انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

فلول التنظيم يتحينون الفرصة للنهوض... وآلته الإعلامية تنشر تقارير يومية بلغات عدة

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)

على حين غِرة ودون توقُّع أحدث الرئيس الأميركي رونالد ترمب، جلبةً وصخباً واسعَين في بلاده وحول الشرق الأوسط من جراء تغريدة تتصل بانسحاب القوات الأميركية من سوريا، والتي لا يتجاوز عددها ألفي جندي، إلا أن وجودها قد أسهم ولا شك في إدراك منجزات أميركية على صعيدين: الأول محاربة «داعش»، والثاني كبح النفوذ الإيراني المتصاعد في الداخل السوري. وقد تعلل ترمب بأن «داعش» قد قُضي عليه بالمرة، وأن المهمة هناك قد انتهت. وفي أول اجتماع لإدارته بعد موسم الأعياد، كان ترمب يحاجج بأن سوريا لا يوجد بها سوى الموت والرمال، وعليه فما فائدة البقاء هناك؟
الجدل الذي أحدثته تغريدة الرئيس ترمب، أدت إلى استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وإلى غضبة كبرى داخل صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، الأمر الذي أبطأ من سرعة الانسحاب، لكن السؤال المفتوح: ما تبعات مثل هذا القرار على عودة الدواعش مرة أخرى إلى سوريا والعراق؟ وكيف له أن يخدم المصالح الإيرانية الساعية إلى تكريس هيمنتها في المنطقة؟
يمكن بدايةً التطلع إلى ما قاله الرئيس ترمب عن فكرة انتهاء المهمة ومناقشة مصداقيتها وواقعيتها، سيما وأن الأمر حمل أصداء لجملة رئاسية أخرى جرت بها المقادير في العراق عام 2003 حين أشار بوش الابن إلى أن نصراً قد تحقق هناك، وأثبتت الأيام أن الأمر لم يكن سوى أحد ضروب الأوهام.
حمل الجدل حول إتمام مهمة القضاء على «داعش»، اثنين من الخبراء الأميركيين الثقات على الحديث بصراحة مطلقة، وهما جوشوا غيلتزر، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي كان المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب بمجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولية، وضابط الاستخبارات السابق الذي شغل منصب مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس.
وعبر صفحات «نيويورك تايمز» وفي مقال مشترك يقولان: «صحيح أن ترمب محقٌّ في أن الولايات المتحدة أحرزت تقدماً هائلاً ضد تنظيم داعش، لكن التنظيم لم يُهزم، ومهمتنا في سوريا لم تُنجز بالكامل»... والسؤال: لماذا؟
عند الخبيرَين الأميركيين أن «الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا»، ويقران بأنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإنها لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات المهنية مثل «القاعدة» و«داعش»، من أجل القضاء عليها فعلياً.
هل تعزز لغة الأرقام صحة ودقة أحاديث الخبيرين الأميركيين السابقين؟
المتابع لوسائل الإعلام الأميركية، المقروءة والمسموعة والمرئية، يدرك كم وقدر الأصوات التي سارعت إلى تفنيد ما قاله ترمب، بل ونقضه، سيما وأن فلول «داعش»، يتربصون ويتحينون الفرصة للنهوض مجدداً، كما تواصل آلة التنظيم الإعلامية، غير معروفة المقر الرئيسي، نشاطها، وتنشر تقارير يومية بلغات عدة.
خذْ على سبيل المثال ما نشرته أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي مجلة «لونغ جورنال»، من أرقام، فقد ادَّعى «داعش» تنفيذه (1922) عملية حول العالم خلال مدة 20 أسبوعاً، وحصل نصفها تقريباً (946) في العراق، وسُجلت (599) عملية في سوريا. وزعم التنظيم أنه قام بـ(44) عملية في سوريا خلال مدة أسبوع بين 6 و 13 ديسمبر الماضي.
ولم تقتصر عمليات «داعش» على العراق وسوريا فقط، فقد جاءت عملية سوق عيد الميلاد في مدينة ستراسبورغ الفرنسية والتي أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة ما لا يقل عن 12 شخصاً، لتؤكد أن «داعش» حاضر بقوة، وبصورة غير هيراركية عنقودية حول العالم، وأوروبا في مقدمة الدول المستهدفة في هذا الإطار.
لم يختفِ «داعش» ولم يُقضَ عليه دفعة واحدة، ولهذا لا يمكن أن تكون المهمة قد انتهت بالفعل، فعناصر «داعش» الفارة لا تزال مختبئة، وتمارس القتال في سوريا والعراق، وقد جاءت عملية منبج الأخيرة التي راح ضحيتها 4 أميركيين، لتثبت خطأ استنتاج ترمب، عطفاً على الوجود الداعشي في مناطق عدة ما بين دير الزور ومنطقة الحسينية على الحدود العراقية.
