنجازات والإبداعات الصحافية والفنية الكبرى، نجح خلالها في خلق وظائف جديدة للكاريكاتير تتجاوز متعة الفكاهة والضحكة ليجعل منه احتجاجا ضد الفساد والظلم والانحراف من خلال تلميحات ريشته فيما بين الخطوط، وتقديرا لهذه الرحلة الإبداعية جرى تكريمه أخيرا بمنحه أرفع جائزة في مصر في مجال الفنون والعلوم الاجتماعية، وهي جائزة النيل. وبهذه المناسبة التقيت الفنان طوغان في بيته بحي المعادي بالقاهرة وأجريت معه هذا الحوار:
* رسمتَ مرسي جالسا على مكتبه وهو يدعو: «اللهم احمني من الإخوان والسلفيين، أما عكاشة ورفاقه فأنا كفيل بهم».
- من الكتب التي اعتز بها كتابي «قضايا الشعوب» في 1957، وفيه سجلت التاريخ بالرسومات وكانت مقدمته بقلم أنور السادات الذي كان وقتها رئيسا لمجلس الأمة.
* كمثقف، كيف كانت علاقتك بالأحداث المتسارعة التي مرت بها مصر؟
- المثقف يتأثر بالأحداث ولا يمكن أن يعيش في برج عاجي، وإن لم يرتبط المثقف بالناس فسيفقد دوره كمثقف، وصفته أيضا.
* هل انعكست تلك الأحداث على المشهد الثقافي المصري برأيك؟
- نعم مؤكد، فالمعركة ثقافية في المقام الأول، وللمثقف الدور الأول في تغيير الوضع، لأنه يمتلك الوعي لفهم ما يجري، ونظرته للأمور متقدمة وراقية، وأنا أعتقد أن الأمم تتجه للمنافسة في الفن والثقافة والرياضة وليس المنافسة في امتلاك الأسلحة؛ ولذلك فإن الحروب القادمة ستكون حروبا ثقافية.
* ولكن هناك من يرى أن المثقفين لم يقوموا بدورهم كما ينبغي؟
- من لا يقوم بدوره فسيرحل من المشهد، ولن يكون له مكان، نحن حاليا في فترة اختبار للمثقف وفي مرحلة فرز المثقف الحقيقي من غيره.
* هل ارتقت الأعمال الإبداعية لمستوى الثورتين المصريتين الأخيرتين مقارنة بالأعمال المعاصرة لثورة 1952؟
- لا بد أن نفهم أن الثقافة كالولادة تستغرق بعض الوقت، كما أن هناك فرقا بين ثورة يوليو (تموز) والثورتين الأخيرتين، فثورة يوليو كانت شبه انقلاب عسكري على الرغم من أنهم حاولوا تغيير بعض الأوضاع الاجتماعية للشعب، لكن ثورتي 25 يناير (كانون الثاني) و30 يونيو (حزيران) هما ثورتان شعبيتان، وهما أكثر عمقا في نفوس الناس وأكثر تأثيرا في ثقافتهم، ولكن المردود الثقافي سيظهر فيما بعد. وللعلم هناك كتب ورسومات في كل مكان وهى ظاهرة إيجابية، وحتى الآباء تغيرت نظرتهم لموضوع الرسم، ولم يعد مضيعة للوقت كما كانوا يرونه في الماضي، بل أصبحوا يشجعون أولادهم على الرسم والتعبير عن أنفسهم.
* هل حركتك إحدى هاتين الثورتين أو كلتيهما للتعبير عنها بريشتك؟
- طبعا تأثرت بهما ورسمت أعمالا كثيرا من وحيهما، فقضيتي طول عمري هي الناس، في عهد مبارك قمت بحملات هجوم ضد الحكومة بالكاريكاتير، وتناولت قضايا كثيرة مثل البطالة وقوارب الموت والفساد وسوء التعليم والرشوة، ولما جاء مرسى على كرسي الرئاسة رسمته وهو جالس على مكتبه وهو يدعو: «اللهم احمني من الإخوان والسلفيين أما عكاشة ورفاقه فأنا كفيل بهم»، في إشارة إلى التخوف من تدخل الإخوان وهو ما حدث للأسف فيما بعد.
* إلى أي مدى يحدث فن الكاريكاتير تأثيره؟
- له تأثير كبير، لأنه يحمل فكرا وتأملا وخلاصة عميقة ويحتاج إلى جهد كبير لتلخيص القضية بسرعة في خطوط وقد يحمل تنبؤا، فكاريكاتير مرسى، كنت أتنبأ فيه بما حدث وحمل تحذيرا، كما أنني تنبأت أيضا بمصير الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بعد أن دخلوها، وأذكر أنني رسمت كاريكاتيرا بمناسبة دخول الروس أفغانستان تضمن رسما لعسكري روسي يهنئ زميله بدخول أفغانستان، فقال له زميله المهم: «تفتكر هنعرف نخرج!».
