انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

فلول التنظيم يتحينون الفرصة للنهوض... وآلته الإعلامية تنشر تقارير يومية بلغات عدة

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)

على حين غِرة ودون توقُّع أحدث الرئيس الأميركي رونالد ترمب، جلبةً وصخباً واسعَين في بلاده وحول الشرق الأوسط من جراء تغريدة تتصل بانسحاب القوات الأميركية من سوريا، والتي لا يتجاوز عددها ألفي جندي، إلا أن وجودها قد أسهم ولا شك في إدراك منجزات أميركية على صعيدين: الأول محاربة «داعش»، والثاني كبح النفوذ الإيراني المتصاعد في الداخل السوري. وقد تعلل ترمب بأن «داعش» قد قُضي عليه بالمرة، وأن المهمة هناك قد انتهت. وفي أول اجتماع لإدارته بعد موسم الأعياد، كان ترمب يحاجج بأن سوريا لا يوجد بها سوى الموت والرمال، وعليه فما فائدة البقاء هناك؟
الجدل الذي أحدثته تغريدة الرئيس ترمب، أدت إلى استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وإلى غضبة كبرى داخل صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، الأمر الذي أبطأ من سرعة الانسحاب، لكن السؤال المفتوح: ما تبعات مثل هذا القرار على عودة الدواعش مرة أخرى إلى سوريا والعراق؟ وكيف له أن يخدم المصالح الإيرانية الساعية إلى تكريس هيمنتها في المنطقة؟
يمكن بدايةً التطلع إلى ما قاله الرئيس ترمب عن فكرة انتهاء المهمة ومناقشة مصداقيتها وواقعيتها، سيما وأن الأمر حمل أصداء لجملة رئاسية أخرى جرت بها المقادير في العراق عام 2003 حين أشار بوش الابن إلى أن نصراً قد تحقق هناك، وأثبتت الأيام أن الأمر لم يكن سوى أحد ضروب الأوهام.
حمل الجدل حول إتمام مهمة القضاء على «داعش»، اثنين من الخبراء الأميركيين الثقات على الحديث بصراحة مطلقة، وهما جوشوا غيلتزر، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي كان المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب بمجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولية، وضابط الاستخبارات السابق الذي شغل منصب مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس.
وعبر صفحات «نيويورك تايمز» وفي مقال مشترك يقولان: «صحيح أن ترمب محقٌّ في أن الولايات المتحدة أحرزت تقدماً هائلاً ضد تنظيم داعش، لكن التنظيم لم يُهزم، ومهمتنا في سوريا لم تُنجز بالكامل»... والسؤال: لماذا؟
عند الخبيرَين الأميركيين أن «الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا»، ويقران بأنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإنها لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات المهنية مثل «القاعدة» و«داعش»، من أجل القضاء عليها فعلياً.
هل تعزز لغة الأرقام صحة ودقة أحاديث الخبيرين الأميركيين السابقين؟
المتابع لوسائل الإعلام الأميركية، المقروءة والمسموعة والمرئية، يدرك كم وقدر الأصوات التي سارعت إلى تفنيد ما قاله ترمب، بل ونقضه، سيما وأن فلول «داعش»، يتربصون ويتحينون الفرصة للنهوض مجدداً، كما تواصل آلة التنظيم الإعلامية، غير معروفة المقر الرئيسي، نشاطها، وتنشر تقارير يومية بلغات عدة.
خذْ على سبيل المثال ما نشرته أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي مجلة «لونغ جورنال»، من أرقام، فقد ادَّعى «داعش» تنفيذه (1922) عملية حول العالم خلال مدة 20 أسبوعاً، وحصل نصفها تقريباً (946) في العراق، وسُجلت (599) عملية في سوريا. وزعم التنظيم أنه قام بـ(44) عملية في سوريا خلال مدة أسبوع بين 6 و 13 ديسمبر الماضي.
ولم تقتصر عمليات «داعش» على العراق وسوريا فقط، فقد جاءت عملية سوق عيد الميلاد في مدينة ستراسبورغ الفرنسية والتي أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة ما لا يقل عن 12 شخصاً، لتؤكد أن «داعش» حاضر بقوة، وبصورة غير هيراركية عنقودية حول العالم، وأوروبا في مقدمة الدول المستهدفة في هذا الإطار.
لم يختفِ «داعش» ولم يُقضَ عليه دفعة واحدة، ولهذا لا يمكن أن تكون المهمة قد انتهت بالفعل، فعناصر «داعش» الفارة لا تزال مختبئة، وتمارس القتال في سوريا والعراق، وقد جاءت عملية منبج الأخيرة التي راح ضحيتها 4 أميركيين، لتثبت خطأ استنتاج ترمب، عطفاً على الوجود الداعشي في مناطق عدة ما بين دير الزور ومنطقة الحسينية على الحدود العراقية.
