من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية
TT

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

تابعنا على مدار الأسابيع الماضية الثورة الفرنسية وآثارها العميقة على الشعب الفرنسي، وكيف أن كثيرا من الأهداف الأساسية التي نادت بها هذه الثورة لم يتحقق، وكيف تحركت التطورات في فرنسا لمدة عقدين من الزمان بعد الثورة لتعيد البلاد إلى أحضان حكم أسرة «البوربون» بعدما تدخلت الدول الأوروبية للقضاء على القوة العسكرية الفرنسية ومعها المفاهيم الثورية التي بدأت تنتشر في أوروبا كلها، وهو ما يُدخلنا هنا إلى نموذج الثورة الفرنسية ودورها في تغيير الثقافة السياسية الإقليمية في أوروبا، وهو ما كان له أكبر الأثر على تطور السياسة والفكر الأوروبيين.
لقد خرج العالم الفرنسي العظيم للعلاقات الدولية «ريمون آرون» بنظرية هامة في كتابه «السلام والحرب: نظرية في العلاقات الدولية»، وتشير نظريته إلى أن النظم الإقليمية التي تضم الدول التي تتشابه ثقافاتها تكون أكثر ميلا لتصبح نظما متجانسة Homogeneous، أي أن الحروب فيها لا تكون إلا لأسباب تقليدية تتعلق بمحاولة التوسع على حساب الغير أو الانتقام أو رد الاعتبار.. إلخ. ولكنها لا تكون لمحاولة القضاء على دولة لأسباب متعلقة باختلافها فكريا أو ثقافيا أو لاعتناقها رؤى مخالفة، وفي حالة ما إذا تمركزت الاختلافات الثقافية في دولة داخل النظام السياسي الإقليمي فإنه يتحول من نظام غير متجانس Heterogeneous، وهو ما يجعل فرص الحروب تتسع بشكل كبير، وتستشهد هذه النظرية بمجموعة من الحالات التاريخية وعلى رأسها الدولة العثمانية في أوروبا وجنوب أفريقيا العنصرية في القارة الأفريقية، فترى أنه في الحالة الأولى فإن الدولة العثمانية مثلت دولة إسلامية ذات جذور وفكر وشرعية مختلفة تماما عن باقي النظام الأوروبي وهو ما جعل هناك حالة من عدم التجانس الواضح داخل النظام الأوروبي وجعل بقاءها هناك رهينة لدورها الهام في التوازن الاستراتيجي داخل القارة الأوروبية بعدما وهنت هذه الدولة، وبالتالي دارت معها حروب كثيرة وممتدة.
واستنادا إلى هذه النظرية، فإن الجمهورية الأولى ثم الإمبراطورية الفرنسية بعد الثورة مثلت نفس حالة الدولة العثمانية في النظام الأوروبي أو جنوب أفريقيا العنصرية في القارة الأوروبية، فالنظام الأوروبي كان مبنيا على أسس سياسية وعسكرية مقبولة لدى كل الأطراف، فهي نظم ملكية مبنية في أغلبها على مفهوم الحقوق الملكية المطلقة، بل إن مفهوم شرعية الحكم يكاد يكون واحدا، كذلك كانت أغلبية نظم إدارة الدولة وفكرها وقوانينها، بل إن الأسر الحاكمة كانت على اتصال مباشر بعضها ببعض، ويجري التزاوج بينها ليس فقط لأسباب تتعلق بالتحالفات السياسية والعسكرية ولكن لأسباب أخرى تتعلق بوحدة المفاهيم والأهداف للأسر الحاكمة، وهو ما كان يجعل كثيرا من الملوك يوجهون رسائلهم لنظرائهم في الدول الأخرى بعنوان «جلالة الملك وابن العم الكريم» وذلك لكثرة التزاوج بين الأسر الحاكمة والتي تحكم على أسس شرعية موحدة. من ناحية أخرى فإن الجيوش الأوروبية كانت على شاكلة واحدة، فهي لم تكن مبنية على أسس قومية أو وطنية، ولكنها كانت مبنية على مؤسسية مرتبطة بالملك، وهو ما جعل بعض الضباط يتركون الخدمة في جيش دولة لينتقلوا إلى جيوش أخرى، كما أن وجود المرتزقة في هذه الجيوش كان بالأمر الطبيعي وغير المستغرب في ذلك الوقت.
