انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

فلول التنظيم يتحينون الفرصة للنهوض... وآلته الإعلامية تنشر تقارير يومية بلغات عدة

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)

على حين غِرة ودون توقُّع أحدث الرئيس الأميركي رونالد ترمب، جلبةً وصخباً واسعَين في بلاده وحول الشرق الأوسط من جراء تغريدة تتصل بانسحاب القوات الأميركية من سوريا، والتي لا يتجاوز عددها ألفي جندي، إلا أن وجودها قد أسهم ولا شك في إدراك منجزات أميركية على صعيدين: الأول محاربة «داعش»، والثاني كبح النفوذ الإيراني المتصاعد في الداخل السوري. وقد تعلل ترمب بأن «داعش» قد قُضي عليه بالمرة، وأن المهمة هناك قد انتهت. وفي أول اجتماع لإدارته بعد موسم الأعياد، كان ترمب يحاجج بأن سوريا لا يوجد بها سوى الموت والرمال، وعليه فما فائدة البقاء هناك؟
الجدل الذي أحدثته تغريدة الرئيس ترمب، أدت إلى استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وإلى غضبة كبرى داخل صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، الأمر الذي أبطأ من سرعة الانسحاب، لكن السؤال المفتوح: ما تبعات مثل هذا القرار على عودة الدواعش مرة أخرى إلى سوريا والعراق؟ وكيف له أن يخدم المصالح الإيرانية الساعية إلى تكريس هيمنتها في المنطقة؟
يمكن بدايةً التطلع إلى ما قاله الرئيس ترمب عن فكرة انتهاء المهمة ومناقشة مصداقيتها وواقعيتها، سيما وأن الأمر حمل أصداء لجملة رئاسية أخرى جرت بها المقادير في العراق عام 2003 حين أشار بوش الابن إلى أن نصراً قد تحقق هناك، وأثبتت الأيام أن الأمر لم يكن سوى أحد ضروب الأوهام.
حمل الجدل حول إتمام مهمة القضاء على «داعش»، اثنين من الخبراء الأميركيين الثقات على الحديث بصراحة مطلقة، وهما جوشوا غيلتزر، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي كان المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب بمجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولية، وضابط الاستخبارات السابق الذي شغل منصب مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس.
وعبر صفحات «نيويورك تايمز» وفي مقال مشترك يقولان: «صحيح أن ترمب محقٌّ في أن الولايات المتحدة أحرزت تقدماً هائلاً ضد تنظيم داعش، لكن التنظيم لم يُهزم، ومهمتنا في سوريا لم تُنجز بالكامل»... والسؤال: لماذا؟
عند الخبيرَين الأميركيين أن «الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا»، ويقران بأنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإنها لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات المهنية مثل «القاعدة» و«داعش»، من أجل القضاء عليها فعلياً.
هل تعزز لغة الأرقام صحة ودقة أحاديث الخبيرين الأميركيين السابقين؟
المتابع لوسائل الإعلام الأميركية، المقروءة والمسموعة والمرئية، يدرك كم وقدر الأصوات التي سارعت إلى تفنيد ما قاله ترمب، بل ونقضه، سيما وأن فلول «داعش»، يتربصون ويتحينون الفرصة للنهوض مجدداً، كما تواصل آلة التنظيم الإعلامية، غير معروفة المقر الرئيسي، نشاطها، وتنشر تقارير يومية بلغات عدة.
خذْ على سبيل المثال ما نشرته أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي مجلة «لونغ جورنال»، من أرقام، فقد ادَّعى «داعش» تنفيذه (1922) عملية حول العالم خلال مدة 20 أسبوعاً، وحصل نصفها تقريباً (946) في العراق، وسُجلت (599) عملية في سوريا. وزعم التنظيم أنه قام بـ(44) عملية في سوريا خلال مدة أسبوع بين 6 و 13 ديسمبر الماضي.
ولم تقتصر عمليات «داعش» على العراق وسوريا فقط، فقد جاءت عملية سوق عيد الميلاد في مدينة ستراسبورغ الفرنسية والتي أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة ما لا يقل عن 12 شخصاً، لتؤكد أن «داعش» حاضر بقوة، وبصورة غير هيراركية عنقودية حول العالم، وأوروبا في مقدمة الدول المستهدفة في هذا الإطار.
لم يختفِ «داعش» ولم يُقضَ عليه دفعة واحدة، ولهذا لا يمكن أن تكون المهمة قد انتهت بالفعل، فعناصر «داعش» الفارة لا تزال مختبئة، وتمارس القتال في سوريا والعراق، وقد جاءت عملية منبج الأخيرة التي راح ضحيتها 4 أميركيين، لتثبت خطأ استنتاج ترمب، عطفاً على الوجود الداعشي في مناطق عدة ما بين دير الزور ومنطقة الحسينية على الحدود العراقية.
