مُنيت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أمس، بأسوأ خسارة تشهدها حكومة بريطانية في التاريخ الحديث، فقد صوّت النواب البريطانيون بغالبية ساحقة على رفض اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي توصلت إليه لندن مع بروكسل، في تصويت تاريخي يعلّق مصير «بريكست» ومستقبل ماي السياسي.
ورفض مجلس العموم، بغالبية 432 صوتاً، مقابل 202، الاتفاق الذي توصّلت إليه رئيسة الوزراء مع الاتحاد الأوروبي، مسجّلاً أفدح خسارة لأي حكومة بريطانية في البرلمان منذ نحو 95 عاماً، وفق «بلومبرغ». وفتحت هذه النتيجة الباب أمام سيناريوهات عدة، معززة حالة الغموض التي تعاني منها بريطانيا منذ استفتاء الخروج من الاتحاد في يونيو (حزيران) 2016، ومتسببة بقلق شديد في مجتمع الأعمال.
وتثير هذه الهزيمة التي فاقت فداحتها توقعات المحللين أسئلة حول قدرة الحكومة الحالية، أو أي حكومة أخرى تتسلم السلطة بعد انتخابات مبكرة، على تنفيذ وعد «بريكست» والتوصل مع بروكسل إلى اتفاق مرضٍ للجانبين، بحلول 19 مارس (آذار) المقبل، أي خلال 73 يوماً.
وبالنظر إلى التقدم البطيء الذي أحرزته ماي وتشكيلاتها الوزارية المتعاقبة في إبرام اتفاق مقنع للطرفين خلال 18 شهراً، يبدو أن السيناريو الذي يفرض نفسه هو تأجيل موعد الخروج بضعة أسابيع أو أشهر، عبر مطالبة المفوضية الأوروبية بتمديد مهلة تطبيق المادة 50 من معاهدة لشبونة المتعلقة بتفعيل إجراءات الخروج. واستبق نواب في البرلمان الأوروبي نتيجة أمس، بالتعبير عن ترحيبهم بهذا الخيار وأملهم في تراجع بريطانيا عن قرارها الانسحاب.
وإلى جانب الغموض الذي يحيط بمصير «بريكست» بعد تصويت أمس، تأتي التساؤلات حول المستقبل السياسي لتيريزا ماي، وما إذا كانت ستنجح في الصمود والحفاظ على منصبها، رغم افتقارها إلى الشرعية داخل حزبها المحافظ وأمام الناخبين.
سحب الثقة
ومباشرة بعد التصويت، اعترفت ماي بهزيمتها، وقالت إن «المجلس قال كلمته» وإن «الحكومة ستمتثل». وتابعت: «من الواضح أن المجلس لا يؤيد هذا الاتفاق، لكن التصويت هذه الليلة لا يكشف ماذا يؤيد». واعتبرت أن التصويت لا يكشف «أي شيء حول الطريقة التي ينوي بها (المجلس) تطبيق قرار الشعب البريطاني» بالخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى ما إذا كان ينوي فعل ذلك.
وأيدت ماي فكرة طرح الأحزاب المعارضة، بقيادة «العمال»، سحب الثقة من حكومتها، مدركة أنها تتمتع بالأصوات الكافية للبقاء في السلطة، مع تأكيد غالبية النواب المحافظين وحلفائهم في الحكومة من ممثلي «الحزب الوحدوي» الآيرلندي الشمالي، دعمها.
في المقابل، قدّم زعيم المعارضة العمالية جيريمي كوربن مذكرة لحجب الثقة عن حكومة ماي بعد دقائق من التصويت. وقال: «قدمت اقتراحاً بحجب الثقة عن هذه الحكومة»، واصفاً هزيمة الحكومة بأنها «كارثية». ومن المتوقع أن يصوّت مجلس العموم على مذكرة سحب الثقة بعد ظهر اليوم.
