جريدة «المحروسة»... صفحات من تاريخ مصر السياسي والأدبي

أسسها سليم النقاش في الإسكندرية وظهر فيها اسم مي زيادة للمرة الأولى

صورة نادرة لمي زيادة من أرشيف مكتبة الإسكندرية - ترويسة «المحروسة» بعد تحولها من يومية إلى أسبوعية - جانب من إعلانات «المحروسة»
صورة نادرة لمي زيادة من أرشيف مكتبة الإسكندرية - ترويسة «المحروسة» بعد تحولها من يومية إلى أسبوعية - جانب من إعلانات «المحروسة»
TT

جريدة «المحروسة»... صفحات من تاريخ مصر السياسي والأدبي

صورة نادرة لمي زيادة من أرشيف مكتبة الإسكندرية - ترويسة «المحروسة» بعد تحولها من يومية إلى أسبوعية - جانب من إعلانات «المحروسة»
صورة نادرة لمي زيادة من أرشيف مكتبة الإسكندرية - ترويسة «المحروسة» بعد تحولها من يومية إلى أسبوعية - جانب من إعلانات «المحروسة»

صفحات بارزة من تاريخ مصر كانت جريدة «المحروسة» شاهدة عليها، بكل تفاصيلها، بل وشاركت في نسجها بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي 5 يناير (كانون الثاني) 1880، أصدر سليم النقاش صحيفة يومية تحمل اسم «المحروسة»، وأصدر أخرى أسبوعية هي «العصر الجديد»، وذلك بعد توقف مطبوعته «التجارة»، وكان ذلك في أوج هجرة الشوام لمصر عقب المذابح العثمانية في سوريا، ومثلت «المحروسة» الطور الثاني من أطوار الصحافة المصرية، بعد أن أصبحت متاحة للشعب، حيث كانت الصحافة في بدايتها مع صحيفة «الجورنال» محصورة على رجال الوالي والحاشية، فظهرت «المحروسة» وكان الباب قد فتح على مصراعيه للصحافة للخوض في الشؤون السياسية، ومن ثم شاركت مع عدد من الصحف الشامية آنذاك في تغطية الحرب الروسية - التركية، لذا اتسمت الصحف في تلك الفترة بكونها صحافة رأي، وكان عليها موالاة تركيا ضد روسيا. واستمرت الصحيفتان «المحروسة» و«العصر الجديد» في الصدور حتى قيام الثورة العربية، وهي الفترة التي شهدت توقف بعض الصحف عن الصدور.

