أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

تحتضن نحو نصف مليون نازح عراقي.. وانهيار الأمن أدى إلى هروب نصف مليون سائح

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين
TT

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين

بعد أن اختيرت أربيل عاصمة للسياحة العربية من قبل رئاسة المكتب التنفيذي لمجلس وزراء السياحة العرب لعام 2014 - تحولت اليوم بعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي إلى عاصمة للنازحين العراقيين الذين تركوا مناطقهم خوفا من تنظيم «داعش» والمعارك التي تدور فيها.
زائر أربيل يلاحظ يوميا المئات من هؤلاء النازحين، سواء كانوا في المخيمات التي أسستها حكومة الإقليم في مداخل المدينة والتي تؤوي آلاف النازحين العرب من الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين، إضافة إلى أعداد كبيرة من نازحي بغداد. الكثير من هؤلاء استقروا داخل المدينة والأقضية والنواحي التابعة لها كقضاء شقلاوة وسؤران وراوندز وخبات وكويسنجق وناحية عينكاوا وبحركة. مناطق سياحية برمتها تحولت اليوم إلى ملاذ للنازحين العراقيين الفارين من بطش «داعش».
المصادر الرسمية في المدينة أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن الانهيار الأمني الذي شهدته الموصل وما آلت إليه الأوضاع من سقوط متتال للمحافظات السنية المجاورة لإقليم كردستان أديا إلى توقف السياحة الرئيسة في الإقليم والمتمثلة بالسياحة الداخلية وتوقف قدوم السياح من وسط العراق وجنوبه إلى كردستان.
يقول نوزاد هادي، محافظ أربيل، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «عدد النازحين العراقيين كافة إلى أربيل وحدها بلغ أكثر من 400 ألف نازح من مختلف مناطق العراق، يتوزعون في داخل أربيل وخارجها في الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، إضافة إلى المخيمات الموجودة التي تؤوي النازحين الذين لا يملكون القدرة المالية على العيش داخل المدينة».
وتابع هادي: «كواجب إنساني، استقبلتهم حكومة الإقليم، لكن من ناحية الخدمات كان لوجودهم تأثير كبير على الإقليم بشكل عام وأربيل خاصة، ويثقلون كاهلنا، فهؤلاء يحتاجون إلى خدمات من ماء وكهرباء وخدمات صحية والوقود، وهناك مشكلة في هذه الخدمات لدى الإقليم نفسه، بسبب الحصار الذي تفرضه بغداد على الإقليم منذ أكثر من ستة أشهر والمتمثل بقطع ميزانية الإقليم وقطع رواتب موظفيه والمستحقات المالية كافة للإقليم».
وأضاف هادي: «بعد أحداث الموصل، دخل العراق مرحلة جديدة. حدود الإقليم من ربيعة إلى نفطخانة في خانقين هي الآن في قبضة (داعش)، ولم يبق لنا مع بغداد سوى طريق يبلغ طوله نحو 15 كلم عند نفطخانة، لذا توقف التبادل الاقتصادي القوي بين إقليم كردستان ومناطق العراق الأخرى، فأثرت الأوضاع سلبا على الاقتصاد والسياحة في المنطقة. في هذا الوقت من الأعوام الماضية، كنا نشهد مجيء أكثر من مليون سائح إلى أربيل وحدها، لكن كيف يأتي هؤلاء الآن إلى هنا، فالمناطق كلها أصبحت تحت سيطرة (داعش)، فالقسم الأكبر الذي كان يأتي إلى أربيل سائحا فيما مضى جاء اليوم إليها نازحا بسبب الانهيارات الأمنية».
