مسارات الإرهاب في 2019

{القاعدة} تخطط لاختراق أفريقيا والصحراء من جديد

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

مسارات الإرهاب في 2019

تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)
تأهب أمني في مدينة ستراسبورغ عقب هجوم إرهابي تبناه تنظيم {داعش} استهدف سوقاً في المدينة الفرنسية الشهر الماضي (إ.ب.أ)

أحد الأسئلة الجوهرية التي تواجه الباحثين في شؤون الإرهاب حول العالم ونحن على عتبات العام الجديد، هو ذلك المتعلق بمسار العنف المسلح والمنطلق في عباءات آيديولوجية تارة والمتدثر بأردية دوغمائية تارة أخرى، وفي كل الأحوال لا يحمل الخير للبشر بل الشر والموت.
قبل أن ينتهي العام المنصرم، خيل للكثيرين أن العام الجديد سوف يضحى أفضل حالاً من سابقه، غير أن قراءات معمقة صادرة من مراكز دولية، وعن عقول خبيرة واعية بأبعاد الأزمة تشير إلى أن ذلك لن يضحى كذلك.
على أبواب 2019 لا يزال هناك فارق واضح بين إرهاب الدول وإرهاب الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها، عطفاً على الشكل الذي بات أكثر إزعاجاً حول الكرة الأرضية، أي الإرهاب الفردي، ونموذج «الذئاب المنفردة»، والأشد خطورة هنا أولئك غير المرصودين أو المعروفين بالانتماء لجماعات إرهابية عنقودية.
يمكن للمرء بداية الحديث قطعا عن إرهاب الدول، لا سيما بعد أن أكد استطلاع رأي لخبراء السياسة الأميركية أن إيران تعد أكبر المهددين للأمن والسلم في العالم في العام الجديد. الخلاصة المتقدمة لم تأتِ من فراغ، بل هي حصاد معلومات ومتابعات لما تقوم به طهران من إرهاب الوكلاء والميليشيات في الشرق الأوسط تحديداً، عطفاً على الأدوار القاتلة في كل من أميركا اللاتينية، ودول البلقان، والتي ألقينا عليها الضوء في قراءات سابقة. والشاهد أن الخبراء الأميركيين الذين يتهمون إيران بالتدخل في النزاعات القومية، ودعم الجماعات الإرهابية في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة والذين ينتمون إلى مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في واشنطن، قد رصدوا بعين المحللين الثقات الأرقام المتغيرة في الموازنة الإيرانية الجديدة لعام 2019. إذ أشارت تقارير من جهات مختلفة إلى قيام حكومة الملالي برفع مستوى الدعم للحرس الثوري ضمن الموازنة الجديدة لتصل إلى 6 مليارات، بعد أن كانت 4.8 مليار في ميزانية 2018، أي بزيادة قدرها 25 في المائة، والمثير في الأمر أن مخصصات وزارة الدفاع تراجعت من 17 مليار دولار عام 2018 إلى النصف في موازنة 2019. وحال محاولة فهم ماذا يعني ذلك، فإن النتيجة المؤكدة هي أن الحرس الثوري الموكول إليه العمليات الإرهابية الإيرانية، بات يجد المزيد من التمويل لتعكير صفو الأمن العام الدولي وتكدير سلمه.
ماذا عن أكبر جماعة ظلامية معاصرة في العالم الجديد؟
الإشارة ولاشك لـ«داعش» ومستقبل تحركاته عربياً أولاً ودولياً ثانياً، لا سيما بعد أن استدعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأيام الماضية عن اكتمال المهمة في سوريا بالقضاء على «داعش» الكثير من الأسئلة: فهل حقاً هزمت «داعش» هزيمة مبرمة في العراق وسوريا، وبهذا يكون قد انكسر شرها، وذهبت خطورتها إلى أضابير التاريخ؟