يبدو أن حالة الاستقطاب الإعلامي وصلت أوجها في ذاك الوقت بسبب انقسام الصحف بين تأييد العرابيين وتأييد القصر الملكي. وقد غادر سليم النقاش إلى سوريا، بعدما أُجبرت «المحروسة» على التوقف، ثم عاد في 1882 من سوريا، وأعاد إصدار صحيفة «المحروسة» عام 1884، من القاهرة، واستمرت في الصدور أسبوعياً حتى وفاة صاحبها في العام نفسه. ووفقاً للمراجع المتخصصة في تاريخ الصحافة، فإنه قد تولى إدارة الصحيفة بعد ذلك ابنه خليل النقاش الذي حولها عام 1886 إلى صحيفة يومية. وفي 11 يناير 1909، انتقل امتياز صحيفة «المحروسة» إلى إلياس زيادة، حيث تنازل له إدريس راغب، مالك مطبعة «المحروسة» في ذاك الوقت عن حقوق نشر «المحروسة»، وعهد له بتحريرها وملكيتها، وقام بتحريرها عدد من الصحافيين الشوام، مثل: إبراهيم الحوراني، وإدوار مرقص، ومي زيادة (التي كانت تكتب في عدد من الصحف والمجلات المصرية، من بينها «الأهرام» و«الهلال»).
وتاريخ «المحروسة» غامض كغموض حياة آخر من تولت رئاسة تحريرها، مي زيادة، حيث واجهنا صعوبة كبيرة في معرفة تاريخها ما بين الإسكندرية والقاهرة، فضلاً عن عدم ذكر المراجع المتخصصة في تاريخ الصحافة ما يخص محتوى جريدة «المحروسة». فقد كانت هناك صعوبة كبيرة في الوصول لمحتواها، حيث لا يوجد أرشيف لها يمكن الرجوع إليه، لكن دكتورة نعمات أحمد عتمان، أستاذة الإعلام بجامعة الإسكندرية، كانت قد درست محتوى الجريدة التي تعد من أوائل الصحف التي صدرت في مصر، خلال دراستها الشهيرة عن «تاريخ الصحافة السكندرية (1873 - 1899)». وقد قالت لـ«الشرق الأوسط»: «خلال الفترة من عام 1882 حتى 1884، احتوت (المحروسة) على آراء الصحف الإنجليزية والفرنسية في المسألة المصرية، وجعلت يوم الخميس وقفاً على أخبار مصر الداخلية، وقدمت تراجم لروائع الأدب الفرنسي تحديداً».
وأكدت: «كانت (المحروسة) موالية لفرنسا، بحكم ثقافة مؤسسها سليم النقاش، كذلك كان عدد كبير من الصحف التي أسسها الشوام آنذاك موالية لفرنسا وبريطانيا، لكن المحروسة كانت تناطح الاحتلال الإنجليزي لمصر عقب انتقالها للقاهرة، وجاء ذلك في صالح المصريين الوطنيين، على عكس صحيفة (المقطم) التي كانت موالية بشكل فج للإنجليز». ولفتت عتمان إلى أن «جريدة (الأهرام) أيضاً كانت ذات توجه ثقافي فرنسي، لكنها انحازت مع الوقت للجانب الشعبي في مواجهة الاحتلال البريطاني». وترجح عتمان أن العلاقة بين «الأهرام» و«المحروسة» كانت تنافسية على استقطاب القراء وجذبهم.
وتضيف عتمان أنه في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، تحاملت الصحف على الثورة العرابية، وحملتها تبعات ما حدث لمصر، ثم بدأت «المحروسة» في مهاجمة الاحتلال البريطاني، وانتقاد السياسية الإنجليزية، بنشرها لآراء سياسية لأمثال «بسمارك» الألماني الذي كان ينتقد السياسية الاحتلالية لبريطانيا في مصر. وترى دكتورة عتمان، وفقاً لتحليل مسيرة جريدة «المحروسة»، أنها كانت تتناقض مع فكرة القومية المصرية، حيث كانت تحذر المصريين من فكرة الخروج عن الدولة العثمانية، بينما تؤكد أنها لعبت دوراً تثقيفياً تنويرياً كبيراً، حيث كانت تنشر القصص المترجمة عن الأدب الفرنسي، مثل: «الطواف حول الأرض» و«الشهامة والحب» و«الصديقين الحميمين»، وكان لها دور في تهيئة البيئة الثقافية للصالونات الأدبية.
