صفحات بارزة من تاريخ مصر كانت جريدة «المحروسة» شاهدة عليها، بكل تفاصيلها، بل وشاركت في نسجها بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي 5 يناير (كانون الثاني) 1880، أصدر سليم النقاش صحيفة يومية تحمل اسم «المحروسة»، وأصدر أخرى أسبوعية هي «العصر الجديد»، وذلك بعد توقف مطبوعته «التجارة»، وكان ذلك في أوج هجرة الشوام لمصر عقب المذابح العثمانية في سوريا، ومثلت «المحروسة» الطور الثاني من أطوار الصحافة المصرية، بعد أن أصبحت متاحة للشعب، حيث كانت الصحافة في بدايتها مع صحيفة «الجورنال» محصورة على رجال الوالي والحاشية، فظهرت «المحروسة» وكان الباب قد فتح على مصراعيه للصحافة للخوض في الشؤون السياسية، ومن ثم شاركت مع عدد من الصحف الشامية آنذاك في تغطية الحرب الروسية - التركية، لذا اتسمت الصحف في تلك الفترة بكونها صحافة رأي، وكان عليها موالاة تركيا ضد روسيا. واستمرت الصحيفتان «المحروسة» و«العصر الجديد» في الصدور حتى قيام الثورة العربية، وهي الفترة التي شهدت توقف بعض الصحف عن الصدور.
يبدو أن حالة الاستقطاب الإعلامي وصلت أوجها في ذاك الوقت بسبب انقسام الصحف بين تأييد العرابيين وتأييد القصر الملكي. وقد غادر سليم النقاش إلى سوريا، بعدما أُجبرت «المحروسة» على التوقف، ثم عاد في 1882 من سوريا، وأعاد إصدار صحيفة «المحروسة» عام 1884، من القاهرة، واستمرت في الصدور أسبوعياً حتى وفاة صاحبها في العام نفسه. ووفقاً للمراجع المتخصصة في تاريخ الصحافة، فإنه قد تولى إدارة الصحيفة بعد ذلك ابنه خليل النقاش الذي حولها عام 1886 إلى صحيفة يومية. وفي 11 يناير 1909، انتقل امتياز صحيفة «المحروسة» إلى إلياس زيادة، حيث تنازل له إدريس راغب، مالك مطبعة «المحروسة» في ذاك الوقت عن حقوق نشر «المحروسة»، وعهد له بتحريرها وملكيتها، وقام بتحريرها عدد من الصحافيين الشوام، مثل: إبراهيم الحوراني، وإدوار مرقص، ومي زيادة (التي كانت تكتب في عدد من الصحف والمجلات المصرية، من بينها «الأهرام» و«الهلال»).
وتاريخ «المحروسة» غامض كغموض حياة آخر من تولت رئاسة تحريرها، مي زيادة، حيث واجهنا صعوبة كبيرة في معرفة تاريخها ما بين الإسكندرية والقاهرة، فضلاً عن عدم ذكر المراجع المتخصصة في تاريخ الصحافة ما يخص محتوى جريدة «المحروسة». فقد كانت هناك صعوبة كبيرة في الوصول لمحتواها، حيث لا يوجد أرشيف لها يمكن الرجوع إليه، لكن دكتورة نعمات أحمد عتمان، أستاذة الإعلام بجامعة الإسكندرية، كانت قد درست محتوى الجريدة التي تعد من أوائل الصحف التي صدرت في مصر، خلال دراستها الشهيرة عن «تاريخ الصحافة السكندرية (1873 - 1899)». وقد قالت لـ«الشرق الأوسط»: «خلال الفترة من عام 1882 حتى 1884، احتوت (المحروسة) على آراء الصحف الإنجليزية والفرنسية في المسألة المصرية، وجعلت يوم الخميس وقفاً على أخبار مصر الداخلية، وقدمت تراجم لروائع الأدب الفرنسي تحديداً».
وأكدت: «كانت (المحروسة) موالية لفرنسا، بحكم ثقافة مؤسسها سليم النقاش، كذلك كان عدد كبير من الصحف التي أسسها الشوام آنذاك موالية لفرنسا وبريطانيا، لكن المحروسة كانت تناطح الاحتلال الإنجليزي لمصر عقب انتقالها للقاهرة، وجاء ذلك في صالح المصريين الوطنيين، على عكس صحيفة (المقطم) التي كانت موالية بشكل فج للإنجليز». ولفتت عتمان إلى أن «جريدة (الأهرام) أيضاً كانت ذات توجه ثقافي فرنسي، لكنها انحازت مع الوقت للجانب الشعبي في مواجهة الاحتلال البريطاني». وترجح عتمان أن العلاقة بين «الأهرام» و«المحروسة» كانت تنافسية على استقطاب القراء وجذبهم.