في الأسبوع الأخير من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كتب توماس جوسلين كبير محرري مجلة «لونغ جورنال» تحقيقاً مطولاً عنوانه: «لم نهزم (داعش) بعد»، أشار فيه إلى بقاء عدد من كبار قادة التنظيم على قيد الحياة، بمن فيهم أبو بكر البغدادي، إضافة إلى آلاف المقاتلين في كل من سوريا والعراق وما يدل على أن عودة «داعش» ليست بعيدة حرص هؤلاء على التدريب المستمر في انتظار فرصة جديدة للنهوض مرة ثانية، عطفاً على مواصلة آلة التنظيم الإعلامية، والتي يعتقد أن مقرها الرئيسي لا يزال شرق أوسطي، وتنشر يومياً تقارير بلغات عدة.
أما حال استخدام الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل والمتصلة بعدد عمليات «داعش» خلال مدة 20 أسبوعاً، فنحن أمام حقيقة مؤكدة وهي أن التنظيم لا يزال قادراً على إحداث ضربات إرهابية وإن تراوحت قوتها حول العالم، ففي الفترة المرصودة ادعى «داعش» تنفيذه 1922 عملية، نصفها تقريباً في العراق أي نحو 946. وهناك 599 عملية في سوريا... فهل يمكن لتلك الجماعة أن تكون قد هزمت مرة وإلى الأبد؟
كذلك، أثبتت حادثة مدينة ستراسبوغ في فرنسا مؤخراً أن كارثة «داعش» ترتبط بالتوجيه الذهني والولاء العقائدي، إذ ليس شرطاً أن يكون الإرهابي الداعشي على اتصال تنظيمي بالقيادة في الشرق الأوسط، لكي يقدم على عملية بعينها، سيما وأن هناك تصريحات سابقة للمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، يشير فيها إلى أن الأدوات البسيطة كافة يمكن أن تكون أداة لقتل الكفار من الإنجليز والفرنسين وغيرهم، كالسكين، والدهس بالسيارات، وصولاً إلى إلقاء الحجارة لو تطلب الأمر.
ولأن الأميركيين بنوع خاص لديهم مخاوف من أن يتمدد «داعش» داخل بلادهم المتمترسة وراء محيطين على حين غرة، لذا كان التركيز من كبريات الصحف الأميركية على الخطر الداعشي والجدل حول ما قاله ترمب، وهذا ما دفع جوشوا غيلترز، المدير التنفيذي لمعهد الدفاع عن الحقوق الدستورية بجامعة جورج تاون الأميركية، والذي شغل من قبل منصب المدير الأعلى لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأميركي، وكريستوفر كوستا، المدير التنفيذي لمتحف الجاسوسية الدولي، وضابط الاستخبارات السابق، وقد شغل بدوره مدير قسم مكافحة الإرهاب في المجلس، لكتابة مقال مطول ورصين بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، أشار المقال إلى أن مهمة هزيمة «داعش» لم تنجز بالكامل، سيما وأن الجزء الأصعب ربما لم يأتِ بعد، وهو التعامل مع بقايا نواة التنظيم في العراق وسوريا، والخلاصة لديهما هي أنه رغم جميع النجاحات الكثيرة التي حققتها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تتوصل بعد إلى طريقة كاملة لتجاوز أهم منعطف في سبيل هزيمة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة و«داعش»، من أجل القضاء عليها. والثابت أن ذكر اسم تنظيم القاعدة يعود بنا إلى حضور التنظيم الذي من رحمه خرجت «داعش» في العراق، ومآلاته في العام الجديد، وهو المعروف بحضوره الفكري والعقائدي بأكثر من عملياته النوعية كما الحال مع «داعش» ؟