وفي أعقاب أحداث 8 مارس (آذار)، واعتقال الزعماء المصريين الوطنيين، وهو السبب الرئيسي لثورة 1919، أخذت «الأهرام» جانب الجماهير التي خرجت للتظاهر ضد سياسات الاحتلال القمعية، وأيدتها كثير من الصحف الوطنية، واحتجبت عن الصدور عدة أيام. وكانت تلك الفترة، بحسب المتخصصين في تاريخ الصحافة، متأرجحة، وشهدت تغيرات كبرى في توجهات الصحف وكبار الكتاب والصحافيين آنذاك، هكذا تؤكد د. نجوى كامل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام - جامعة القاهرة، المتخصصة في تاريخ الصحافة المصرية، وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «صدرت المحروسة قبل وجود الاحتلال البريطاني لمصر، وكان ولاؤها كغالبية ولاء الصحف آنذاك لفرنسا، لكن لا يمكن تصنيفها كصحيفة حزبية أو وطنية شعبية، لأن تلك الفترة كانت مليئة بالتغيرات في المواقف السياسية»، وتشير إلى «أن (المحروسة)، فور صدورها، كانت تهاجم حكومة شريف باشا، ولعبت دوراً مهماً في إصدار قانون المطبوعات عام 1881، رغم أن هذا القانون كان يستهدف مواجهة الصحف التي تسبب أزمات مع السلطان العثماني والدول الأجنبية».
وأوضحت كامل أن ذلك الوقت شهد نهضة صحافية غير عادية، حيث كان لكل فصيل صحيفة تعبر عنه، وتدافع عن مصالحه، وتغيرت مواقف كثير من الكتاب مع الثورة العربية، حتى محمد عبده، عندما تولى رئاسة تحرير جريدة «الوقائع» المصرية، كان موالياً وقتها للخديوي، لكن مع نجاح الثورة العربية في بدايتها، انحاز لها محمد عبده ولما حققته، فيما تغير موقف الصحافي المصري أديب إسحاق، بعد أن كان رافضاً للتدخلات الأجنبية، ويقف في صف العرابيين، عاد لينقلب ضدهم ويهاجمهم، رغم أنه كان مؤيداً لشعار «مصر للمصريين»، وتلفت كامل إلى أن «تلك الفترة شهدت حالة من عدم الثقة بين القراء والصحافيين الشوام وولاءاتهم».
وفي السياق نفسه، يشير كتاب «تطور الصحافة المصرية 1798 - 1981»، للمؤلف إبراهيم عبده، إلى أن الحكومة أوقفت «المحروسة» لمدة 15 يوماً، لمهاجمتها للأجانب المقيمين في مصر، وطالبت بفرض الضرائب عليهم، حيث كتبت: «ما من نظام أو قانون وضع في الدنيا وبقي نافذاً إلى الأبد، فما كان ملائماً على عهد محمد علي باشا، صار في هذا الزمان غير ملائم».
وبدا سليم النقاش جريئاً في طرح موقفه للقراء، وكتب على صفحاتها الأربع: «(المحروسة) تجرأت أيام الاستبداد المحض، ونادت بالحكومة الشورية، ووحدها بين الجرائد العربية في ذلك الحين أخذت تناصر الحزب الوطني، وهي وحدها أيضاً عارضت النفوذ الأجنبي عند خوف الأفراط فيه، وهي أول جريدة صرحت بسوء إدارة بعض المصالح الأجنبية، وهي وحدها تحملت غضب المسيو دوبلينيار وتحامله عليها، وقد حرمت لذلك من فوائد جمة حباً منها بالوطن وأهله، وكم وقفت، وكم أنذرت، وكم عطلت، وكم حذرت». ثم يشير الكتاب إلى أن الأمور زادت تعقيداً، وشنت صحيفة «المفيد» حملة على الشوام وصحافتهم، ونقلت عنها الصحف الناشئة في أحضان الثورة، حتى شغل هذا الموضوع حياة المصريين جميعاً. وإبان الحرب العالمية الأولى، تأثرت «المحروسة» كباقي الصحف بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الورق وتوقفت.
