«الذئاب المنفردة» والشبكات الإرهابية في المغرب

صراع ما بين التطرف وقبضة الأمن

مغربي يتابع  آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
مغربي يتابع آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
TT

«الذئاب المنفردة» والشبكات الإرهابية في المغرب

مغربي يتابع  آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)
مغربي يتابع آثار العمل الإرهابي الذي ضرب مطعم كاسا دي إسبانيا في الدار البيضاء يوم17 مايو 2003 (غيتي)

أظهرت العملية الإرهابية التي وقعت بمنطقة إمليل قرب مدينة مراكش السياحية، في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2018؛ والتي أسفرت عن مقتل سائحة دنماركية وأخرى نرويجية، أن المغرب لا يزال يعاني بشكل مباشر من الخطر الإرهابي. ومن المثير أن تنظيم داعش لم يعلن إلى اليوم، مسؤوليته عن العملية؛ رغم أن المنفذين أعلنوا مبايعتهم للتنظيم المتطرف.
كما بينت التحريات التي ما زالت مستمرة، وأدت لاعتقال 17 شخصاً، أن الأمر لا يتعلق بمجرد «ذئاب منفردة»، أو خلية من الخلايا المحلية؛ والتي اعتادت المصالح الأمنية التعامل معها منذ سنة 2003. فرغم أن العملية الإرهابية البشعة، نفذت بوسائل بسيطة (السكاكين)، فإن تعميق البحث الأمني، أدى إلى الكشف عن شبكة إرهابية. كما تبين من خلال تصريحات مغربية رسمية، أن الأفراد الموقوفين يسود بينهم نوع من التعاون، والتواصل المستمر؛ والمؤطر ضمن رؤية تهدف إلى تنفيذ مجموعة من الأعمال الإرهابية بالمغرب، والحصول على السلاح. وكذا تجنيد شباب مغاربة للالتحاق بمجموعات متطرفة، في منطقة الساحل والصحراء.