وتضيف عتمان أنه في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، تحاملت الصحف على الثورة العرابية، وحملتها تبعات ما حدث لمصر، ثم بدأت «المحروسة» في مهاجمة الاحتلال البريطاني، وانتقاد السياسية الإنجليزية، بنشرها لآراء سياسية لأمثال «بسمارك» الألماني الذي كان ينتقد السياسية الاحتلالية لبريطانيا في مصر. وترى دكتورة عتمان، وفقاً لتحليل مسيرة جريدة «المحروسة»، أنها كانت تتناقض مع فكرة القومية المصرية، حيث كانت تحذر المصريين من فكرة الخروج عن الدولة العثمانية، بينما تؤكد أنها لعبت دوراً تثقيفياً تنويرياً كبيراً، حيث كانت تنشر القصص المترجمة عن الأدب الفرنسي، مثل: «الطواف حول الأرض» و«الشهامة والحب» و«الصديقين الحميمين»، وكان لها دور في تهيئة البيئة الثقافية للصالونات الأدبية.
وفي أعقاب أحداث 8 مارس (آذار)، واعتقال الزعماء المصريين الوطنيين، وهو السبب الرئيسي لثورة 1919، أخذت «الأهرام» جانب الجماهير التي خرجت للتظاهر ضد سياسات الاحتلال القمعية، وأيدتها كثير من الصحف الوطنية، واحتجبت عن الصدور عدة أيام. وكانت تلك الفترة، بحسب المتخصصين في تاريخ الصحافة، متأرجحة، وشهدت تغيرات كبرى في توجهات الصحف وكبار الكتاب والصحافيين آنذاك، هكذا تؤكد د. نجوى كامل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام - جامعة القاهرة، المتخصصة في تاريخ الصحافة المصرية، وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «صدرت المحروسة قبل وجود الاحتلال البريطاني لمصر، وكان ولاؤها كغالبية ولاء الصحف آنذاك لفرنسا، لكن لا يمكن تصنيفها كصحيفة حزبية أو وطنية شعبية، لأن تلك الفترة كانت مليئة بالتغيرات في المواقف السياسية»، وتشير إلى «أن (المحروسة)، فور صدورها، كانت تهاجم حكومة شريف باشا، ولعبت دوراً مهماً في إصدار قانون المطبوعات عام 1881، رغم أن هذا القانون كان يستهدف مواجهة الصحف التي تسبب أزمات مع السلطان العثماني والدول الأجنبية».
وأوضحت كامل أن ذلك الوقت شهد نهضة صحافية غير عادية، حيث كان لكل فصيل صحيفة تعبر عنه، وتدافع عن مصالحه، وتغيرت مواقف كثير من الكتاب مع الثورة العربية، حتى محمد عبده، عندما تولى رئاسة تحرير جريدة «الوقائع» المصرية، كان موالياً وقتها للخديوي، لكن مع نجاح الثورة العربية في بدايتها، انحاز لها محمد عبده ولما حققته، فيما تغير موقف الصحافي المصري أديب إسحاق، بعد أن كان رافضاً للتدخلات الأجنبية، ويقف في صف العرابيين، عاد لينقلب ضدهم ويهاجمهم، رغم أنه كان مؤيداً لشعار «مصر للمصريين»، وتلفت كامل إلى أن «تلك الفترة شهدت حالة من عدم الثقة بين القراء والصحافيين الشوام وولاءاتهم».
وفي السياق نفسه، يشير كتاب «تطور الصحافة المصرية 1798 - 1981»، للمؤلف إبراهيم عبده، إلى أن الحكومة أوقفت «المحروسة» لمدة 15 يوماً، لمهاجمتها للأجانب المقيمين في مصر، وطالبت بفرض الضرائب عليهم، حيث كتبت: «ما من نظام أو قانون وضع في الدنيا وبقي نافذاً إلى الأبد، فما كان ملائماً على عهد محمد علي باشا، صار في هذا الزمان غير ملائم».
وبدا سليم النقاش جريئاً في طرح موقفه للقراء، وكتب على صفحاتها الأربع: «(المحروسة) تجرأت أيام الاستبداد المحض، ونادت بالحكومة الشورية، ووحدها بين الجرائد العربية في ذلك الحين أخذت تناصر الحزب الوطني، وهي وحدها أيضاً عارضت النفوذ الأجنبي عند خوف الأفراط فيه، وهي أول جريدة صرحت بسوء إدارة بعض المصالح الأجنبية، وهي وحدها تحملت غضب المسيو دوبلينيار وتحامله عليها، وقد حرمت لذلك من فوائد جمة حباً منها بالوطن وأهله، وكم وقفت، وكم أنذرت، وكم عطلت، وكم حذرت». ثم يشير الكتاب إلى أن الأمور زادت تعقيداً، وشنت صحيفة «المفيد» حملة على الشوام وصحافتهم، ونقلت عنها الصحف الناشئة في أحضان الثورة، حتى شغل هذا الموضوع حياة المصريين جميعاً. وإبان الحرب العالمية الأولى، تأثرت «المحروسة» كباقي الصحف بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الورق وتوقفت.
