انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

فلول التنظيم يتحينون الفرصة للنهوض... وآلته الإعلامية تنشر تقارير يومية بلغات عدة

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

انسحاب أميركا من سوريا قُبلة حياة لـ«داعش» وتعزيز لإرهاب إيران

سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)
سوريون يتفقدون موقع التفجير الانتحاري في مدينة منبج السورية الذي أدى إلى سقوط 4 أميركيين وإصابة العشرات الأربعاء الماضي (أ.ف.ب)

على حين غِرة ودون توقُّع أحدث الرئيس الأميركي رونالد ترمب، جلبةً وصخباً واسعَين في بلاده وحول الشرق الأوسط من جراء تغريدة تتصل بانسحاب القوات الأميركية من سوريا، والتي لا يتجاوز عددها ألفي جندي، إلا أن وجودها قد أسهم ولا شك في إدراك منجزات أميركية على صعيدين: الأول محاربة «داعش»، والثاني كبح النفوذ الإيراني المتصاعد في الداخل السوري. وقد تعلل ترمب بأن «داعش» قد قُضي عليه بالمرة، وأن المهمة هناك قد انتهت. وفي أول اجتماع لإدارته بعد موسم الأعياد، كان ترمب يحاجج بأن سوريا لا يوجد بها سوى الموت والرمال، وعليه فما فائدة البقاء هناك؟
الجدل الذي أحدثته تغريدة الرئيس ترمب، أدت إلى استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وإلى غضبة كبرى داخل صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، الأمر الذي أبطأ من سرعة الانسحاب، لكن السؤال المفتوح: ما تبعات مثل هذا القرار على عودة الدواعش مرة أخرى إلى سوريا والعراق؟ وكيف له أن يخدم المصالح الإيرانية الساعية إلى تكريس هيمنتها في المنطقة؟
يمكن بدايةً التطلع إلى ما قاله الرئيس ترمب عن فكرة انتهاء المهمة ومناقشة مصداقيتها وواقعيتها، سيما وأن الأمر حمل أصداء لجملة رئاسية أخرى جرت بها المقادير في العراق عام 2003 حين أشار بوش الابن إلى أن نصراً قد تحقق هناك، وأثبتت الأيام أن الأمر لم يكن سوى أحد ضروب الأوهام.
حمل الجدل حول إتمام مهمة القضاء على «داعش»، اثنين من الخبراء الأميركيين الثقات على الحديث بصراحة مطلقة، وهما جوشوا غيلتزر، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي كان المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب بمجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولية، وضابط الاستخبارات السابق الذي شغل منصب مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس.
وعبر صفحات «نيويورك تايمز» وفي مقال مشترك يقولان: «صحيح أن ترمب محقٌّ في أن الولايات المتحدة أحرزت تقدماً هائلاً ضد تنظيم داعش، لكن التنظيم لم يُهزم، ومهمتنا في سوريا لم تُنجز بالكامل»... والسؤال: لماذا؟
عند الخبيرَين الأميركيين أن «الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا»، ويقران بأنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإنها لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات المهنية مثل «القاعدة» و«داعش»، من أجل القضاء عليها فعلياً.
هل تعزز لغة الأرقام صحة ودقة أحاديث الخبيرين الأميركيين السابقين؟
المتابع لوسائل الإعلام الأميركية، المقروءة والمسموعة والمرئية، يدرك كم وقدر الأصوات التي سارعت إلى تفنيد ما قاله ترمب، بل ونقضه، سيما وأن فلول «داعش»، يتربصون ويتحينون الفرصة للنهوض مجدداً، كما تواصل آلة التنظيم الإعلامية، غير معروفة المقر الرئيسي، نشاطها، وتنشر تقارير يومية بلغات عدة.
خذْ على سبيل المثال ما نشرته أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي مجلة «لونغ جورنال»، من أرقام، فقد ادَّعى «داعش» تنفيذه (1922) عملية حول العالم خلال مدة 20 أسبوعاً، وحصل نصفها تقريباً (946) في العراق، وسُجلت (599) عملية في سوريا. وزعم التنظيم أنه قام بـ(44) عملية في سوريا خلال مدة أسبوع بين 6 و 13 ديسمبر الماضي.