وبعد الضربات المكثفة التي تعرض لها التنظيم في الأعوام الماضية، بدا كأنه عاد مرة أخرى إلى فكرة «الهياكل المتكيفة»، من خلال حروب الخلايا صغيرة العدد، والقادرة على إيقاع خسائر كبرى في الأفراد، ما يعني قدرة «داعش» على مقابلة الضغوط العسكرية الحالية، وبالتالي فحال اختفاء القوة العسكرية من على الأرض، أي مع الانسحاب الأميركي، سيكون من الطبيعي أن يعود الدواعش إلى سيرتهم الأولى، أي التمسك بالأرض، ومحاولة إحياء آمال «الخلافة المزعومة».
والشاهد أن الذين لديهم علم من كتاب الاستراتيجيات العسكرية الرصينة في مواجهة جماعات الإرهاب الداعشي، قد وجدوا في طرح الانسحاب الأميركي من سوريا، معضلة حقيقية في مواجهة الإرهاب العالمي في قادم الأيام.
في مقدمة أولئك يأتي الجنرال الأميركي جون ألين، ذو النجوم الأربعة، والذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مبعوثاً خاصاً له عند التحالف الدولي لقتال «داعش» قبل أربع سنوات. عبر صحيفة «واشنطن بوست» يسأل الجنرال ألين ترمب والأميركيين: «ما وضع التنظيم حالياً حتى نحكم على قرار الرئيس ونبيِّن صوابه من خطئه؟».
وفي هذا السياق يمكن للرئيس ترمب أن يتذرع بأن «داعش» قد خسر غالبية المناطق التي هيمن عليها في سوريا والعراق، لكن الأمر الذي لا يمكن له أن ينكره هو أن مقاتلي التنظيم يعدّون بالآلاف، وإن تشتتوا بسبب القوة النارية الجوية للتحالف الدولي، وبفضل جهود قوات سوريا الديمقراطية في الميدان، إلا أن معاقل «داعش» في أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، لا تزال تعجّ بالدواعش، الخطر القاتل في الحال، وكذا في الاستقبال.
ولعل المؤكد أن فكرة القضاء المبرم وانتهاء المهمة لا يمكن أن تلامس سقف الحقيقة بمكان، فالآلة الإعلامية «الداعشية»، وفي زمن باتت تلعب فيه وسائط الاتصال الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة دوراً مزدوجاً، خيراً أو شراً، أضحى من اليسير عبرها إعادة ترتيب صفوف المقاتلين من جديد، بل الكارثة الأكبر تتمثل في المقدرة على حشد آلاف العناصر الجديدة في جميع بقاع وأصقاع الأرض بشكل يومي، ما يعني قدرته على نشر الفوضى والالتئام على أراضٍ مختلفة مرة ثانية. والتساؤل الآن: هل استطاع الجنرالات التأثير على الرئيس ترمب حتى يتمهل في الانسحاب؟
حسب الخبراء، فإن أغلب الظن أن الاجتماع الذي لم يدم سوى 45 دقيقة في العراق، مع المسؤولين العسكريين الأميركيين على الأرض، قد أوضح لترمب بعض ما كان خافياً عليه، فالتنظيم المتطرف بات قوة كبيرة وعنيدة، ولا يزال محافظاً على جيوب المقاومة ضد القوى المحلية، وذلك في خضمّ محاولته إعادة تشكيل نفسه، بالإضافة إلى إطلاقه حملة من الاغتيالات والضراوة والابتزاز ضد المجتمعات المحلية.
وبلغة خطاب مغاير، فإن خطأ أوباما في الانسحاب المتسرع من العراق عام 2011، يكاد يتكرر أمام أعيننا مرة جديدة، فالانسحاب الأميركي القادم ولا شك، حتى ولو بتمهل، سيعطي «داعش» قُبلة الحياة، وسيمكّنه من إعادة تنظيم صفوفه على الأرض في الأشهر والسنوات المقبلة، وكذا من إعادة ابتكار ذاته، واستعادة السيطرة على أراضي تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على الظهور مرة أخرى، ولسنوات طويلة قادمة.
أما المعضلة الأوسع التي يفتح الانسحاب لها أبوابه، فتتمثل في إتاحة المجال لـ«داعش»، وغيره من التنظيمات المتطرفة على الأرض للعمل بحرية أكبر في حشد السوريين الواقفين في منطقة الحياد الفكري والذهني، وربما المأزومين من جراء استحقاقات ومظالم بعينها، ما يعني حواضن بشرية جديدة يستمد منها التنظيم حياة وامتدادات في الحال والاستقبال.