ومع اندلاع الثورة الفرنسية بمراحلها المختلفة، بدأت ملامح التغيير السياسي تؤثر مباشرة، فلقد غيرت الثورة مفهوم الحكم ومعه مفهوم الشرعية، فالفكرة الأساسية بأن الملك يحكم بتفويض إلهي حتى مع بدء ضعفها، كانت أساسا هاما بنيت عليه الشرعية، وكان التوريث هو النظام الأساسي للانتقال السلمي للسلطة السياسية، ولكن الثورة الفرنسية ألغت الملكية بثورة شعبية وقرار من ممثلي الشعب، وقد تزامن مع ذلك أيضا تغيير في أسس الشرعية وهو أن الشعب هو مصدر السلطات وفقا للدستور الجديد الذي أقرته هذه الثورة، كما أن فكرة الطبقية بدأت تهتز بشدة، فالنظام الاجتماعي في فرنسا شابته تغيرات واسعة النطاق، وبدأت حملة التصفية للإقطاع والأرستقراطية أو طبقة النبلاء، كما بدأت الدولة الجديدة تنشر أفكارا غربية مثل مفاهيم الحرية والإخاء والمساواة، فأصبح أفراد الشعب ينادون بعضهم البعض بلفظ «مواطن» وهو ما كان أمرا غريبا لأنه بدأ يضرب في أساس التركيبة الاجتماعية للدولة الفرنسية بما يخالف تماما الأنظمة الأخرى. أما على الصعيد العسكري، فلقد أدخلت فرنسا تغييرا جوهريا في نظام العسكرية، حيث أدخلت ما أطلق عليه الـLevee en Mass، أي الجيش الوطني المبنى على أساس يقارب التجنيد، وهو مفهوم ألغى مفهوم الجيوش القائمة في ذلك الوقت، فأصبح للدولة الآن جيش قوامه الشعب نفسه ولكن هذا لم يمثل عائقا أمام انضمام بعض الجنسيات الأخرى لهذا الجيش اعتناقا لمذاهب فكرية أو فرصة للترقي الوظيفي، خاصة بعدما جرت تصفية كثير من النخب العسكرية التابعة للنظام الملكي الفرنسي المخلوع.
وقد كانت هذه المتغيرات كفيلة بأن تزعج كل الممالك الأوروبية الأخرى وتخلق نظاما أوروبا متباينا لأن فرنسا الثورية ضربت مفاهيم الشرعية السياسية وأسس الحكم والتركيبة الاجتماعية في مقتل، فتحول النظام الأوروبي إلى ساحة للاقتتال الفكري والثقافي والثوري والعسكري على حد سواء، فمن الناحية الفكرية خرج بعض المفكرين برؤى سياسية رافضين مفهوم الثورة بصفة عامة، وعلى رأسهم الكاتب الإنجليزي العظيم «إدموند بورك» في كتابه المؤثر (تأملات حول الثورة في فرنسا) وذلك بعد مرور عام على الثورة هناك تنبأ فيه ببعض أحداثها مثل الفوضى السياسية والدماء وحكم الحديد والنار، من ناحية أخرى فلقد رفضت كل الدول هذه الأفكار الغريبة خوفا من انتشارها وتأثيرها المباشر على السلام الاجتماعي في ممالكهم، وقد بدأت أوروبا كلها حركة ضد الردة الفرنسية من وجهة نظرها لا سيما بعدما لجأت حكومة الجمعية الوطنية لتبني مفهوم «تصدير الثورة»، وهو ما دفع بعض الساسة الفرنسيين لمحاولة احتوائه خشية أن تتكالب أوروبا على الثورة، ولكن نصائحهم ذهبت أدراج الريح.
كان من الطبيعي أن تسعى الدول الأوروبية لمحاولة حصار فرنسا الثورية وعزلها سياسيا واجتماعيا عن النظام السياسي الإقليمي في أوروبا، وهو ما تمخض عنه في النهاية سلسلة من التحالفات ضد فرنسا من قبل الدول الأوروبية الكبرى والصغرى على حد سواء، بدأ بما هو معروف باسم إعلان «بيلنتز» بعد الثورة بثلاثة أعوام والذي بمقتضاه أعلنت بروسيا والنمسا استعدادهما للتضامن مع الدول الأوروبية من أجل التدخل في الشأن الفرنسي لمساندة الملك قبيل خلعه، وهو ما فتح المجال على مصراعيه لما عرف بـ«حروب الثورات الفرنسية» والتي انتهت فعليا بهزيمة نابليون الأولى في معركة «ليبزيغ»، ثم بعد ذلك في معركة «واترلو» عام 1815، ولم تهدأ الدول الأوروبية إلا بعد أن أعادت الملكية مرة أخرى إلى فرنسا، ومع ذلك فهي لم تستطع أن تغير حقيقة أساسية وهي أن المفاهيم التي أصبحت تمثل عقيدة سياسية جديدة اعتنقها الشعب الفرنسي كانت أكبر من أن يجري احتواؤها بقوة السلاح، وهو ما دفع فرنسا لسلسلة من الأحداث والحكومات المتعاقبة إلى أن بدأت هذه المبادئ ترسخ تدريجيا بنهايات القرن التاسع عشر ونصف العشرين، ولكن ليس قبل أن تخلق حالة فرقة في النظام الأوروبي لاختلاف مفاهيم الشرعية والفكر وطريقة الحكم، ولو أن فرنسا استوعبت الخوف الأوروبي أغلب الظن أن مصير الثورة كان يمكن أن يكون أحسن حالا بدلا من جعل الجيران يتكالبون عليها.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.