طرق أبواب بروكسل
وفي حال نجحت ماي في تجاوز تصويت سحب الثقة اليوم، فمن المرجح أن تعود لطرق أبواب بروكسل من جديد. وأكّدت رئيسة الوزراء تمسكها بموعد الخروج المحدد في 29 مارس المقبل، وأعلنت عن استعدادها للعودة إلى بروكسل للتفاوض حول اتفاق الخروج وبند آلية «شبكة الأمان» المثيرة للجدل.
إلا أن مساعي رئيسة الوزراء قوبلت برفض من داخل حزبها المحافظ ومن طرف قيادات المؤسسات الأوروبية. وقال بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق الذي كان استقال احتجاجاً على الاتفاق، إنه يدعم التوصل إلى اتفاق جديد مع بروكسل، مستبعداً إعادة التفاوض حول اتفاق ماي الذي وصفه بـ«الميت». ومن جانب بروكسل، أعاد مسؤولون أوروبيون، وفي مقدّمتهم رئيس الحكومة الإيرلندي ليو فاردكار، تأكيدهم على رفض إعادة التفاوض على صيغة اتفاق الخروج.
ودعا رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك السياسيين البريطانيين إلى إعادة النظر في استراتيجيتهم بشأن «بريكست». وكتب في تغريدة: «إذا كان الاتفاق مستحيلاً، والكل يريد اتفاقاً، عندها من ستكون لديه الشجاعة لقول الحل الإيجابي الوحيد؟». أما رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فاستعجل قادة المملكة المتحدة لتوضيح موقفها مع اقتراب موعد الخروج.
تنظيم استفتاء ثانٍ
يحظى خيار تنظيم استفتاء جديد للخروج من الأزمة السياسية المرتبطة بـ«بريكست» بزخم متزايد؛ خصوصاً إذا فشل «العمال» في سحب الثقة من حكومة ماي بعد ظهر اليوم. ومع اختلاف مواقف النواب البريطانيين، إلا أنهم يتحدون في رفض سيناريو الخروج من دون اتفاق الذي سيحمل تداعيات كارثية على الاقتصاد البريطاني والأسواق الأوروبية.
ويلقي حزب «الديمقراطيين الأحرار» بكل ثقله السياسي وراء خيار الاستفتاء الثاني، ويدعمه في ذلك نواب من «العمال» و«الخضر» وبعض «المحافظين». ويتجه بعض نواب «العمال» إلى الضغط على زعيمهم كوربن الذي رفض مراراً دعم استفتاء جديد. وقال النائب شوكا أمونا، وزير الاقتصاد في حكومة الظل، إنه في حال باءت محاولة إزاحة ماي بالفشل، فإن الحل الوحيد لكسر الجمود السياسي المحيط بـ«بريكست» هو الدعوة لتنظيم استفتاء جديد.
لماذا يعارض النواب اتفاق ماي؟
رغم اختلاف توجهاتهم السياسية، تجمع غالبية النواب البريطانيين على رفض آلية «شبكة الأمان» التي ينص عليها الاتفاق، والتي تقضي بإنشاء «منطقة جمركية واحدة» تشمل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لا تطبَّق فيها أي أنظمة للحصص أو رسوم جمركية على السلع الصناعية والزراعية. ويعتبر الاتفاق أنه يمكن اللجوء إلى هذه الآلية بعد الفترة الانتقالية (المتوقع استمرارها حتى 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020 والقابلة للتجديد)، إذا لم يتم إيجاد تسوية أفضل بحلول منتصف 2020 بين لندن وبروكسل.
وبينما يهدف هذا الحل، الذي يُفترض أن يكون مؤقتاً، إلى تجنيب عودة الحدود بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا، وحماية اتفاقات السلام الموقعة في 1998، إلا أنّه يهدد في الوقت نفسه قدرة بريطانيا على إبرام اتفاقات تجارة حرة مع دول ثالثة، ويُخضع المملكة المتحدة لقوانين السوق المشتركة الأوروبية من دون أن تشارك في التصويت عليها.