مقاهي فيينا التقليدية... نافذة على الحياة عبر العصور

كان عددها بالآلاف عام 1938 ولم يبق منها اليوم سوى 550

«كافيه سانترال» الشهير
«كافيه سانترال» الشهير
TT

مقاهي فيينا التقليدية... نافذة على الحياة عبر العصور

«كافيه سانترال» الشهير
«كافيه سانترال» الشهير

روايات خالدات كثيرة حبرها عباقرة الأدب على طاولاتها الخشبية، وقصائد من عيون الشعر العالمي شهدت النور تحت أضوائها الخافتة، ومقطوعات موسيقية لا تُنسى تدرجت نوتاتها على مقاعدها الوثيرة منذ مئات السنين. مكائد سياسية ودسائس وُلدت تحت أسقفها، وحكايات لا تحصى من الغرام والشوق أزهرت وراء واجهاتها البللورية الأنيقة في عشايا كل الفصول. إنها المقاهي التقليدية التي تُعتبر من أبرز العناصر التي تتشكل منها الهوية الاجتماعية والتاريخية للعاصمة النمساوية، والتي نادراً ما يتوقف عندها السياح الذين يتوافدون عليها بالملايين كل عام.
تستحيل كتابة تاريخ فيينا من غير الرجوع إلى تاريخ مقاهيها، ويتعذر الوصول إلى كنه الشخصية الفييناوية من غير المرور على تلك الأماكن التي هي بمثابة البيت الثاني لأبناء عاصمة إحدى أكبر الإمبراطوريات الأوروبية وأعرقها. وليس أسخى من هذه المقاهي بالمعلومات التاريخية والطرائف عن الأحداث والشخصيات الكبيرة التي مرت على المدينة التي منذ سنوات تتصدر حواضر العالم من حيث نوعية الحياة فيها وعدد السياح الذين يزورونها نسبة إلى عدد السكان.
وهي ليست الأفضل بين المقاهي الأوروبية فحسب، بل هي نمط أساسي وطقس راسخ في حياة أهل المدينة، تجمع بين مكان الملتقى ومطعم الوجبات الخفيفة وخلوة الذين ينشدون الوحدة بين الآخرين أو الذين يقضون ساعات في المطالعة وقراءة الصحف اليومية على وقع موسيقى البيانو في أجواء من السكينة التي باتت ترفاً نادراً في عالم اليوم.
من الرواد المشهورين لهذه المقاهي الموسيقار الألماني بيتهوفن الذي كان يعتبرها المكان المفضل لديه، هو الذي تنقل بين 9 بيوت في فيينا لكثرة ما كان يتشاجر مع أصحابها بسبب طباعه الصعبة. وكان معروفاً عنه الإدمان على القهوة التي كان يصر على استخدام 60 حبة بن لكل فنجان منها، علماً أن المألوف هو 30 حبة. أما المقهى المفضل لديه فكان «شوارزنبرغ» الفسيح بمراياه البلورية المصقولة ومقاعده الجلدية وخشب طاولاته النبيل الذي وضع عليه صاحب السمفونية التاسعة الكثير من روائعه الموسيقية. وما زال خدم هذا المقهى، بملابسهم الأنيقة كأنهم طالعين لتوهم من دار الأوبرا، يقدمون قهوته الشهيرة والفطور النمساوي التقليدي الذي كان محبباً عند بيتهوفن.