وبعد الضربات المكثفة التي تعرض لها التنظيم في الأعوام الماضية، بدا كأنه عاد مرة أخرى إلى فكرة «الهياكل المتكيفة»، من خلال حروب الخلايا صغيرة العدد، والقادرة على إيقاع خسائر كبرى في الأفراد، ما يعني قدرة «داعش» على مقابلة الضغوط العسكرية الحالية، وبالتالي فحال اختفاء القوة العسكرية من على الأرض، أي مع الانسحاب الأميركي، سيكون من الطبيعي أن يعود الدواعش إلى سيرتهم الأولى، أي التمسك بالأرض، ومحاولة إحياء آمال «الخلافة المزعومة».
والشاهد أن الذين لديهم علم من كتاب الاستراتيجيات العسكرية الرصينة في مواجهة جماعات الإرهاب الداعشي، قد وجدوا في طرح الانسحاب الأميركي من سوريا، معضلة حقيقية في مواجهة الإرهاب العالمي في قادم الأيام.
في مقدمة أولئك يأتي الجنرال الأميركي جون ألين، ذو النجوم الأربعة، والذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مبعوثاً خاصاً له عند التحالف الدولي لقتال «داعش» قبل أربع سنوات. عبر صحيفة «واشنطن بوست» يسأل الجنرال ألين ترمب والأميركيين: «ما وضع التنظيم حالياً حتى نحكم على قرار الرئيس ونبيِّن صوابه من خطئه؟».
وفي هذا السياق يمكن للرئيس ترمب أن يتذرع بأن «داعش» قد خسر غالبية المناطق التي هيمن عليها في سوريا والعراق، لكن الأمر الذي لا يمكن له أن ينكره هو أن مقاتلي التنظيم يعدّون بالآلاف، وإن تشتتوا بسبب القوة النارية الجوية للتحالف الدولي، وبفضل جهود قوات سوريا الديمقراطية في الميدان، إلا أن معاقل «داعش» في أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، لا تزال تعجّ بالدواعش، الخطر القاتل في الحال، وكذا في الاستقبال.
ولعل المؤكد أن فكرة القضاء المبرم وانتهاء المهمة لا يمكن أن تلامس سقف الحقيقة بمكان، فالآلة الإعلامية «الداعشية»، وفي زمن باتت تلعب فيه وسائط الاتصال الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة دوراً مزدوجاً، خيراً أو شراً، أضحى من اليسير عبرها إعادة ترتيب صفوف المقاتلين من جديد، بل الكارثة الأكبر تتمثل في المقدرة على حشد آلاف العناصر الجديدة في جميع بقاع وأصقاع الأرض بشكل يومي، ما يعني قدرته على نشر الفوضى والالتئام على أراضٍ مختلفة مرة ثانية. والتساؤل الآن: هل استطاع الجنرالات التأثير على الرئيس ترمب حتى يتمهل في الانسحاب؟
حسب الخبراء، فإن أغلب الظن أن الاجتماع الذي لم يدم سوى 45 دقيقة في العراق، مع المسؤولين العسكريين الأميركيين على الأرض، قد أوضح لترمب بعض ما كان خافياً عليه، فالتنظيم المتطرف بات قوة كبيرة وعنيدة، ولا يزال محافظاً على جيوب المقاومة ضد القوى المحلية، وذلك في خضمّ محاولته إعادة تشكيل نفسه، بالإضافة إلى إطلاقه حملة من الاغتيالات والضراوة والابتزاز ضد المجتمعات المحلية.
وبلغة خطاب مغاير، فإن خطأ أوباما في الانسحاب المتسرع من العراق عام 2011، يكاد يتكرر أمام أعيننا مرة جديدة، فالانسحاب الأميركي القادم ولا شك، حتى ولو بتمهل، سيعطي «داعش» قُبلة الحياة، وسيمكّنه من إعادة تنظيم صفوفه على الأرض في الأشهر والسنوات المقبلة، وكذا من إعادة ابتكار ذاته، واستعادة السيطرة على أراضي تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على الظهور مرة أخرى، ولسنوات طويلة قادمة.
أما المعضلة الأوسع التي يفتح الانسحاب لها أبوابه، فتتمثل في إتاحة المجال لـ«داعش»، وغيره من التنظيمات المتطرفة على الأرض للعمل بحرية أكبر في حشد السوريين الواقفين في منطقة الحياد الفكري والذهني، وربما المأزومين من جراء استحقاقات ومظالم بعينها، ما يعني حواضن بشرية جديدة يستمد منها التنظيم حياة وامتدادات في الحال والاستقبال.
