هولندا والتمركز الثقافي الأوروبي

TT

هولندا والتمركز الثقافي الأوروبي

يقف المرء منبهراً في متحف «الأرميتاج» أمام القسم الخاص بالفنان الهولندي «رامبرانت» وهو يتذوق عظمة فنه والأبعاد التأملية في لوحاته، والانبهار نفسه يحدث مع لوحات فنانين هولنديين آخرين في متحف «الأرميتاج». ولعل ما يغيب عن البعض هو أن الحركة الفنية الهولندية في واقع الأمر كانت جزءاً من حركة ثقافية واسعة متكاملة شملت الفن والرواية والفكر وغيرها من المكونات الثقافية التي جعلت هولندا مركز الإشعاع الثقافي لكل أوروبا بحلول منتصف القرن السابع عشر ولحقب متتالية، رغم صغر حجمها المقارن وظروفها التاريخية الصعبة. ويبدو أن التاريخ هنا يلمح لنا بفرضية مؤداها أن الدول أو المجتمعات التي أصبحت مركز إشعاع ثقافي وفكري دولي ارتبطت وتزامنت مع حالة استقرار سياسي وتنمية اقتصادية وانفتاح خارجي نسبي، إلى جانب عوامل أخرى بطبيعة الحال، وهو ما حدث مع دويلات اليونان في العصر الهيليني، والدولة الرومانية والعباسية الأولى، وكذلك حركة البعث في إيطاليا، والتجربة الألمانية في القرن الثامن عشر، وهولندا في القرن السابع عشر لم تختلف، وإن كانت تمثل في تقديري أفضل تجسيد لهذه الفرضية.
لقد كانت «هولندا» أو «الأقاليم المتحدة» أو «الأراضي المنخفضة»، بما فيها بلجيكا، جزءاً من الإمبراطورية الإسبانية الكاثوليكية حتى أصابتها الحرب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، خصوصاً المذهب «الكالفيني» الذي ولَّد نوعاً من الشعور القومي المتباين، مما دفع الأقاليم الهولندية السبعة للتوحد أمام القوى الكاثوليكية المهيمنة، فدخلوا في حروب ممتدة إلى أن تحقق لهم حلم الاستقلال رسمياً عن إسبانيا في 1648، وكونوا معاً تحت قيادة أسرة «الأورانج» نوعاً من الفيدرالية المعترف بها، وسرعان ما وضعوا جهدهم الشديد نحو التطوير، معتمدين على التجارة والتصنيع، إلى أن أصبحت هولندا أغني البقاع الأوروبية، ولديها أساطيل تجارية وحربية وتراكم رأسمالي فريد، رغم صغر حجمها، وهو ما جعلها تملك مستعمرات واسعة في الشرق والغرب، حتى وصفتها كتب التاريخ بأنها كانت إحدى القوى العظمي في القرن السابع عشر، فكانت منطقة «نيويورك» وملحقاتها جزءاً من هولندا تحت اسم «أمستردام الجديدة»، قبل أن ينتزعها الإنجليز ويغيروا اسمها، وكانت أساطيلها التجارية تعمل تحت اسم «شركة الهند الشرقية الهولندية» التي سرعان ما صار لها نظير غربي.