* بدأت ممارسة الكاريكاتير منذ سنوات طويلة فكيف كانت البداية؟ وهل واجهت صعوبات المنافسة في ظل ظهورك في عصر من العمالقة والرواد في فن الكاريكاتير؟
- من حسن حظي أني بدأت ممارسة فن الكاريكاتير مع أستاذي الرسام الكبير رخا، وهو أول رسام كاريكاتير مصري، وبعدها فتح الباب أمام المصريين، وأعترف أنه أثر فيّ كثيرا لقيمته الفنية والإنسانية. أما بالنسبة للمنافسة في عصر الرواد، فهي لم تكن موجودة، لأن عددنا كان قليلا، وكانت الرسومات محدودة أيضا وقاصرة على المجلات، كنت أول فنان كاريكاتير يرسم في جريدة يومية هي الأخبار عندما كنت أعمل مع الأخوين على ومصطفى أمين.
* وما تقييمك لحركة فن الكاريكاتير الآن؟
- طبعا عدد الفنانين زاد كثيرا، ولكن الصحف أيضا انتشرت وتنوعت وأتاحت فرصا أكبر للنشر أمام فناني الكاريكاتير، ولكنني أنتقد فيهم إحساسهم الزائد بأنفسهم، فمعظمهم للأسف مغرورون.
* إلى جانب ممارستك للرسومات الصحافية كانت لك تجارب في تأليف الكتب من واقع رحلاتك في المناطق الثورية بالعالم، فكيف تقيم هذه المرحلة؟
- بالفعل كانت لي تجارب في تأليف الكتب التي تندرج تحت مسمى «أدب الرحلات»، لأنها خلاصة لتجارب ذاتية ومشاهدات شخصية للدول التي زرتها وعاصرت أحداثها الساخنة، ومنها كتاب «أيام المجد في وهران» في الخمسينات من القرن الـ20، وتتعلق بمعايشتي للثورة الجزائرية، وكتبت أيضا عن اليمن وفلسطين، ومن الكتب التي أعتز بها كتابي «قضايا الشعوب» في 1957، وفيه سجلت التاريخ بالرسومات وكانت مقدمته بقلم أنور السادات الذي كان وقتها رئيسا لمجلس الأمة.
* على ذكر الرئيس السادات، كيف بدأت صداقتك به؟
- السادات من الشخصيات الفريدة التي تعرفت عليها في حياتي، فهو مثقف جدا ويجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية، وكان أحسن من سمعته يقرأ الشعر، لكنه كان متواضعا، وأذكر أول لقاء بيننا في منزل الفنان الشعبي زكريا الحجاوي، وذلك عام 1946 عقب خروجه مباشرة من السجن في قضية مقتل أمين عثمان، وتوالت لقاءاتنا خلال فترة فصله من الجيش، وكنا نلتقي في «مقهى محمد عبد الله» في أحد المناطق الشعبية مع يوسف إدريس، والحجاوي، وكان معنا صلاح جاهين، ومحمود السعدني، وأنور المعداوي.
* ما انطباعك عن السادات من واقع علاقتك الوطيدة به؟
- كان مثقفا ومهموما بقضايا الوطن، ولكنه كان كتوما لدرجة أنه بعد فترة من علاقتنا به اختفى عنا، ثم فوجئنا به بيننا بعد خمسة أشهر وهو بملابسه العسكرية بعد عودته للجيش، ثم عاد واختفى من جديد لفترة، حتى فوجئنا به يلقي بيان ثورة يوليو الأول من الإذاعة المصرية عام 1952، ودهشنا عندما عرفناه من صوته! ولكن من المواقف الغريبة في حياة السادات أنه عمل خلال فترة من حياته في مجال حمل الحجارة والرمال على كتفه، وشاء القدر أن يحمل على كتفه الحجارة من أسوان لنقلها إلى منطقة الهرم لبناء استراحة للملك فاروق، لتدور الأيام ويكون السادات هو من ألقى خطاب الثورة على هذا الملك!
* قدمت أعمالك في معارض كثيرة فما أقربها لقلبك خلال مسيرتك الإبداعية؟
- كل عمل من أعمالي له رسالة وهدف، وقد حرصت فيها جميعا أن تعبر عن قضايا الأمة وأحداث الساعة، وبعضها سبب لي مشكلات سياسية واتهمت بمعاداة السامية من قبل إسرائيل، بسبب رسومات عن العراق بعد سقوط بغداد، كما قدمت معارض عن القضية الفلسطينية من واقع زيارتي لفلسطين في الستينات من القرن الماضي، أحدثت أصداء عالمية واسعة.
* إلى جانب ممارستك للكاريكاتير.. هل مارست الفن التشكيلي؟
- بالفعل، فالفنان لا يعجز عن رسم شيء، المهم الفكرة التي تحركه. وكانت لي تجربة قبل ثلاثة أعوام تقريبا قدمت فيها معرضا كبيرا عن القاهرة في مرحلة الأربعينات، تلك المرحلة المقربة لقلبي، التي لم تعد ملامحها موجودة حاليا، وكانت حافلة بالرسوم المتنوعة لشخوص تلك الفترة ومفرداتها الحياتية البدائية مقارنة بالعصر الذي نعيشه.
* إذن ما الذي يشغلك الآن؟
- أنا حاليا مشغول بالانتهاء من طباعة مذكراتي التي تنشرها الدار المصرية اللبنانية، وتتضمن الكثير من الرؤى لما عشته وعاصرته من أحداث كثيرة عبر زمن طويل، وقد كتبتها بصفتي شخصا عاديا، وبكل حياد دونما تحيز لأي أحد.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.