الفن التشكيلي المصري... من منطقة شعبية إلى حي الزمالك الراقي

في شارع «درب الجماميز» التاريخي بقلب القاهرة، وتحديداً عام 1908، كان شاب نحيف يسرع الخطى، قاصدا مبنى رقم 100. أو مدرسة الفنون الجميلة، ليكون بذلك أول طالب يلتحق بها، تاركا حلم الوظيفة الحكومية التقليدي، والمستقبل المضمون، ليذيع صيته بعد ذلك ببضع سنوات، كأول نحات مصري بعد العصر الفرعوني، إنه المثّال المصري الكبير الراحل محمود مختار صاحب تمثال «نهضة مصر» الشهير، وغيره من عشرات الأعمال الفنية التي تزين الميادين المصرية.
وتعد «مدرسة الفنون الجميلة» المشار إليها، هي أولى التجارب الجادة لتدريس الفن بشكل أكاديمي في مصر، تأسست على يد الأمير يوسف كمال، أحد أفراد أسرة محمد علي باشا، والذي عُرف بولعه بالفن، ورعايته للفنانين، وقد ساهم أيضا في تأسيس الأكاديمية الفنية المصرية بروما.
تغير اسم «مدرسة الفنون» إلى «مدرسة الفنون العليا» عام 1928، وضمت إلى وزارة المعارف العمومية، وعقب قيام ثورة يوليو عام 1952 عدل اسمها إلى كلية «الفنون الجميلة»، وضمت إلى وزارة التعليم العالي عام 1961. ثم ضمت إلى جامعة حلوان في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1975.
وخلال تلك السنوات تنقلت الكلية بين العديد من المقرات من درب الجماميز إلى منطقة شبرا، ومن السيدة زينب إلى مقرها الحالي بمنطقة الزمالك، في مبنى لا تخطئه العين، تزينت حديقته بالتماثيل، والأعمال النحتية المميزة، من إنتاج خريجي، ومدرسي الكلية العريقة، بينما علقت على الحوائط صور العمداء والأساتذة المصريين منذ نشأتها، وحتى اليوم.
يقول الفنان والناقد التشكيلي عز الدين نجيب: لـ«الشرق الأوسط»: «إن مصر قبل مدرسة الفنون الجميلة، لم يكن بها فنان مصري محترف واحد، ولا فصول لتعليم الفنون، وكان الفن والنحت في مصر على يد الأجانب، ممن كان يتم الاستعانة بهم من قبل الأسرة العلوية».
وأضاف: «كانت لوحات البورتريهات، والمناظر الطبيعة التي تزين جميع القصور من أعمال الأجانب، وكانت تخاطب النخبة بالمجتمع، دون أن تصل بأي شكل من الأشكال إلى الطبقات الأخرى، الأمر الذي اختلف تماما عقب افتتاح مدرسة الفنون، ليظهر رواد الفن المصري الحديث من نحاتين وفنانين، برؤية مصرية خالصة، وذلك رغم أن أستاذتهم كانوا من الأجانب، وكانت المناهج التي يتم تدريسها في بداية إنشاء الكلية علوما فنية غربية بحتة».
يوضح نجيب أن «ذلك أدى إلى تغير نمط الفنون في مصر، من فنون تلبي احتياجات الطبقة العليا، التي تحاول استكمال وجاهة الحكم بالفن التشكيلي، والنحت، إلى فنون تناسب الثقافة المصرية، بل وتساهم في الحركة الوطنية أيضا، كأعمال محمود مختار، وغيره من الرواد».
زيارة إلى متحف محمود مختار كانت كفيلة بالكشف عن الدور الفني الرائع الذي لعبته دراسة الفنون التشكيلية بشكل أكاديمي في إثراء وعي الفنانين الأوائل، حيث يعد المتحف أول معرض دائم لفنان مصري، افتتح عام 1952. ونقلت إليه ما يقرب من 175 عملا لمختار، بل نقل قبره إليه أيضا، وفقا لوصيته التي قضت بدفنه مع أعماله.
المتحف يقع في مواجهة دار الأوبرا المصرية، ويتكون من طابقين، تتنوع المعروضات بهما ما بين تماثيل صخرية، وبرونزية، وجداريات، إضافة إلى مقعده المفضل، وملابسه، وتكشف مقتنيات المتحف عن عبقرية صانعها، وتميزه، واستخدامه لتيمة الفلاحة، وتأثره بالثقافة الفرعونية، فضلا عن العديد من التماثيل الخاصة بسعد زغلول، الذي قاد الحركة الوطنية خلال بدايات القرن العشرين، ولقب بزعيم الأمة.
بالمتحف أيضا تمثال قدمه مختار كمشروع تخرج من كلية الفنون، يمثل رجلا مصريا، يرتدي جلبابا، وطربوشا، وجاكتا، له ملامح محببة، وعنق طويل، فسّره القائمون على المتحف بأن عنقه تمثل المصطلح المصري «رافع رأسي»، وهو ما فسر به مختار اختلاف المقاييس في نحت التمثال لأساتذته الأجانب.
ويقول المثّال حسام حسين لـ«الشرق الأوسط»: «إن مختار مثل حالة شعبية خاصة، عكس ذوق الشارع المصري وتعطشه لفن يمثله، حتى أن تمثال نهضة مصر تطلب اكتتابا شعبيا لجمع تكلفة تشييده، واستجاب الشارع في حماس، فكان من العلامات المميزة في تاريخ الفن المصري الحديث».
وأخيرا احتفلت كلية الفنون الجميلة بالزمالك بمرور 110 سنوات على تأسيسها، إذ تعد الكلية الأم، ليس فقط في مصر، وإنما في العالم العربي، بعدما ساهمت في تخريج مئات الفنانين والمبدعين البارزين على مدار تاريخها.