صعوبات المواجهة
من الواضح، أن الشبكة الإرهابية الجديدة استطاعت، أن تشكل تحدياً للنجاحات الكبيرة التي حققتها الأجهزة الأمنية المغربية بعد تفجير مقهي أركانة بمراكش في أبريل (نيسان) 2011. والذي تم بواسطة «ذئاب منفردة»، وأدى إلى سقوط 17 قتيلاً و20 جريحاً. ويبدو أن هذا القفز فوق الحواجز الأمنية، الذي حققته هذه الشبكة، يعبر عن الصعوبات الحقيقية التي تواجهها الدول، أمام القدرة الكبيرة، والانسياب، الذي تحققه، الجماعات الإرهابية، على مستوى، نشر، وتجنيد، ونقل الخبرة القتالية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ باستعمال «فيسبوك» و«ماسنجر» و«إنستغرام».
فقد ساعدت عدة عوامل موضوعية، الشبكة الإرهابية على إحداث هذا الاختراق الأمني. ويبدو أن أولها، راجع، لطبيعة المنطقة القروية، والبعيدة عن المدينة، حيث ألفت الخلايا النائمة العمل، وارتكاب أعمالها الإرهابية، داخل المدن الكبرى المغربية وخاصة الدار البيضاء، ومراكش؛ لما يشكله المكان، من دلالة رمزية، ودعاية وتأثير بالنسبة لآيديولوجية الجماعات المتطرفة.
أما العامل الثاني، فيعود لأشخاص الخلية المنفذة للعملية؛ حيث إن ثلاثة من أعضاء «الخلية»، المرتكبة للعملية، مستواهم التعليمي متدنٍ جداً، ولا يؤهلهم لاستعمال وسائل التواصل الاجتماعي. فمثلاً عبد الرحمان خيالي، والذي سجل ببيته فيديو لمبايعة «داعش» لم يتمم دراسته، حيث غادر الدراسة في السنة الأولى إعدادي، ثم توجه نحو تعلم حرفة السمكرة «بلومبي»، والتي ضمنت له قوت اليوم لسنوات داخل فندق مصنف بمدينة مراكش، قبل أن يغادر عمله منذ أربع سنوات، ويشتغل لحسابه الخاص. وتقول زوجته عائشة: «تزوجت به عام 2010. رغم أني من عائلة محافظة، وأرتدي النقاب قبل زواجنا. قبلت الارتباط بعبد الرحمن الشاب الطبيعي الذي لم يكن يطلق لحيته حينها، بل كان يدخن ويشرب الخمر، ودخلنا في خصام أكثر من مرة بسبب هذا الأمر».
ويقول أحد جيران المتهم، الثاني بمقتل السائحتين، رشيد أفاطي: «لاحظنا التحول في سلوك رشيد قبل سنة تقريباً وازداد حدة قبل أربعة أشهر، حيث صار يميل إلى العزلة والوحدة ولم يعد يلقي علينا السلام أو يرد السلام، وينظر إلينا بنظرات حادة خلال مروره بقربنا». وفي السياق نفسه، أشار بعض أصدقاء عبد الصمد الجود المتهم بالمشاركة في تنفيذ عملية القتل، أنه لم يعد يصلي في المسجد مع أصدقائه، كما هو معتاد، وأن هذا التحول وقع في الأشهر الأخيرة فقط». ويبدو فعلاً أن أعضاء الخلية الإرهابية، لم يكونوا متدينين متطرفين؛ بل انتقلوا بسرعة لعالم التطرف، رغم أن بعضهم معروف بانحراف وإدمان الخمر. وربما هذا ما دفع بسفيرة المغرب لدى النرويج لمياء الراضي، للتصريح لقنوات إعلامية نرويجية، يوم 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، بأن أعضاء الخلية، انتقلوا إلى التطرف العنيف أسبوعاً فقط قبل ارتكابهم للعملية.
من جهة ثالثة، تكمن صعوبة الكشف عن مثل هذه الخلايا، في كون أعضائها لم يكونوا من ذوي سوابق في الإجرام أو الإرهاب؛ باستثناء فرد واحد، حاول الالتحاق بتنظيم داعش، وتعرض للسجن جراء ذلك سنة 2014. وهذا بدوره يطرح تحدياً مهماً، أمام الأجهزة الأمنية، يتلخص في إمكانية مراقبة العناصر المتطرفة، ومعرفة مدى تراجعها تصورياً وسلوكياً عن المعتقدات والأفعال المتطرفة.
كما، أعاد الوضع الاجتماعي الهش لأعضاء الخلية، التفسير الاقتصادي للواجهة؛ حيث إن الأفراد الذين نفذوا العملية الأخيرة، يسكنون في الأحياء الهامشية، ويتحدرون من الأوساط الفقيرة؛ وبالتالي صعوبة الولوج للخدمات الأساسية، مثل التعليم، والصحة، مما يكرس نفسية الحرمان والإقصاء، ويبقي الفرد في دائرة العوز الاجتماعي في المدن الكبرى؛ كما أن اجتماع ضغط الحياة، وتدني التعليم، والتعرض لتأثيرات الفكر المتطرف يسحب من الحياة المعيشة معناها، ويدفع ببعض الشباب، للبحث عن معنى جديد عبر تنفيذ هجمات إرهابية، بطريقة مميتة ووحشية.
من جانب رابع، يظهر بحسب الرواية الرسمية، أن الشاب السويسري وعمره 25 سنة، والذي دخل للبلاد، سنة 2015 وقرر الاستقرار بها، وتزوج من مغربية، والحاصل على بطاقة الإقامة في مراكش سنة 2017. قد لعب دوراً مركزياً غير مباشر في واقعة أمليل البشعة. أما المكتب المركزي للأبحاث القضائية ويرأسه عبد الحق الخيام، الذي أسس سنة 2015 باعتباره مؤسسة لمواجهة الأنشطة الإرهابية، وتعرف إعلامياً (بالبسيج)؛ فتشير لتوفرها على أدلة، تثبت تورط الشاب السويسري، في تدريب ونقل المعارف، المتطرفة والعنيفة «للخلية» المنفذة. وقد صرح عبد الحق الخيام، لوسائل إعلام محلية ودولية أنه يشتبه في تورط الشاب السويسري المقيم بالمغرب، «في تلقين بعض الموقوفين، آليات التواصل بواسطة التطبيقات الحديثة، إلى جانب تدريبهم على الرماية، وانخرط في عمليات استقطاب مواطنين مغاربة، وأفارقة من دول جنوب الصحراء بغرض تجنيدهم في مخططات إرهابية بالمغرب».
ورغم أن المصالح الأمنية بالمغرب لم تُدلِ بكل تفاصيل الدور الذي لعبه الشاب السويسري؛ فإن كثيراً من المؤشرات تدل على اضطلاعه بدور مركزي في عملية إمليل. فبخلاف المستوى التعليمي لأعضاء «الخلية» المنفذة، فإن الشاب السويسري، هو الأكثر تعلماً ضمن المجموعة الموجهة لها تهم المشاركة في العملية؛ ويبدو أنه لعب دور الرابط والوسيط، عبر التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، مما مكن من تأسيس وإدارة شبكة، كان أول تحركها العملي، هو قتل سائحتين بفصل رأسيهما عن الجسد. غير أن هذا التحرك، كان مسبوقاً، بذلك الإحساس الجماعي، لأعضاء الخلية بأن عملهم، يأتي في سياق، بناء عمل تنظيمي مرتبط، فكرياً وسلوكياً، بأفراد آخرين خارج المغرب. وهذا بدوره خلق في وعي أفراد الخلية، ذلك الانتماء «لدولة الخلافة»؛ وبالتالي التحرك وممارسة الأعمال الوحشية التي تقوم بها «داعش»؛ حتى ولو كان أعضاء الخلية لا يتمتعون بأي صلة تنظيمية، مع تنظيم أبي بكر البغدادي.
ويبدو أن الدور الذي لعبه الشاب السويسري، في عملية إمليل؛ يذكر بالدور المحوري «للحاج روبير» والذي ولد بضواحي سانت - ايتيان بفرنسا، واستطاع دخول المغرب وإقامة معسكر للتدريب على القتال بضواحي مدينة فاس أواخر 2002. مما أدى ببعض أفراد هذه المجموعة إلى تنفيذ عملية كبيرة يوم 16 مايو (أيار) 2003 بالدار البيضاء. صحيح أن هناك فرقا بين الشخصيتين الأوروبيتين «بيير روبير» والشاب السويسري؛ لكنهما يشتركان في تأسيس وتدريب «شبكة» إرهابية على أراضٍ مغربية. وكلاهما نجحا في عدم إثارة انتباه الأجهزة الأمنية إلا بعد وقوع عملية إرهابية.