أحد الأسئلة المطروحة على الرئيس ترمب: هل الانسحاب سيؤثر على عودة «داعش» فقط، أم أنه سيفتح آفاقاً لجماعات وفصائل إرهابية أخرى من توسيع نفوذها في العديد من المناطق السورية وبنوع خاص شمال غربي سوريا؟
يلفت توماس جوسلين الزميل البارز لدى معهد «الدفاع عن الديمقراطيات»، وكبير محرري مجلة «لونغ وور جورنال»، إلى أنه خلال الأسابيع الأخيرة، استطاعت «هيئة تحرير الشام» المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، تشديد قبضتها على شمال غربي سوريا. ويلفت توماس «إلى أن صدامات تحدث منذ العام الماضي، بين الهيئة وجبهة تحرير الشمال، التحالف المتكون من متمردين آخرين، ولكن سرعان ما أصبح لهيئة تحرير الشام اليد العليا على منافسيها، واستولت على مناطق استراتيجية مجاورة لمعقلها في محافظة إدلب».
ويقدم طرح الانسحاب الخاص بترمب من سوريا، والذي بدأ بالفعل منذ أسبوعين، بسحب عشرة آليات على سبيل جس النبض، فرصة ذهبية لـ«داعش» للحياة وسط الفوضى والقتال المتوقع حدوثه بين تركيا والأكراد... كيف ذلك؟
المعروف أن الجنرالات في وزارة الدفاع الأميركية كانوا قد رفعوا مقترحاً للرئيس ترمب يفيد بأنه تعويضاً لقوات حماية الشعب الكردية عن الانسحاب، وبعد أن قدمت خدمات جليلة في المعارك ضد «داعش»، فإنه لا بد من ترك أسلحة أميركية ثقيلة بين أياديها للدفاع عن نفسها ضد أي محاولات لعودة «داعش» من جديد.
المقترح المتقدم هذا أشعل نيران الغضب من جانب حكومة الرئيس إردوغان الذي ينظر إلى الأكراد على أنهم قوات مارقة، وربما لو يطلق ترمب تهديده بتدمير الاقتصاد التركي، لكان إردوغان قد شن عملية عسكرية كبيرة هناك في شمال شرقي سوريا ضد الأكراد، وهي غالباً عملية محتملة في أي وقت، وساعتها ستُقدم فرصة على طبق من ذهب للدواعش، لإحياء وجودهم وسط ركام القتال والفوضى بين الجانبين.
السؤال قبل الانصراف: هل قدَّر ترمب قبل إعلانه عن هذا الانسحاب مستقبل المشهد الإرهابي الإيراني، وليس الداعشي فقط، في سوريا والعراق وبقية المنطقة، وربما وصولاً إلى تل أبيب؟
يدرك المحللون السياسيون من الأميركيين وغيرهم، أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي تخليه واشنطن، حكماً سوف تملأه إيران على الفور، وفي مقابل ألفى جندي أميركي سينسحبون من العراق، سيتمكن عشرات آلاف العناصر من وكلاء وميليشيات إيران من تثبيت أقدامهم في سوريا.
وعطفاً على ذلك فإن الشق السياسي من الانسحاب كارثي بدوره، ذلك أن إيران ستضحى صاحبة اليد العليا هناك في ما يخص رسم المشهد السياسي القادم، والذي لا بد له من أن يحقق لها منافع استراتيجية، في المقدمة منها اقتصادياً التحكم في مسألة إعادة إعمار سوريا، وهي التي تطالب الآن بالفعل بالأولوية في إعادة إعمار العراق.
غير أن الفوز الأكبر للإيرانيين، والذي يزعج ولا شك الجانب الإسرائيلي بدرجة غير مسبوقة، يتمثل في أن الانسحاب من الناحية الاستراتيجية سيمكِّن إيران من تحقيق حلمها الكبير، أي الوصول مباشرةً إلى مياه المتوسط بالنفوذ المباشر، ذلك أن الانسحاب الأميركي سيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البري الذي لطالما سعت إليه، والذي يربط طهران ببيروت والمتوسط، وبشكل عام ستكون للانسحاب الأميركي تداعيات في أنحاء المنطقة، ترجِّح كفة ميزان القوة أكثر لصالح إيران.
والخلاصة أن الانسحاب الأميركي المتسرع أو البطيء قد يفتح أبواباً لولادة الطبعة الجديدة أو النسخة المتقدمة من «داعش»، والتي ستكون أشرس وأكثر ضراوة، ما يضع النيات الأميركية بالنسبة إلى الشرق الأوسط ولبقية العالم موضع الشك، فهل «واشنطن ترمب» تتطلع إلى القضاء على الإرهاب حول العالم قولاً وفعلاً، أم أنها تعطيه مسارب وأملاً جديداً في الانتشار حول العالم؟



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.