أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

تحتضن نحو نصف مليون نازح عراقي.. وانهيار الأمن أدى إلى هروب نصف مليون سائح

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين
TT

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

بعد أن اختيرت أربيل عاصمة للسياحة العربية من قبل رئاسة المكتب التنفيذي لمجلس وزراء السياحة العرب لعام 2014 - تحولت اليوم بعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي إلى عاصمة للنازحين العراقيين الذين تركوا مناطقهم خوفا من تنظيم «داعش» والمعارك التي تدور فيها.
زائر أربيل يلاحظ يوميا المئات من هؤلاء النازحين، سواء كانوا في المخيمات التي أسستها حكومة الإقليم في مداخل المدينة والتي تؤوي آلاف النازحين العرب من الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين، إضافة إلى أعداد كبيرة من نازحي بغداد. الكثير من هؤلاء استقروا داخل المدينة والأقضية والنواحي التابعة لها كقضاء شقلاوة وسؤران وراوندز وخبات وكويسنجق وناحية عينكاوا وبحركة. مناطق سياحية برمتها تحولت اليوم إلى ملاذ للنازحين العراقيين الفارين من بطش «داعش».
المصادر الرسمية في المدينة أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن الانهيار الأمني الذي شهدته الموصل وما آلت إليه الأوضاع من سقوط متتال للمحافظات السنية المجاورة لإقليم كردستان أديا إلى توقف السياحة الرئيسة في الإقليم والمتمثلة بالسياحة الداخلية وتوقف قدوم السياح من وسط العراق وجنوبه إلى كردستان.
يقول نوزاد هادي، محافظ أربيل، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «عدد النازحين العراقيين كافة إلى أربيل وحدها بلغ أكثر من 400 ألف نازح من مختلف مناطق العراق، يتوزعون في داخل أربيل وخارجها في الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، إضافة إلى المخيمات الموجودة التي تؤوي النازحين الذين لا يملكون القدرة المالية على العيش داخل المدينة».
وتابع هادي: «كواجب إنساني، استقبلتهم حكومة الإقليم، لكن من ناحية الخدمات كان لوجودهم تأثير كبير على الإقليم بشكل عام وأربيل خاصة، ويثقلون كاهلنا، فهؤلاء يحتاجون إلى خدمات من ماء وكهرباء وخدمات صحية والوقود، وهناك مشكلة في هذه الخدمات لدى الإقليم نفسه، بسبب الحصار الذي تفرضه بغداد على الإقليم منذ أكثر من ستة أشهر والمتمثل بقطع ميزانية الإقليم وقطع رواتب موظفيه والمستحقات المالية كافة للإقليم».
وأضاف هادي: «بعد أحداث الموصل، دخل العراق مرحلة جديدة. حدود الإقليم من ربيعة إلى نفطخانة في خانقين هي الآن في قبضة (داعش)، ولم يبق لنا مع بغداد سوى طريق يبلغ طوله نحو 15 كلم عند نفطخانة، لذا توقف التبادل الاقتصادي القوي بين إقليم كردستان ومناطق العراق الأخرى، فأثرت الأوضاع سلبا على الاقتصاد والسياحة في المنطقة. في هذا الوقت من الأعوام الماضية، كنا نشهد مجيء أكثر من مليون سائح إلى أربيل وحدها، لكن كيف يأتي هؤلاء الآن إلى هنا، فالمناطق كلها أصبحت تحت سيطرة (داعش)، فالقسم الأكبر الذي كان يأتي إلى أربيل سائحا فيما مضى جاء اليوم إليها نازحا بسبب الانهيارات الأمنية».
أربيل، المدينة التاريخية التي تمتد بجذورها إلى نحو سبعة آلاف عام قبل ميلاد المسيح، تمتاز بجمال الطبيعة واعتدال الجو، الأمر الذي ساهم في كثرة المصايف والمنتجعات السياحية فيها، وإقبال السياح من مناطق العراق والعالم كافة إليها لتمتع بأجواء ساحرة وخلابة، لكنها اليوم فقدت النسبة الأكبر من سياحتها بسبب أوضاع العراق، فالإقليم الكردي الذي يتمتع إلى حد ما بشبه الاستقلال، ما زال مرتبطا بالعراق من عدة نواح، خاصة الاقتصادية منها، فرغم أن كردستان العراق تعد منطقة مستقرة أمنيا فإن حدودها تشهد عنفا دائما بين الجماعات المسلحة والحكومة العراقية، الأمر الذي أثر بشكل فاعل في نسبة السياح العراقيين بالإقليم.
مصدر في وزارة البلديات والسياحة بحكومة إقليم كردستان، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن سياحة الإقليم شهدت انخفاضا كبيرا بعد أحداث الموصل، حيث انخفضت بنسبة 60 في المائة عما كانت عليه قبل تلك الأحداث الأخيرة، مشيرا إلى أن السياحة الداخلية للإقليم التي كانت تعتمد على سياح عراقيين قادمين من جنوب العراق ووسطه تضررت بفعل انقطاع الطرق بين بغداد وأربيل وأصبحت شبه مشلولة حاليا، مؤكدا أن الإقليم لا يستطيع فعل شيء وهم في انتظار انفراج الوضع الأمني بالعراق.