ونظرا لما في هذه الحقبة من تشابك بين التاريخ السياسي والصحافي في مصر، توجهنا لكبار أستاذة التاريخ والباحثين فيه، لسؤالهم حول قيمة وتوجهات جريدة «المحروسة»، فقال د. خلف الميري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن جريدة (المحروسة)، ومؤسسها سليم النقاش، لعبا دوراً مهماً في تاريخ تلك الحقبة السياسية الحرجة التي مرت بها مصر، والمنطقة بشكل عام. وكان توجه سليم النقاش هو البحث عن منابع ومكامن النهضة المصرية، والتركيز عليها، ويتجلى ذلك في مجلداته الشهيرة (مصر للمصريين)، التي هي خلاصة مقالات ووقائع يومية نشرتها (المحروسة)، وتعد من أهم الكتب التي وثقت لتلك الفترة المهمة من تاريخ مصر».
وأضاف أن «دور الصحافة الشامية كانت له أبعاد سياسية وانتقامية بلا شك من الدولة العثمانية التي تسببت في هجرتهم من مذابحها في سوريا، ويجب أن نعلم أن الصحف كان لها تأثير بالغ الخطورة والأهمية، كونها الأداة الإعلامية الوحيدة في ذاك الوقت، قبل ظهور المذياع أو الراديو، وكان يلعب معها الدور الإعلامي الخطباء في المساجد والكنائس، لذا يمكننا القول إن المحروسة كانت مرآة لتلك الحقبة التاريخية».
ويؤكد د. خالد عزب، المشرف على مشروعات توثيق تاريخ مصر وذاكرة الوطن العربي بمكتبة الإسكندرية، لـ«الشرق الأوسط» على أهمية الدور الذي لعبته الصحف في ذاك الوقت، خصوصاً أن تلك الحقبة كانت فيها مساحة حرية لمهاجمة الدولة العثمانية ومشروعها، وساهمت تلك الصحف في محاربة الاستعمار، وكانت تتبارى في كسب القراء، وكانت أرقام توزيعها تفوق أرقام توزيع الصحف المصرية حالياً، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تحارب على الجبهة الداخلية ضد الأحزاب المتكونة فيها.
ويشير عزب إلى أنه «على الرغم من قيمة تلك الصحف في توثيق التاريخ، فإن مصر فقدت جزءاً كبيراً جداً من أرشيف تلك الصحف الشامية التي مثلت اللبنة الأولى التي انطلقت منها الصحافة المصرية والعربية».
وتشير المراجع التاريخية إلى قيام ملاك «المحروسة» باتخاذ منحنى أدبي وثقافي، والتخلي عن التوجه السياسي، لضمان استمرارية الصحيفة، بعد انتقالها لملكية إلياس زيادة، فقد صدر العدد الأول من جريدة «المحروسة» باسم صاحبها ومديرها المسؤول إلياس زيادة في القاهرة، في يناير (كانون الثاني) 1909م. وكانت مي زيادة تكتب فيها بأسماء مستعارة، منها «إيزيس كوبيا»، لكنها بعد أن أتقنت العربية، على يد أحمد لطفي السيد الذي أعجب بها وبثقافتها، لكنه رأى أن قلمها فرنسي الطابع، وأهداها نسخة من القرآن الكريم لتستقي من حلاوة لغته ومعانيه، بدأت تكتب بالعربية، وتوقع في عدد «المحروسة» الصادر في 3 فبراير (شباط) 1911م، تحت مقال بعنوان «خواطر»، كتبت فيه: «ذهبت إلى الجامعة المصرية وفي قلبي شيء من السرور، ولم أجد في الجامعة في أثناء المحاضرة أكثر من ستين سيدة، بين سوريات ووطنيات». وكرست قلمها في هذا الباب للحديث عن التنوير والتعليم والثقافة متخذة طابعاً نسوياً في مناقشة قضايا المرأة.
وفي عام 1929، انتقلت رئاسة تحرير «المحروسة» إلى مي زيادة، بعد وفاة والدها، واستكتبت «المحروسة» أيضاً محمود عباس العقاد، وعبد الله النديم، وأحمد لطفي السيد، وأنطون جميل، وخليل مطران، وعدداً من كبار الأدباء، لكن عانت الصحيفة بسبب أزمة ألمت بالصحف إبان الحرب العالمية الأولى، حيث ارتفعت أسعار الورق ارتفاعاً كبيراً. واستمرت أزمة الصحف حتى حقبة أربعينات القرن العشرين، حيث بدأ التوجه يميل لتيار الوطنية وأسلمة الصحف الكبرى.