بطل العالم النمساوي في سباق السيارات السريعة نيكي لاودا كان من رواد مقهى فندق إمبريال الشهير الذي يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، يتناول فيه طعام الفطور على نفس المائدة التي كان يجلس وراءها الإمبراطور فرانز جوزيف لتناول فطوره. ويتردد على هذا المقهى اليوم كبار الموسيقيين في فرقة الفيلهارمونيكا النمساوية لقربه من دار الأوبرا.
ومن المقاهي الأخرى الشهيرة «ديميل»، الذي كان أيضاً حلواني العائلة الإمبراطورية وما زال يقدم حلوياته وسكاكره الفاخرة ذائعة الصيت والمصنوعة وفقاً لنفس الطريقة التي كان يحضر بها حلوى الإمبراطور وضيوفه الذين كانوا غالباً ما يرافقونه إلى المقهى الذي يقع على مدخل القصر. ويُحكى أن البروتوكول الملكي كان يلزم ضيوف الإمبراطور بمغادرة المقهى حالما ينتهي هو من طعامه. وبما أنه كان معروفاً عنه سرعته بتناول الطعام، كان ضيوفه يضطرون للمغادرة قبل الانتهاء من تناول وجباتهم.
المقهى المركزي الذي يعود بناؤه للعام 1855 ليكون المقر الرئيسي للمصرف المركزي للإمبراطورية النمساوية المجرية قبل أن يتحول إلى مقهى، والذي أعيد ترميمه في عام 1980، هو أيضاً من معالم المدينة التاريخية ومسرحاً لمشاهد سينمائية كثيرة. فيه كان تروتسكي يلعب الشطرنج مع رفاقه ويخططون للثورة البولشيفية، وحول إحدى موائده دارت مشادة حامية بين العاشقين الكبيرين إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون في ليلة حالكة من ليالي فيينا الباردة كما يتذكر كريستيان الذي التحق يومها بالخدمة في المقهى.
مؤسس الحركة الصهيونية العالمية تيودور هرتزل كان من رواد مقهى غريندشتايدل حيث كان يعقد ندوات مصغرة مع أتباعه، وشوبيرت وضع معظم رباعياته في مقهى بوغنير، بينما كان براهمز يستسلم لقيلولته المعتادة على مقاعد مقهى هاينريشهوف الوثيرة.
لاندتمان كان المقهى المفضل عند سيغموند فرويد الذي غالباً ما كان يتردد عليه وحيداً لتناول العشاء بعد الخروج من عيادته. أما مقهى سبيرل الجميل فكان ملتقى الرسام كليمت مع أصدقائه وخليلاته، ويتردد عليه اليوم الفنانون والمخرجون السينمائيون والمسرحيون، خاصة بعد انتهاء عروض المسرح والسينما. ولا بد من إفراد موقع خاص لمقهى هافلكا رغم أنه يخرج كلياً عن نسق المقاهي التقليدية الأنيقة في العاصمة النمساوية. فهو مقهى شعبي جداً، وبتقدير البعض الأقدم على الإطلاق، يرتاده الشباب والبوهيميون وكان في بدايات القرن الماضي ملتقى لأعضاء الحركات والتنظيمات الثورية والفوضوية.
وتجدر الإشارة إلى أن ثقافة القهوة ورثها أهل فيينا عن الأتراك الذين حاولوا أكثر من مرة احتلال العاصمة النمساوية في القرن السابع عشر، وتراجعوا عن حصارها في عام 1683. ويقدر أن عدد المقاهي في فيينا كان بالآلاف عام 1938، لم يبق منها اليوم سوى 550.