قضاء شقلاوة الذي يقع على بعد 50 كلم شمال مدينة أربيل، يعد واحدا من أكثر أقضية أربيل التي تؤوي أعدادا كبيرة من النازحين خاصة نازحي الفلوجة والأنبار، عشرات العوائل العراقية تقطن هذا القضاء وتزاول أعمالا يومية لسد حاجاته، منتظرة انفراج الوضع للعودة إلى مدنها التي حرمت منها بسبب الوضع الأمني المتردي وانعدام الخدمات.
شقلاوة التي كانت بالأمس أهم المصايف في العراق وكردستان كانت هذا العيد خالية من السياح الذين كانوا يملأون شارعها وسوقها كل صيف، فزائرها الآن لا يرى سوى نازحين يعيشون في بيوتها وفنادقها ومنتجعاتها.
عائلة ضياء جميل واحدة من العوائل العربية التي نزحت من قضاء الفلوجة إلى إقليم كردستان واستقرت وسط شقلاوة، لتبدأ حياة جديدة في ظل الأمن والاستقرار الذي حرمت منه في الأنبار. يقول ضياء، (30 سنة): «أنا متزوج منذ عشر سنين وأعيش في بيت والدي الذي يعمل شرطيا بالفلوجة، قبل أن تبدأ الأحداث الأخيرة تركنا الفلوجة وجئنا إلى هنا خوفا من سيطرة المسلحين على المدينة، لأن أبي شرطي والمسلحون يبحثون عن منتسبي الشرطة».
وأشار جميل إلى أنه يعمل في أحد المقاهي وسط شقلاوة، ليعيل عائلته، وأضاف: «أعمل في هذا المقهى منذ أن قدمنا إلى شقلاوة، أتلقى أجرا يوميا يبلغ 30 ألف دينار عراقي، لأعيل عائلتي التي تتكون من تسعة أشخاص. أجرنا بيتا بنحو 500 دولار ونعيش فيه كلنا مع أنه يتكون من غرفتين وصالة ضيوف، إلا أننا تأقلمنا مع الوضع الراهن». ويشير جميل: «أهالي أربيل بشكل عام، وشقلاوة خاصة، يعاملوننا بشكل جيد فهم طيبون ويساعدون الغرباء والمحتاجين وكريمون كل الكرم، حتى محلات المنطقة تتعامل معنا بشكل مختلف؛ رخصوا لنا بضائعهم، وحتى إيجاراتهم رخصوها لنا نحن النازحين، نحن مرتاحون في كردستان، لكننا نريد العودة إلى مدننا».
شيماء كاظم مواطنة عراقية شيعية من بغداد، تسكن منذ سنوات وسط أربيل في أحد أحياء هذه المدينة المكتظة بالنازحين العرب، وهو حي الجامعة 99، تقول: «أنا في منزل أجرته بـ700 دولار، زوجي يعمل محاسبا في إحدى شركات السياحة بأربيل، أوضاعنا المادية جيدة، لكن قدوم عدد كبير من النازحين في الأيام الماضية أثر في الوضع الاقتصادي هنا، وأدى إلى غلاء في أسواقها وإيجارات المنازل، نتمنى أن تصبح الأوضاع جيدة، أنا لا أعود إلى بغداد لأن وضعنا المعيشي هنا جيد».
الفنادق والمنتجعات وقاعات المناسبات والكنائس والمساجد والمراكز الثقافية والحدائق العامة وحتى بعض المدارس مشغولة الآن بالنازحين، الذين تقول هيئة السياحة في الإقليم إنهم يقطنون في كل الأماكن، لكنها أشارت إلى أن فنادق النجمة الواحدة والنجمتين كانت الأماكن الأكثر استقطابا للنازحين.
الهيئة العامة للسياحة في إقليم كردستان، الجهة المشرفة بشكل مباشر لى السياحة في كردستان، مع أنها أكدت انخفاض النسبة، إلا أنها امتنعت عن الإفصاح عن أي أرقام.
وقال مولوي جبار، رئيس هيئة السياحة في كردستان، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأوضاع الأخيرة أثرت بشكل سلبي في السياحة بالإقليم، نسبة السياح الداخلين من مناطق العراق الأخرى تأثرت بالأوضاع الأخيرة في الموصل، أما السياحة الخارجية فلم تتأثر بشكل كبير، لكن حقيقة نحن كنا نعتمد على السياحة الداخلية أكثر من الخارجية، قبل أحداث الموصل كان هناك ارتفاع في نسبة السياحة في الإقليم بمستوى ثمانية في المائة عن العام الماضي، وسجلنا خلال الأشهر الأولى من عام 2014 الحالي أكثر من مليون سائح في أربيل، لكن خلال شهر يوليو (تموز) الماضي كان هناك انخفاض في نسبة السياحة الداخلية، لكن أتحدث عن نسبة الانخفاض».