مع الأيام الأولى من العام الجديد كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، يصدر قراءته عن تنظيم القاعدة، وكيف أنه يسعى لبسط نفوذه في مناطق أفريقيا وجنوب الصحراء، وفق استراتيجية تستند إلى أربعة أسس رئيسية هي: التحالفات مع الجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة والتي تنتهج آيديولوجيته، وتتلاقى في المصالح والأهداف معه، ثم الضرب على وتر العرقية، إذ يحرص تنظيم القاعدة دائماً على الاحتفاظ بظهير عرقي يمثل مصدراً رئيسياً للعناصر الإرهابية التي يمكن أن تنضم إليه، كي يتخطى الخسائر التي يتعرض لها بسبب العمليات العسكرية ضده، واستخدام أساليب جديدة لم يكن يستخدمها من قبل، إذ يحاول على سبيل المثال في المغرب أن يرد على الهجمات التي تشن ضده بأساليب مختلفة وسريعة، خشية أن يؤثر عدم الرد على تمسكه الداخلي وإضعاف قدرته على التوسع في المنطقة.
في سياق البحث عن المشهد الإرهابي القادم، يستطيع المرء القطع بأن هناك تنظيمات وخلايا جديدة غير مركزية قد تنشأ حول العالم، لا سيما في أفريقيا وآسيا، وليس شرطاً أن تكون ذات مقدرة عالية، بل يكفي أن تلتقي نوايا إيقاع الأذى بالآخرين لحدوث عمليات إرهابية كبيرة من خلال أدوات تبدو في الظاهر صغيرة.
التحليل السابق يمكن ومن أسف أن يكون له حظ من النجاح لأسباب منطقية تسلسلية فقد كانت حركة المجاهدين العرب في أفغانستان هي المصدر الرئيسي لتنظيم القاعدة في التسعينات، ذلك الذي أذاق العالم الكثير من الألم وصولاً إلى العام الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتالياً في العقد الثاني كانت «داعش» تنبعث من ركام القاعدة في العراق، وتتمدد في سوريا، وها نحن على عتبات العقد الثالث من القرن الجديد، وفيه تبقى الاحتمالات مفتوحة وواردة، وقابلة لظهور تنظيمات أخرى، ربما تكون ثمرة التقاء للفارين من الدواعش، وبقايا القاعدة، إضافة إلى جماعات أخرى بعضها بات يعرف بصفته إرهاباً عائلياً، حيث نجد عمليات بعينها يقوم بها أقارب ومن دون أن يخالطهم غريب، الأمر الذي يعقد من مسألة المتابعة الأمنية، أو إفشال مثل تلك المخططات قبل حدوثها.
من بين تلك الإشكاليات العريضة المتصلة بالإرهاب في العام الجديد يبقى الحديث عن مهارات الاتصالات بين الإرهابيين الذين باتوا خبراء ولا نغالي إن قلنا إنهم أضحوا «إرهابيين معولمين»، بمعنى حضورهم العالي في مجال التكنولوجيا الذكية، والالتفاف من حول الرقابة الأمنية، ما بعد التقليدية، وذلك من خلال زيادة استخدام التطبيقات المشفرة، فقد بات من المحتمل أن تحاول جماعات إرهابية محاكاة وتطوير التقنيات والأساليب التي تستخدمها المنظمات الإجرامية العابرة للحدود.
وفي الإطار نفسه يبقى الإرهاب السيبراني مجالاً جديداً للجماعات الإرهابية للتعاطي من خلاله، سيما وأنه أصبح عالماً ورائياً غير مرئي من السلطات التي تراقب الإرهاب والمتشددين، ومن هنا فإن المخاوف من أن يسابق الإرهابيون ولو بخطو واحدة الأجهزة المعنية، وفي هذها الحال ربما تكون الضحايا بالآلاف أو الملايين، إذا استطاع الإرهابيون اختراق شبكات الدفاع والصواريخ لدولة كبرى، أو طالت أياديهم مفاتيح الشفرات التي تنظم حركة الطائرات في المجال الجوي أو الوصول إلى محطات الكهرباء والبنى التحتية لدولة ما.
أضف إلى ما تقدم فإن هناك رعباً جديداً ينتظر أن يستطير شره في الأعوام المقبلة، منه على سبيل المثال لا الحصر إشكالية الطائرات من دون طيار، فحتى لو كانت في شكل بدائي، فإن خطر تحميلها بمتفجرات يبقى كارثياً ويهدد الآمنين بشراً وحجراً.
يأمل المرء أن يكون 2019 أفضل حظاً من سابقه، لكن حقيقة الأمر تبين أن المخاوف القائمة والقادمة تستدعي وتتطلب استراتيجية دولية حقيقية غير مرائية، إن أراد الجميع الخلاص من الشر الآتي من بعيد.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.