وبعد الضربات المكثفة التي تعرض لها التنظيم في الأعوام الماضية، بدا كأنه عاد مرة أخرى إلى فكرة «الهياكل المتكيفة»، من خلال حروب الخلايا صغيرة العدد، والقادرة على إيقاع خسائر كبرى في الأفراد، ما يعني قدرة «داعش» على مقابلة الضغوط العسكرية الحالية، وبالتالي فحال اختفاء القوة العسكرية من على الأرض، أي مع الانسحاب الأميركي، سيكون من الطبيعي أن يعود الدواعش إلى سيرتهم الأولى، أي التمسك بالأرض، ومحاولة إحياء آمال «الخلافة المزعومة».
والشاهد أن الذين لديهم علم من كتاب الاستراتيجيات العسكرية الرصينة في مواجهة جماعات الإرهاب الداعشي، قد وجدوا في طرح الانسحاب الأميركي من سوريا، معضلة حقيقية في مواجهة الإرهاب العالمي في قادم الأيام.
في مقدمة أولئك يأتي الجنرال الأميركي جون ألين، ذو النجوم الأربعة، والذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مبعوثاً خاصاً له عند التحالف الدولي لقتال «داعش» قبل أربع سنوات. عبر صحيفة «واشنطن بوست» يسأل الجنرال ألين ترمب والأميركيين: «ما وضع التنظيم حالياً حتى نحكم على قرار الرئيس ونبيِّن صوابه من خطئه؟».
وفي هذا السياق يمكن للرئيس ترمب أن يتذرع بأن «داعش» قد خسر غالبية المناطق التي هيمن عليها في سوريا والعراق، لكن الأمر الذي لا يمكن له أن ينكره هو أن مقاتلي التنظيم يعدّون بالآلاف، وإن تشتتوا بسبب القوة النارية الجوية للتحالف الدولي، وبفضل جهود قوات سوريا الديمقراطية في الميدان، إلا أن معاقل «داعش» في أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، لا تزال تعجّ بالدواعش، الخطر القاتل في الحال، وكذا في الاستقبال.
ولعل المؤكد أن فكرة القضاء المبرم وانتهاء المهمة لا يمكن أن تلامس سقف الحقيقة بمكان، فالآلة الإعلامية «الداعشية»، وفي زمن باتت تلعب فيه وسائط الاتصال الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة دوراً مزدوجاً، خيراً أو شراً، أضحى من اليسير عبرها إعادة ترتيب صفوف المقاتلين من جديد، بل الكارثة الأكبر تتمثل في المقدرة على حشد آلاف العناصر الجديدة في جميع بقاع وأصقاع الأرض بشكل يومي، ما يعني قدرته على نشر الفوضى والالتئام على أراضٍ مختلفة مرة ثانية. والتساؤل الآن: هل استطاع الجنرالات التأثير على الرئيس ترمب حتى يتمهل في الانسحاب؟
حسب الخبراء، فإن أغلب الظن أن الاجتماع الذي لم يدم سوى 45 دقيقة في العراق، مع المسؤولين العسكريين الأميركيين على الأرض، قد أوضح لترمب بعض ما كان خافياً عليه، فالتنظيم المتطرف بات قوة كبيرة وعنيدة، ولا يزال محافظاً على جيوب المقاومة ضد القوى المحلية، وذلك في خضمّ محاولته إعادة تشكيل نفسه، بالإضافة إلى إطلاقه حملة من الاغتيالات والضراوة والابتزاز ضد المجتمعات المحلية.
وبلغة خطاب مغاير، فإن خطأ أوباما في الانسحاب المتسرع من العراق عام 2011، يكاد يتكرر أمام أعيننا مرة جديدة، فالانسحاب الأميركي القادم ولا شك، حتى ولو بتمهل، سيعطي «داعش» قُبلة الحياة، وسيمكّنه من إعادة تنظيم صفوفه على الأرض في الأشهر والسنوات المقبلة، وكذا من إعادة ابتكار ذاته، واستعادة السيطرة على أراضي تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على الظهور مرة أخرى، ولسنوات طويلة قادمة.
أما المعضلة الأوسع التي يفتح الانسحاب لها أبوابه، فتتمثل في إتاحة المجال لـ«داعش»، وغيره من التنظيمات المتطرفة على الأرض للعمل بحرية أكبر في حشد السوريين الواقفين في منطقة الحياد الفكري والذهني، وربما المأزومين من جراء استحقاقات ومظالم بعينها، ما يعني حواضن بشرية جديدة يستمد منها التنظيم حياة وامتدادات في الحال والاستقبال.