ويبدو أن الرفاهية المادية المتولدة عن التجارة والصناعة، التي بُنيت على أساس سياسي منفتح متوازن، قد حسمت الأمر، فأصبحت هولندا مركز الإشعاع الثقافي والفكري في أوروبا بحلول منتصف القرن السابع عشر، وقد ساهمت التركيبة الليبرالية النسبية للنظام السياسي وقيمه المترسخة في خلق البيئة المناسبة، بعدما لفظت التشدد الكاثوليكي، وفتحت المجال أمام التحرر الفكري، فدشنت سلسلة من الجامعات، على رأسها جامعة «لايدن» التي تخصصت في علم اللغات المقارن لمواكبة الانفتاح على العالم الخارجي، وقد تزامن مع ذلك ظهور تيار من الكتاب والروائيين الهولنديين، إضافة إلى حركة فنية عظيمة أخرجت الفن عن الرسم التقليدي المرتبط بالرموز الدينية وكل ما هو كنسي، وإطلاقه نحو الطبيعة والخيال والتركيز على الإنسان في ذاته المجردة، فظهرت المدرسة الفنية العلمانية الهولندية، بقيادة «رامبرانت»، وساعدها على ذلك تبنى كثير من التجار والطبقة البازغة الجديدة لهؤلاء الفنانين وتمويلهم.
وعلى المستوى الثقافي والفكري، تحولت أمستردام وما حولها من مدن إلى مركز متكامل للفكر والبيئة الحاضنة للمفكرين الأوروبيين، بعد لجوئهم إليها سعياً لحرية الفكر، وعلى رأسهم الفرنسي «ديكارت» الذي ألف أعظم كتبه هناك، فأصبحت أكبر مركز للنشر، حيث قام كثير من المفكرين بنشر فكرهم هناك للابتعاد عن بطش النظم المتشددة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فولدت هولندا واحتضنت مفكرين عظماء، على رأسهم الفيلسوف اليهودي «أسبينوزا»، و«هوجو جروتيس» الملقب بأبي القانون الدولي، و«فوندل» و«كاتس»، والقائمة ممتدة. وقد استمرت هذه الموجة الثقافية المتوهجة تضيء سماء أوروبا في هذه الفترة إلى أن بدأت المنافسة التجارية، ومعها الصراعات السياسية والعسكرية، مع الدول الكبرى تحجمها تدريجياً، وتزامن مع ذلك حالة تدهور تجاري ومالي وسياسي، مما أفقد هولندا قيمتها كمركز إشعاع ثقافي وفكري لصالح القوى البازغة الأخرى، فانطفأت الشعلة الفكرية، وضعف المركز الثقافي الحاضن لأوروبا.
حقيقة الأمر أن تحول هولندا كمركز للثقافة والفكر والفن في القرن السابع عشر عكس بوضوح أن الملكات الفردية للمفكر أو الفنان ستظل فردية تخصه، وسيصبح هو مجرد نتوء أكثر منه تمثيلاً للقاعدة ما لم يكن المجتمع نفسه أو الدولة خالقة وحاضنة لبيئة تسمح له ولغيره بالتطور فيها، فالبزوغ الثقافي على المستوى الجمعي لا يولد من الفراغ السياسي والعبث الاقتصادي والتضييق الخارجي والتشدد الفكري، فلكي تصبح الدولة منارة فكرية ومنطقة جذب وخصوبة وإشعاع ثقافي ممتد، فإنها بحاجة إلى قدر كبير من الاستقرار السياسي، والثبات الاقتصادي الممزوج بإدارة سياسية متفتحة، تعي قيمة الثقافة والفكر باعتباره من مكونات قوة الدولة، أو ما نطلق عليه حديثاً «القوة الناعمة»، وهو ما يجعل الدولة بلا شك المساهم الأول والأكبر في خلق هذه البيئة، وهذه حكمة التاريخ لكيفية تحويل المجتمعات من حاضنة لنتوء عبقري فردي إلى مركز ثقافي جمعي خصب مشع يُدفئ مجتمعاتها وما حولها بفكر وفن شخصيات لها آثارها الممتدة.



انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
TT

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)

انطلقت فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بعنوان «عقول مبدعة بلا حدود» في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، الذي يجمع نخبةً من الخبراء والموهوبين في مجالات العلوم والتقنية والابتكار، ويشارك فيه أكثر من 300 موهوب ومتحدثون محليون ودوليون من أكثر من 50 دولةً، وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. ونيابة عنه، افتتح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر الذي تنظمه مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» بالعاصمة السعودية، وشهد توقيع عدد من الاتفاقيات بين «موهبة» وعدد من الجهات.

أمير الرياض خلال افتتاحه فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر (واس)

ورفع أمين عام «موهبة» المكلف الدكتور خالد الشريف، كلمة رفع فيها الشكر لخادم الحرمين الشريفين على رعايته للمؤتمر، ودعمه المستمر لكل ما يُعزز ريادة السعودية في إطلاق المبادرات النوعية التي تمثل قيمة مضافة لمستقبل الإنسانية، مثمناً حضور وتشريف أمير منطقة الرياض لحفل الافتتاح.

وقال الدكتور الشريف: «إن قيادة السعودية تؤمن بأهمية الاستثمار برعاية الموهوبين والمبدعين باعتبارهم الركيزة الأساسية لازدهار الأوطان والطاقة الكامنة التي تصنع آفاقاً مستقبلية لخدمة البشرية»، مشيراً إلى أن العالم شاهد على الحراك الشامل لمنظومة تنمية القدرات البشرية في المملكة لبناء قدرات الإنسان والاستثمار في إمكاناته، في ظل «رؤية السعودية 2030»، بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية.

وأكد الدكتور الشريف أن هذا الحراك يواكب ما يزخر به وطننا من طاقات بشرية شابة موهوبة ومبدعة في شتى المجالات، يتجاوز إبداعها حدود بلادنا ليصل إلى العالمية، وهو ما مكن المملكة من أن تصبح حاضنة لألمع العقول العالمية الموهوبة والمبدعة، وحاضرة إنسانية واقتصادية واعدة بمستقبل زاهر ينعكس على العالم أجمع.

وأوضح أن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بنسخته الثالثة يشكّل منصةً ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم، لتستلهم معاً حلولاً مبتكرة تعزز جودة الحياة في مجتمعاتنا، وتبرز الفرص، وتعزز التعاون الإبداعي بين الشعوب.

انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي (واس)

ولفت النظر إلى أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي؛ حيث أمضت 25 عاماً في دعم الرؤى بعيدة المدى للموهبة والإبداع، وباتت مشاركاً رئيسياً في المنظومة الداعمة لاكتشاف ورعاية الطاقات الشابة الموهوبة والمبدعة، بمنهجية تُعد الأكثر شمولاً على مستوى العالم لرعاية الأداء العالي والإبداع.

عقب ذلك شاهد أمير منطقة الرياض والحضور عرضاً مرئياً بمناسبة اليوبيل الفضي لإنشائها، وإنجازاتها الوطنية خلال الـ25 عاماً الماضية، ثم دشن «استراتيجية موهبة 2030» وهويتها المؤسسية الجديدة، كما دشن منصة «موهبة ميتا مايندز» (M3)، وهي منصة عالمية مصممة لربط ودعم وتمكين الأفراد الموهوبين في البيئات الأكاديمية أو قطاعات الأعمال، إلى جانب تدشين الموقع الإلكتروني الجديد لـ«موهبة»، الذي تواصل المؤسسة من خلاله تقديم خدماتها لجميع مستفيديها من الموهوبين وأولياء الأمور.

ويهدف المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع إلى إظهار إمكانات الموهوبين، وتطوير نظام رعاية شامل ومتكامل للموهوبين، وتعزيز التكامل والشراكات الاستراتيجية، وتحسين وتعزيز فرص التبادل والتعاون الدولي، ويشتمل المؤتمر على 6 جلساتٍ حوارية، و8 ورش عمل، وكرياثون الإبداع بمساراته الـ4، ومتحدثين رئيسيين؛ حيث يسعى المشاركون فيها إلى إيجاد الحلول الإبداعية المبتكرة للتحديات المعاصرة، إلى جانب فعاليات مصاحبة، تشمل معرضاً وزياراتٍ ثقافيةً متنوعةً على هامش المؤتمر.