ولم تقتصر عمليات «داعش» على العراق وسوريا فقط، فقد جاءت عملية سوق عيد الميلاد في مدينة ستراسبورغ الفرنسية والتي أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة ما لا يقل عن 12 شخصاً، لتؤكد أن «داعش» حاضر بقوة، وبصورة غير هيراركية عنقودية حول العالم، وأوروبا في مقدمة الدول المستهدفة في هذا الإطار.
لم يختفِ «داعش» ولم يُقضَ عليه دفعة واحدة، ولهذا لا يمكن أن تكون المهمة قد انتهت بالفعل، فعناصر «داعش» الفارة لا تزال مختبئة، وتمارس القتال في سوريا والعراق، وقد جاءت عملية منبج الأخيرة التي راح ضحيتها 4 أميركيين، لتثبت خطأ استنتاج ترمب، عطفاً على الوجود الداعشي في مناطق عدة ما بين دير الزور ومنطقة الحسينية على الحدود العراقية.
وبعد الضربات المكثفة التي تعرض لها التنظيم في الأعوام الماضية، بدا كأنه عاد مرة أخرى إلى فكرة «الهياكل المتكيفة»، من خلال حروب الخلايا صغيرة العدد، والقادرة على إيقاع خسائر كبرى في الأفراد، ما يعني قدرة «داعش» على مقابلة الضغوط العسكرية الحالية، وبالتالي فحال اختفاء القوة العسكرية من على الأرض، أي مع الانسحاب الأميركي، سيكون من الطبيعي أن يعود الدواعش إلى سيرتهم الأولى، أي التمسك بالأرض، ومحاولة إحياء آمال «الخلافة المزعومة».
والشاهد أن الذين لديهم علم من كتاب الاستراتيجيات العسكرية الرصينة في مواجهة جماعات الإرهاب الداعشي، قد وجدوا في طرح الانسحاب الأميركي من سوريا، معضلة حقيقية في مواجهة الإرهاب العالمي في قادم الأيام.
في مقدمة أولئك يأتي الجنرال الأميركي جون ألين، ذو النجوم الأربعة، والذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مبعوثاً خاصاً له عند التحالف الدولي لقتال «داعش» قبل أربع سنوات. عبر صحيفة «واشنطن بوست» يسأل الجنرال ألين ترمب والأميركيين: «ما وضع التنظيم حالياً حتى نحكم على قرار الرئيس ونبيِّن صوابه من خطئه؟».
وفي هذا السياق يمكن للرئيس ترمب أن يتذرع بأن «داعش» قد خسر غالبية المناطق التي هيمن عليها في سوريا والعراق، لكن الأمر الذي لا يمكن له أن ينكره هو أن مقاتلي التنظيم يعدّون بالآلاف، وإن تشتتوا بسبب القوة النارية الجوية للتحالف الدولي، وبفضل جهود قوات سوريا الديمقراطية في الميدان، إلا أن معاقل «داعش» في أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، لا تزال تعجّ بالدواعش، الخطر القاتل في الحال، وكذا في الاستقبال.
ولعل المؤكد أن فكرة القضاء المبرم وانتهاء المهمة لا يمكن أن تلامس سقف الحقيقة بمكان، فالآلة الإعلامية «الداعشية»، وفي زمن باتت تلعب فيه وسائط الاتصال الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة دوراً مزدوجاً، خيراً أو شراً، أضحى من اليسير عبرها إعادة ترتيب صفوف المقاتلين من جديد، بل الكارثة الأكبر تتمثل في المقدرة على حشد آلاف العناصر الجديدة في جميع بقاع وأصقاع الأرض بشكل يومي، ما يعني قدرته على نشر الفوضى والالتئام على أراضٍ مختلفة مرة ثانية. والتساؤل الآن: هل استطاع الجنرالات التأثير على الرئيس ترمب حتى يتمهل في الانسحاب؟
حسب الخبراء، فإن أغلب الظن أن الاجتماع الذي لم يدم سوى 45 دقيقة في العراق، مع المسؤولين العسكريين الأميركيين على الأرض، قد أوضح لترمب بعض ما كان خافياً عليه، فالتنظيم المتطرف بات قوة كبيرة وعنيدة، ولا يزال محافظاً على جيوب المقاومة ضد القوى المحلية، وذلك في خضمّ محاولته إعادة تشكيل نفسه، بالإضافة إلى إطلاقه حملة من الاغتيالات والضراوة والابتزاز ضد المجتمعات المحلية.
وبلغة خطاب مغاير، فإن خطأ أوباما في الانسحاب المتسرع من العراق عام 2011، يكاد يتكرر أمام أعيننا مرة جديدة، فالانسحاب الأميركي القادم ولا شك، حتى ولو بتمهل، سيعطي «داعش» قُبلة الحياة، وسيمكّنه من إعادة تنظيم صفوفه على الأرض في الأشهر والسنوات المقبلة، وكذا من إعادة ابتكار ذاته، واستعادة السيطرة على أراضي تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على الظهور مرة أخرى، ولسنوات طويلة قادمة.