أحد الأسئلة المطروحة على الرئيس ترمب: هل الانسحاب سيؤثر على عودة «داعش» فقط، أم أنه سيفتح آفاقاً لجماعات وفصائل إرهابية أخرى من توسيع نفوذها في العديد من المناطق السورية وبنوع خاص شمال غربي سوريا؟
يلفت توماس جوسلين الزميل البارز لدى معهد «الدفاع عن الديمقراطيات»، وكبير محرري مجلة «لونغ وور جورنال»، إلى أنه خلال الأسابيع الأخيرة، استطاعت «هيئة تحرير الشام» المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، تشديد قبضتها على شمال غربي سوريا. ويلفت توماس «إلى أن صدامات تحدث منذ العام الماضي، بين الهيئة وجبهة تحرير الشمال، التحالف المتكون من متمردين آخرين، ولكن سرعان ما أصبح لهيئة تحرير الشام اليد العليا على منافسيها، واستولت على مناطق استراتيجية مجاورة لمعقلها في محافظة إدلب».
ويقدم طرح الانسحاب الخاص بترمب من سوريا، والذي بدأ بالفعل منذ أسبوعين، بسحب عشرة آليات على سبيل جس النبض، فرصة ذهبية لـ«داعش» للحياة وسط الفوضى والقتال المتوقع حدوثه بين تركيا والأكراد... كيف ذلك؟
المعروف أن الجنرالات في وزارة الدفاع الأميركية كانوا قد رفعوا مقترحاً للرئيس ترمب يفيد بأنه تعويضاً لقوات حماية الشعب الكردية عن الانسحاب، وبعد أن قدمت خدمات جليلة في المعارك ضد «داعش»، فإنه لا بد من ترك أسلحة أميركية ثقيلة بين أياديها للدفاع عن نفسها ضد أي محاولات لعودة «داعش» من جديد.
المقترح المتقدم هذا أشعل نيران الغضب من جانب حكومة الرئيس إردوغان الذي ينظر إلى الأكراد على أنهم قوات مارقة، وربما لو يطلق ترمب تهديده بتدمير الاقتصاد التركي، لكان إردوغان قد شن عملية عسكرية كبيرة هناك في شمال شرقي سوريا ضد الأكراد، وهي غالباً عملية محتملة في أي وقت، وساعتها ستُقدم فرصة على طبق من ذهب للدواعش، لإحياء وجودهم وسط ركام القتال والفوضى بين الجانبين.
السؤال قبل الانصراف: هل قدَّر ترمب قبل إعلانه عن هذا الانسحاب مستقبل المشهد الإرهابي الإيراني، وليس الداعشي فقط، في سوريا والعراق وبقية المنطقة، وربما وصولاً إلى تل أبيب؟
يدرك المحللون السياسيون من الأميركيين وغيرهم، أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي تخليه واشنطن، حكماً سوف تملأه إيران على الفور، وفي مقابل ألفى جندي أميركي سينسحبون من العراق، سيتمكن عشرات آلاف العناصر من وكلاء وميليشيات إيران من تثبيت أقدامهم في سوريا.
وعطفاً على ذلك فإن الشق السياسي من الانسحاب كارثي بدوره، ذلك أن إيران ستضحى صاحبة اليد العليا هناك في ما يخص رسم المشهد السياسي القادم، والذي لا بد له من أن يحقق لها منافع استراتيجية، في المقدمة منها اقتصادياً التحكم في مسألة إعادة إعمار سوريا، وهي التي تطالب الآن بالفعل بالأولوية في إعادة إعمار العراق.
غير أن الفوز الأكبر للإيرانيين، والذي يزعج ولا شك الجانب الإسرائيلي بدرجة غير مسبوقة، يتمثل في أن الانسحاب من الناحية الاستراتيجية سيمكِّن إيران من تحقيق حلمها الكبير، أي الوصول مباشرةً إلى مياه المتوسط بالنفوذ المباشر، ذلك أن الانسحاب الأميركي سيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البري الذي لطالما سعت إليه، والذي يربط طهران ببيروت والمتوسط، وبشكل عام ستكون للانسحاب الأميركي تداعيات في أنحاء المنطقة، ترجِّح كفة ميزان القوة أكثر لصالح إيران.
والخلاصة أن الانسحاب الأميركي المتسرع أو البطيء قد يفتح أبواباً لولادة الطبعة الجديدة أو النسخة المتقدمة من «داعش»، والتي ستكون أشرس وأكثر ضراوة، ما يضع النيات الأميركية بالنسبة إلى الشرق الأوسط ولبقية العالم موضع الشك، فهل «واشنطن ترمب» تتطلع إلى القضاء على الإرهاب حول العالم قولاً وفعلاً، أم أنها تعطيه مسارب وأملاً جديداً في الانتشار حول العالم؟



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».