مقالات ذات صلة

دبي تستقبل 16.79 مليون سائح دولي خلال 11 شهراً

الاقتصاد بلغ عدد الغرف الفندقية المتوفرة في دبي بنهاية نوفمبر 153.3 ألف غرفة ضمن 828 منشأة (وام)

دبي تستقبل 16.79 مليون سائح دولي خلال 11 شهراً

قالت دبي إنها استقبلت 16.79 مليون سائح دولي خلال الفترة الممتدة من يناير (كانون الثاني) إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بزيادة بلغت 9 في المائة.

«الشرق الأوسط» (دبي)
سفر وسياحة كازينو مونتي كارلو يلبس حلة العيد (الشرق الأوسط)

7 أسباب تجعل موناكو وجهة تستقبل فيها العام الجديد

لنبدأ بخيارات الوصول إلى إمارة موناكو، أقرب مطار إليها هو «نيس كوت دازور»، واسمه فقط يدخلك إلى عالم الرفاهية، لأن هذا القسم من فرنسا معروف كونه مرتعاً للأغنياء

جوسلين إيليا (مونتي كارلو)
يوميات الشرق تنقسم الآراء بشأن إمالة المقعد في الطائرة (شركة ليزي بوي)

حق أم مصدر إزعاج؟... عريضة لحظر الاستلقاء على مقعد الطائرة

«لا ترجع إلى الخلف عندما تسافر بالطائرة» عنوان حملة ساخرة أطلقتها شركة الأثاث «ليزي بوي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق افتتاح تلفريك جديد في جبال الألب (إ.ب.أ)

سويسرا تفتتح أشد عربات التلفريك انحداراً في العالم

افتُتح تلفريك جديد مذهل في جبال الألب البرنية السويسرية. ينقل تلفريك «شيلثورن» الركاب إلى مطعم دوار على قمة الجبل اشتهر في فيلم جيمس بوند.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق سياح يتجولون في أحد شوارع طوكيو (إ.ب.أ)

33 مليون زائر هذا العام... وجهة شهيرة تحطم رقماً قياسياً في عدد السياح

يسافر الزوار من كل حدب وصوب إلى اليابان، مما أدى إلى تحطيم البلاد لرقم قياسي جديد في قطاع السياحة.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)

«المعمورة»... شاطئ «الزمن الجميل» في مصر

شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)
شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)
TT

«المعمورة»... شاطئ «الزمن الجميل» في مصر

شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)
شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)

بفضل نسمات البحر اللطيفة والمناظر الطبيعية الخلابة، تقدم المدن الساحلية بمصر صيغة رابحة للاستمتاع والاسترخاء عبر شواطئها الممتدة، وتُعد الإسكندرية (شمال البلاد)، أو كما يطلق عليها «عروس البحر المتوسط»، إحدى هذه الوجهات التي تحقق لك ما تبحث عنه؛ سواء كنت ترغب في الاسترخاء على شاطئ من الرمال البيضاء، أو الانغماس في التاريخ والثقافة، أو السباحة في مياهها، ستجد ضالتك في بعض هذه الشواطئ، وعلى رأسها شاطئ «المعمورة».

على الرغم من أن ثمة أمكنة أخرى في مصر باتت تنافس المدينة المصرية العتيقة بشراسة، وتجتذب منها الكثير من روادها، فإنها لا تزال تملك الكثير لعشاقها؛ وواحدة من مميزاتها هي إشباعها للإحساس بالحنين للماضي وذكرياته، وكأنها تؤسس لنوع جديد من السياحة هو «سياحة النوستالجيا» التي تستهوي المولعين بزيارة أمكنة قضوا فيها لحظات عزيزة، ونادرة من العمر، لا يمكن تعويضها حتى في أكثر المقاصد السياحية رفاهيةً وفخامةً؛ لأنها جزء من الطفولة، شاركهم فيها أشخاص فرّقتهم الحياة.

شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)

«المعمورة» هي إحدى الوجهات السياحية الرئيسية في المدينة التي توقظ الحنين للماضي، يقع الشاطئ على بُعد نحو 1 كم شرق حدائق المنتزه الملكية، بعيداً عن الطريق الرئيسي، مما جعل له مكانة خاصة منذ القدم بوصفه مكاناً منعزلاً هادئاً مناسباً للاسترخاء والاستمتاع بأشعة الشمس، وفي الوقت نفسه هو مقصد حيوي للغاية، يلبي احتياجات رواده.

ولطالما كانت المعمورة هي الاختيار الأول للمصطافين بمختلف فئاتهم على مدار عقود ماضية، حتى كان من الأمور المعتادة أن ترى الفنانين والمشاهير جنباً إلى جنب المصطافين من أهالي الإسكندرية أو القاهرة، لا أحد يزعج الآخر، أو يعكر عليه صفو استجمامه، أو يلح لالتقاط صور معه.

شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)

«المعمورة هو المعنى الحقيقي للذكريات»، هكذا يصف المرشد السياحي يحيى محمود، الشاطئ المصري العريق، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «الجميع له ذكريات مع المعمورة؛ فقد كان مصيف العائلات من مصر ومختلف الدول العربية».