أحد الأسئلة المطروحة على الرئيس ترمب: هل الانسحاب سيؤثر على عودة «داعش» فقط، أم أنه سيفتح آفاقاً لجماعات وفصائل إرهابية أخرى من توسيع نفوذها في العديد من المناطق السورية وبنوع خاص شمال غربي سوريا؟
يلفت توماس جوسلين الزميل البارز لدى معهد «الدفاع عن الديمقراطيات»، وكبير محرري مجلة «لونغ وور جورنال»، إلى أنه خلال الأسابيع الأخيرة، استطاعت «هيئة تحرير الشام» المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، تشديد قبضتها على شمال غربي سوريا. ويلفت توماس «إلى أن صدامات تحدث منذ العام الماضي، بين الهيئة وجبهة تحرير الشمال، التحالف المتكون من متمردين آخرين، ولكن سرعان ما أصبح لهيئة تحرير الشام اليد العليا على منافسيها، واستولت على مناطق استراتيجية مجاورة لمعقلها في محافظة إدلب».
ويقدم طرح الانسحاب الخاص بترمب من سوريا، والذي بدأ بالفعل منذ أسبوعين، بسحب عشرة آليات على سبيل جس النبض، فرصة ذهبية لـ«داعش» للحياة وسط الفوضى والقتال المتوقع حدوثه بين تركيا والأكراد... كيف ذلك؟
المعروف أن الجنرالات في وزارة الدفاع الأميركية كانوا قد رفعوا مقترحاً للرئيس ترمب يفيد بأنه تعويضاً لقوات حماية الشعب الكردية عن الانسحاب، وبعد أن قدمت خدمات جليلة في المعارك ضد «داعش»، فإنه لا بد من ترك أسلحة أميركية ثقيلة بين أياديها للدفاع عن نفسها ضد أي محاولات لعودة «داعش» من جديد.
المقترح المتقدم هذا أشعل نيران الغضب من جانب حكومة الرئيس إردوغان الذي ينظر إلى الأكراد على أنهم قوات مارقة، وربما لو يطلق ترمب تهديده بتدمير الاقتصاد التركي، لكان إردوغان قد شن عملية عسكرية كبيرة هناك في شمال شرقي سوريا ضد الأكراد، وهي غالباً عملية محتملة في أي وقت، وساعتها ستُقدم فرصة على طبق من ذهب للدواعش، لإحياء وجودهم وسط ركام القتال والفوضى بين الجانبين.
السؤال قبل الانصراف: هل قدَّر ترمب قبل إعلانه عن هذا الانسحاب مستقبل المشهد الإرهابي الإيراني، وليس الداعشي فقط، في سوريا والعراق وبقية المنطقة، وربما وصولاً إلى تل أبيب؟
يدرك المحللون السياسيون من الأميركيين وغيرهم، أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي تخليه واشنطن، حكماً سوف تملأه إيران على الفور، وفي مقابل ألفى جندي أميركي سينسحبون من العراق، سيتمكن عشرات آلاف العناصر من وكلاء وميليشيات إيران من تثبيت أقدامهم في سوريا.
وعطفاً على ذلك فإن الشق السياسي من الانسحاب كارثي بدوره، ذلك أن إيران ستضحى صاحبة اليد العليا هناك في ما يخص رسم المشهد السياسي القادم، والذي لا بد له من أن يحقق لها منافع استراتيجية، في المقدمة منها اقتصادياً التحكم في مسألة إعادة إعمار سوريا، وهي التي تطالب الآن بالفعل بالأولوية في إعادة إعمار العراق.
غير أن الفوز الأكبر للإيرانيين، والذي يزعج ولا شك الجانب الإسرائيلي بدرجة غير مسبوقة، يتمثل في أن الانسحاب من الناحية الاستراتيجية سيمكِّن إيران من تحقيق حلمها الكبير، أي الوصول مباشرةً إلى مياه المتوسط بالنفوذ المباشر، ذلك أن الانسحاب الأميركي سيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البري الذي لطالما سعت إليه، والذي يربط طهران ببيروت والمتوسط، وبشكل عام ستكون للانسحاب الأميركي تداعيات في أنحاء المنطقة، ترجِّح كفة ميزان القوة أكثر لصالح إيران.
والخلاصة أن الانسحاب الأميركي المتسرع أو البطيء قد يفتح أبواباً لولادة الطبعة الجديدة أو النسخة المتقدمة من «داعش»، والتي ستكون أشرس وأكثر ضراوة، ما يضع النيات الأميركية بالنسبة إلى الشرق الأوسط ولبقية العالم موضع الشك، فهل «واشنطن ترمب» تتطلع إلى القضاء على الإرهاب حول العالم قولاً وفعلاً، أم أنها تعطيه مسارب وأملاً جديداً في الانتشار حول العالم؟



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