ونظرا لما في هذه الحقبة من تشابك بين التاريخ السياسي والصحافي في مصر، توجهنا لكبار أستاذة التاريخ والباحثين فيه، لسؤالهم حول قيمة وتوجهات جريدة «المحروسة»، فقال د. خلف الميري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن جريدة (المحروسة)، ومؤسسها سليم النقاش، لعبا دوراً مهماً في تاريخ تلك الحقبة السياسية الحرجة التي مرت بها مصر، والمنطقة بشكل عام. وكان توجه سليم النقاش هو البحث عن منابع ومكامن النهضة المصرية، والتركيز عليها، ويتجلى ذلك في مجلداته الشهيرة (مصر للمصريين)، التي هي خلاصة مقالات ووقائع يومية نشرتها (المحروسة)، وتعد من أهم الكتب التي وثقت لتلك الفترة المهمة من تاريخ مصر».
وأضاف أن «دور الصحافة الشامية كانت له أبعاد سياسية وانتقامية بلا شك من الدولة العثمانية التي تسببت في هجرتهم من مذابحها في سوريا، ويجب أن نعلم أن الصحف كان لها تأثير بالغ الخطورة والأهمية، كونها الأداة الإعلامية الوحيدة في ذاك الوقت، قبل ظهور المذياع أو الراديو، وكان يلعب معها الدور الإعلامي الخطباء في المساجد والكنائس، لذا يمكننا القول إن المحروسة كانت مرآة لتلك الحقبة التاريخية».
ويؤكد د. خالد عزب، المشرف على مشروعات توثيق تاريخ مصر وذاكرة الوطن العربي بمكتبة الإسكندرية، لـ«الشرق الأوسط» على أهمية الدور الذي لعبته الصحف في ذاك الوقت، خصوصاً أن تلك الحقبة كانت فيها مساحة حرية لمهاجمة الدولة العثمانية ومشروعها، وساهمت تلك الصحف في محاربة الاستعمار، وكانت تتبارى في كسب القراء، وكانت أرقام توزيعها تفوق أرقام توزيع الصحف المصرية حالياً، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تحارب على الجبهة الداخلية ضد الأحزاب المتكونة فيها.
ويشير عزب إلى أنه «على الرغم من قيمة تلك الصحف في توثيق التاريخ، فإن مصر فقدت جزءاً كبيراً جداً من أرشيف تلك الصحف الشامية التي مثلت اللبنة الأولى التي انطلقت منها الصحافة المصرية والعربية».
وتشير المراجع التاريخية إلى قيام ملاك «المحروسة» باتخاذ منحنى أدبي وثقافي، والتخلي عن التوجه السياسي، لضمان استمرارية الصحيفة، بعد انتقالها لملكية إلياس زيادة، فقد صدر العدد الأول من جريدة «المحروسة» باسم صاحبها ومديرها المسؤول إلياس زيادة في القاهرة، في يناير (كانون الثاني) 1909م. وكانت مي زيادة تكتب فيها بأسماء مستعارة، منها «إيزيس كوبيا»، لكنها بعد أن أتقنت العربية، على يد أحمد لطفي السيد الذي أعجب بها وبثقافتها، لكنه رأى أن قلمها فرنسي الطابع، وأهداها نسخة من القرآن الكريم لتستقي من حلاوة لغته ومعانيه، بدأت تكتب بالعربية، وتوقع في عدد «المحروسة» الصادر في 3 فبراير (شباط) 1911م، تحت مقال بعنوان «خواطر»، كتبت فيه: «ذهبت إلى الجامعة المصرية وفي قلبي شيء من السرور، ولم أجد في الجامعة في أثناء المحاضرة أكثر من ستين سيدة، بين سوريات ووطنيات». وكرست قلمها في هذا الباب للحديث عن التنوير والتعليم والثقافة متخذة طابعاً نسوياً في مناقشة قضايا المرأة.
وفي عام 1929، انتقلت رئاسة تحرير «المحروسة» إلى مي زيادة، بعد وفاة والدها، واستكتبت «المحروسة» أيضاً محمود عباس العقاد، وعبد الله النديم، وأحمد لطفي السيد، وأنطون جميل، وخليل مطران، وعدداً من كبار الأدباء، لكن عانت الصحيفة بسبب أزمة ألمت بالصحف إبان الحرب العالمية الأولى، حيث ارتفعت أسعار الورق ارتفاعاً كبيراً. واستمرت أزمة الصحف حتى حقبة أربعينات القرن العشرين، حيث بدأ التوجه يميل لتيار الوطنية وأسلمة الصحف الكبرى.


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.