وأشار جبار إلى أن الإقليم استقبل بعد أحداث الموصل النازحين بدلا من السياح، مبينا أن هؤلاء النازحين يسكنون في الشقق والموتيلات والفنادق السياحية، وأثر هذا تأثيرا كبيرا في السياحة بكردستان، مشددا بالقول: «نحن إزاء واقع لا يمكن الهرب منه قط».
وأضاف أن الوزارة والهيئة تخططان للنهوض بالواقع السياحي الحالي وتعويض النقص الحاصل بسبب أوضاع العراق عن طريق تشجيع السياحة من إيران وتركيا إلى مناطق إقليم كردستان، وقال: «نحن بصدد تنظيم عدة مؤتمرات سياحية كبيرة في تركيا وإيران لتشجيع الشركات السياحية في البلدين لتنظم رحلات سياحية إلى الإقليم وجذب السياح إلى كردستان، وخططنا لذلك فعليا، لكن ننتظر الوقت المناسب لتنظيمها».
وحول نشاطات أربيل عاصمة السياحة العربية لعام 2014، أكد رئيس هيئة السياحة في إقليم كردستان أن النشاطات كافة متوقفة حاليا بسبب الحصار المفروض من قبل بغداد على الإقليم، مشيرا إلى أن أربيل ستستأنف نشاطاتها السياحية مع انفراج الوضعين الأمني والسياسي في العراق.
بدوره، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين في أربيل، إن مجيء هذه الأعداد الهائلة من النازحين إلى أربيل تسبب في ضغط اقتصادي كبير على الإقليم. وقال الدكتور صباح خوشناو، أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أثر مجيء هذا العدد الهائل من النازحين على الناحية الاقتصادية والمالية للإقليم»، وأضاف: «في الوقت ذاته، لها إيجابيات من الناحية الاقتصادية، لأن هؤلاء يحركون السوق ويزيدون الحركة الشرائية في الإقليم وتدخل مبالغ مالية كبيرة إلى الإقليم، ومن ثم تدور هذه المبالغ داخل الإقليم، ويزداد الطلب، لكن من جهة أخرى هؤلاء بحاجة إلى خدمات ومساعدة، خاصة الذين لا يملكون الإمكانية المالية الكافية والذين جرى إيواءهم في المخيمات من نازحي الموصل وصلاح الدين وديالى». وتابع: «هذا يشكل ضغطا إضافيا على إقليم كردستان الذي يجب أن يؤسس لهم المخيمات ويزودها بالخدمات اللازمة والوقود، خاصة ونحن مقبلون بعد شهور على الشتاء، وخاصة في الوقت الذي يشهد الإقليم حصارا اقتصاديا من قبل بغداد».
وأضاف خوشناو أن أربيل تحولت بفضل هذه الظروف ومع الأسف من عاصمة للسياحة إلى عاصمة للنازحين: «في ظل الظروف غير المتوقعة التي يشهدها العراق من الناحية السياسية والعسكرية وسيطرة (داعش) على عدد من المدن العراقية، إذن هذه الظروف أدت إلى أن تتحول أربيل من مدينة يقصدها السياح من المناطق كافة في العالم إلى منطقة تستقبل النازحين، وهذا ما نلاحظه يوميا، حيث نرى المئات من هؤلاء القادمين إلى أربيل خوفا من (داعش)، بالإضافة إلى زيادة ظاهرة التسول من قبل اللاجئين السوريين في المدينة، كل هذا أثر على السياحة في أربيل، وكان هذا من سوء حظها، ففي حين اختيرت عاصمة للسياحة العربية واجهت المنطقة هذه الأزمات الكبيرة».
واستبعد هذا الخبير الاقتصادي أن ينهض الإقليم بسرعة من الأزمة الحالية، خاصة أنه يئن تحت وطأة الحصار، وأضاف: «حكومة الإقليم تواجه أزمة اقتصادية وضغطا كبيرا بسبب قطع ميزانيتها من بغداد، فهي توزع شهريا نحو 850 مليار دينار رواتب للموظفين فقط، وهذا المبلغ يعتمد الإقليم في تحصيله على الموارد الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تأخير توزيع هذه الرواتب في أوقاتها المحددة، وهذا يشكل ضغطا هائلا على نواحي الحياة الأخرى في الإقليم، وأكثر المشاريع الخدمية في الإقليم توقفت الآن، فالميزانية الاستثمارية توقفت تماما، ومن ناحية الميزانية التشغيلية هناك حالة التقشف التي أعلنتها حكومة الإقليم للخروج من الأزمة الحالية، إذن حكومة الإقليم لا تمتلك أي بديل أو خيار لحل هذه الأزمة التي تواجهها، والحل الوحيد هو انتظار الانفراج الذي من المحتمل أن يستغرق ستة أشهر أخرى، اعتمادا على التنبؤات الاقتصادية بزيادة تصدير النفط مع بدء عام 2015 وكذلك انفراج الأوضاع في العراق».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.