أما المعضلة الأوسع التي يفتح الانسحاب لها أبوابه، فتتمثل في إتاحة المجال لـ«داعش»، وغيره من التنظيمات المتطرفة على الأرض للعمل بحرية أكبر في حشد السوريين الواقفين في منطقة الحياد الفكري والذهني، وربما المأزومين من جراء استحقاقات ومظالم بعينها، ما يعني حواضن بشرية جديدة يستمد منها التنظيم حياة وامتدادات في الحال والاستقبال.
أحد الأسئلة المطروحة على الرئيس ترمب: هل الانسحاب سيؤثر على عودة «داعش» فقط، أم أنه سيفتح آفاقاً لجماعات وفصائل إرهابية أخرى من توسيع نفوذها في العديد من المناطق السورية وبنوع خاص شمال غربي سوريا؟
يلفت توماس جوسلين الزميل البارز لدى معهد «الدفاع عن الديمقراطيات»، وكبير محرري مجلة «لونغ وور جورنال»، إلى أنه خلال الأسابيع الأخيرة، استطاعت «هيئة تحرير الشام» المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، تشديد قبضتها على شمال غربي سوريا. ويلفت توماس «إلى أن صدامات تحدث منذ العام الماضي، بين الهيئة وجبهة تحرير الشمال، التحالف المتكون من متمردين آخرين، ولكن سرعان ما أصبح لهيئة تحرير الشام اليد العليا على منافسيها، واستولت على مناطق استراتيجية مجاورة لمعقلها في محافظة إدلب».
ويقدم طرح الانسحاب الخاص بترمب من سوريا، والذي بدأ بالفعل منذ أسبوعين، بسحب عشرة آليات على سبيل جس النبض، فرصة ذهبية لـ«داعش» للحياة وسط الفوضى والقتال المتوقع حدوثه بين تركيا والأكراد... كيف ذلك؟
المعروف أن الجنرالات في وزارة الدفاع الأميركية كانوا قد رفعوا مقترحاً للرئيس ترمب يفيد بأنه تعويضاً لقوات حماية الشعب الكردية عن الانسحاب، وبعد أن قدمت خدمات جليلة في المعارك ضد «داعش»، فإنه لا بد من ترك أسلحة أميركية ثقيلة بين أياديها للدفاع عن نفسها ضد أي محاولات لعودة «داعش» من جديد.
المقترح المتقدم هذا أشعل نيران الغضب من جانب حكومة الرئيس إردوغان الذي ينظر إلى الأكراد على أنهم قوات مارقة، وربما لو يطلق ترمب تهديده بتدمير الاقتصاد التركي، لكان إردوغان قد شن عملية عسكرية كبيرة هناك في شمال شرقي سوريا ضد الأكراد، وهي غالباً عملية محتملة في أي وقت، وساعتها ستُقدم فرصة على طبق من ذهب للدواعش، لإحياء وجودهم وسط ركام القتال والفوضى بين الجانبين.
السؤال قبل الانصراف: هل قدَّر ترمب قبل إعلانه عن هذا الانسحاب مستقبل المشهد الإرهابي الإيراني، وليس الداعشي فقط، في سوريا والعراق وبقية المنطقة، وربما وصولاً إلى تل أبيب؟
يدرك المحللون السياسيون من الأميركيين وغيرهم، أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي تخليه واشنطن، حكماً سوف تملأه إيران على الفور، وفي مقابل ألفى جندي أميركي سينسحبون من العراق، سيتمكن عشرات آلاف العناصر من وكلاء وميليشيات إيران من تثبيت أقدامهم في سوريا.
وعطفاً على ذلك فإن الشق السياسي من الانسحاب كارثي بدوره، ذلك أن إيران ستضحى صاحبة اليد العليا هناك في ما يخص رسم المشهد السياسي القادم، والذي لا بد له من أن يحقق لها منافع استراتيجية، في المقدمة منها اقتصادياً التحكم في مسألة إعادة إعمار سوريا، وهي التي تطالب الآن بالفعل بالأولوية في إعادة إعمار العراق.
غير أن الفوز الأكبر للإيرانيين، والذي يزعج ولا شك الجانب الإسرائيلي بدرجة غير مسبوقة، يتمثل في أن الانسحاب من الناحية الاستراتيجية سيمكِّن إيران من تحقيق حلمها الكبير، أي الوصول مباشرةً إلى مياه المتوسط بالنفوذ المباشر، ذلك أن الانسحاب الأميركي سيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البري الذي لطالما سعت إليه، والذي يربط طهران ببيروت والمتوسط، وبشكل عام ستكون للانسحاب الأميركي تداعيات في أنحاء المنطقة، ترجِّح كفة ميزان القوة أكثر لصالح إيران.
والخلاصة أن الانسحاب الأميركي المتسرع أو البطيء قد يفتح أبواباً لولادة الطبعة الجديدة أو النسخة المتقدمة من «داعش»، والتي ستكون أشرس وأكثر ضراوة، ما يضع النيات الأميركية بالنسبة إلى الشرق الأوسط ولبقية العالم موضع الشك، فهل «واشنطن ترمب» تتطلع إلى القضاء على الإرهاب حول العالم قولاً وفعلاً، أم أنها تعطيه مسارب وأملاً جديداً في الانتشار حول العالم؟



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.