تجاوز الصعوبات
ورغم أن عملية إمليل تمثل اختراقاً للجهود المبذولة من المغرب لمكافحة الإرهاب؛ فإن التجربة المغربية تظل رائدة دولياً، فيما يخص المواجهة الاستباقية للشبكات والخلايا الإرهابية، على المستوى الوطني حيث فككت عشرات الخلايا؛ وخارجياً في أوروبا، حيث كانت الأجهزة الأمنية المغربية طرفاً مركزياً في إحباط عمليات داخل الدول الأوروبية، كما ساهمت بشكل أساسي في إلقاء القبض على عناصر نفذت عمليات إرهابية، في بلجيكا وفرنسا.
وفي هذا السياق الخاص بالمواجهة الاستباقية للإرهاب، والحد من عنصر المفاجأة؛ اقترح الدكتور يونس الوكيلي أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، «أن يتم العمل بشكل تشاركي بين السلطات الأمنية وفاعلين مدنيين وأسر المتطرفين على بناء سُلم لدرجات التطرف، يحدد علامات التطرف من الخطيرة إلى الأقل خطورة (يمكن الاستفادة من تجربة فرنسا في هذا الباب، وأيضاً تجربة بلدية آرهوس بالدنمارك)».
بالإضافة لذلك، أصبح لزاماً على الدولة المغربية توسيع جهودها المواكبة لتحسين الشروط الاجتماعية والاقتصادية للشبان المحكومين في قضايا الإرهاب، الذين استفادوا من برنامج المصالحة؛ والذي قادته كل من الرابطة المحمدية للعلماء والمندوبية العامة لإدارة السجون والمجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2017. كما تحتاج المؤسسات الأمنية، والدينية الرسمية لشراكة حقيقية مع المثقفين والتنظيمات الدينية المدنية المعتدلة، لخلق مزيد من الفاعلين المشتغلين على محاصرة الإرهاب. بكلمة، يمكن القول، إن المغرب منذ 2011 إلى الأسابيع الأخيرة من سنة 2018م، لم يعرف وقوع أي عملية إرهابية، مما يعد إنجازاً كبيراً في معركة مواجهة الإرهاب. وقد نهج المغرب سياسة مندمجة، وجب تطويرها، رغم أنها، مكنته من تحقيق هذا الإنجاز، في محيط إقليمي، على تماسٍ مباشر بمنطقة الساحل والصحراء وما تشهده ليبيا، من انتشار كبير للسلاح، ونمو متزايد للجماعات الإرهابية. وربما هذا ما جعل الكثير من المؤسسات الدولية المتخصصة في الاستقرار والأمن الدولي، تنعت المغرب بالدولة المستقرة. ومن ذلك التقرير الصادر عن معهد الاقتصاديات والسلام بلندن، والذي صدر سنة 2018؛ ووضع المغرب في الرتبة 132 عالمياً، من حيث الدول المهددة بالهجمات الإرهابية.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.