ويتابع: «أيضاً كانت المعمورة مصيفاً لمعظم الفنانين، ومن يقم بزيارتها فسيستمع إلى الحكايات المتداولة عنهم، ومنها حكايات شادية وتحية كاريوكا ومديحة يسري، ومريم فخر الدين، ونيللي، ووحش الشاشة فريد شوقي، وفؤاد المهندس، وحسن يوسف، فضلاً عن رجال السياسة والمجتمع».

ولذلك، ستجد هناك من يشير إلى مكان ما، ويروي لك علاقته بالمشاهير، ففي هذه الكابينة كان يقضي فريد شوقي أياماً من عطلته الصيفية مع زوجته هدى سلطان وابنتيه، وتلك الفيلا التي تقبع في أعلى مكان في المعمورة اشترتها مريم فخر الدين وكانت تتردد عليها مع ابنتها، وتشاركها إطلاق الطائرات الورقية التي يصنعها زوجها الفنان محمود ذو الفقار، بينما كانت كابينة تحية كاريوكا ملتقى الفنانين، وغير ذلك من ذكريات.

وستجد أهل المكان يفتخرون بأن المعمورة اجتذبت الفنانين للعمل أيضاً؛ فهنا تم تصوير الكثير من الأعمال الفنية الشهيرة مثل «أبي فوق الشجرة»، و«أين عقلي»، و«أجازة صيف»، وهنا أقيم الكثير من الحفلات الغنائية والموسيقية لأشهر الفنانين قبل أن تنتقل إلى الساحل الشمالي والعلمين، وكان الاستمتاع بجلسة غداء مع العائلة ولعب الطاولة والكوتشينة والشطرنج في إحدى الكبائن أو تحت الشمسية، من طقوس زائريها من مختلف الفئات في ذلك الوقت.

ولا يزال شاطئ المعمورة يحتضن محبيه، ويقدم لهم خدماته؛ فبسبب هدوئه النسبي مقارنة بشواطئ الإسكندرية الأخرى لا يزال رواده يستطيعون الاستمتاع بالسباحة، والاستلقاء على رمال الشاطئ، وقراءة الكتاب المفضل، وركوب الدراجات، أو ممارسة صيد السنارة، والتجول في الممشى السياحي بأسواقها الداخلية، وتناول الطعام والمشروبات والآيس كريم من أكشاك الأكل السريع المنتشرة هناك.

شاطيء المعمورة (محافظة الإسكندرية)

ويزين المكان بعض من أفضل المطاعم في مصر، والتي ستمنح الجميع متعة شهية؛ حيث تقدم المطاعم بعضاً من أجمل الأطباق اللذيذة التي تعطي مذاقاً يدوم طويلاً، كما تتوفر في «المعمورة» ملاهٍ ومنطقة الألعاب للأطفال وصالات السينما ومراكز التسوق المختلفة.

وتستطيع زيارة «المعمورة» في مختلف شهور السنة؛ حيث تتمتع بطقس رائع طوال العام، لكن بالتأكيد إذا كانت زيارتك لها بغرض نزول البحر والاستمتاع بالشاطئ نفسه، فعليك زيارتها في الصيف، وفي كل الأوقات تستمتع بالألعاب الشاطئية المتنوعة التي تتيحها لك؛ مثل الكرة الطائرة وكرة القدم الشاطئية وكرة التنس، وركوب قوارب الموز والتزلج على الماء، والغوص، فضلاً عن الاسترخاء في أثناء الاستمتاع بحمامات الشمس تحت أشعة الشمس.

يجتذب الشاطئ هواة المشي لمسافات طويلة مع التمتع بجمال الطبيعة؛ إذ يتميز المكان بتصميم هندسي يوفر مسارات ويجعل الكورنيش ساحة مفتوحة للتنزه، في أمان ونظام، وخلال السير يمكنك تناول الآيس كريم أو الجيلاتي الإسكندراني، وغيرهما من المرطبات التي تشتهر بها المدينة.