أربيل، المدينة التاريخية التي تمتد بجذورها إلى نحو سبعة آلاف عام قبل ميلاد المسيح، تمتاز بجمال الطبيعة واعتدال الجو، الأمر الذي ساهم في كثرة المصايف والمنتجعات السياحية فيها، وإقبال السياح من مناطق العراق والعالم كافة إليها لتمتع بأجواء ساحرة وخلابة، لكنها اليوم فقدت النسبة الأكبر من سياحتها بسبب أوضاع العراق، فالإقليم الكردي الذي يتمتع إلى حد ما بشبه الاستقلال، ما زال مرتبطا بالعراق من عدة نواح، خاصة الاقتصادية منها، فرغم أن كردستان العراق تعد منطقة مستقرة أمنيا فإن حدودها تشهد عنفا دائما بين الجماعات المسلحة والحكومة العراقية، الأمر الذي أثر بشكل فاعل في نسبة السياح العراقيين بالإقليم.
مصدر في وزارة البلديات والسياحة بحكومة إقليم كردستان، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن سياحة الإقليم شهدت انخفاضا كبيرا بعد أحداث الموصل، حيث انخفضت بنسبة 60 في المائة عما كانت عليه قبل تلك الأحداث الأخيرة، مشيرا إلى أن السياحة الداخلية للإقليم التي كانت تعتمد على سياح عراقيين قادمين من جنوب العراق ووسطه تضررت بفعل انقطاع الطرق بين بغداد وأربيل وأصبحت شبه مشلولة حاليا، مؤكدا أن الإقليم لا يستطيع فعل شيء وهم في انتظار انفراج الوضع الأمني بالعراق.
قضاء شقلاوة الذي يقع على بعد 50 كلم شمال مدينة أربيل، يعد واحدا من أكثر أقضية أربيل التي تؤوي أعدادا كبيرة من النازحين خاصة نازحي الفلوجة والأنبار، عشرات العوائل العراقية تقطن هذا القضاء وتزاول أعمالا يومية لسد حاجاته، منتظرة انفراج الوضع للعودة إلى مدنها التي حرمت منها بسبب الوضع الأمني المتردي وانعدام الخدمات.
شقلاوة التي كانت بالأمس أهم المصايف في العراق وكردستان كانت هذا العيد خالية من السياح الذين كانوا يملأون شارعها وسوقها كل صيف، فزائرها الآن لا يرى سوى نازحين يعيشون في بيوتها وفنادقها ومنتجعاتها.
عائلة ضياء جميل واحدة من العوائل العربية التي نزحت من قضاء الفلوجة إلى إقليم كردستان واستقرت وسط شقلاوة، لتبدأ حياة جديدة في ظل الأمن والاستقرار الذي حرمت منه في الأنبار. يقول ضياء، (30 سنة): «أنا متزوج منذ عشر سنين وأعيش في بيت والدي الذي يعمل شرطيا بالفلوجة، قبل أن تبدأ الأحداث الأخيرة تركنا الفلوجة وجئنا إلى هنا خوفا من سيطرة المسلحين على المدينة، لأن أبي شرطي والمسلحون يبحثون عن منتسبي الشرطة».
وأشار جميل إلى أنه يعمل في أحد المقاهي وسط شقلاوة، ليعيل عائلته، وأضاف: «أعمل في هذا المقهى منذ أن قدمنا إلى شقلاوة، أتلقى أجرا يوميا يبلغ 30 ألف دينار عراقي، لأعيل عائلتي التي تتكون من تسعة أشخاص. أجرنا بيتا بنحو 500 دولار ونعيش فيه كلنا مع أنه يتكون من غرفتين وصالة ضيوف، إلا أننا تأقلمنا مع الوضع الراهن». ويشير جميل: «أهالي أربيل بشكل عام، وشقلاوة خاصة، يعاملوننا بشكل جيد فهم طيبون ويساعدون الغرباء والمحتاجين وكريمون كل الكرم، حتى محلات المنطقة تتعامل معنا بشكل مختلف؛ رخصوا لنا بضائعهم، وحتى إيجاراتهم رخصوها لنا نحن النازحين، نحن مرتاحون في كردستان، لكننا نريد العودة إلى مدننا».
شيماء كاظم مواطنة عراقية شيعية من بغداد، تسكن منذ سنوات وسط أربيل في أحد أحياء هذه المدينة المكتظة بالنازحين العرب، وهو حي الجامعة 99، تقول: «أنا في منزل أجرته بـ700 دولار، زوجي يعمل محاسبا في إحدى شركات السياحة بأربيل، أوضاعنا المادية جيدة، لكن قدوم عدد كبير من النازحين في الأيام الماضية أثر في الوضع الاقتصادي هنا، وأدى إلى غلاء في أسواقها وإيجارات المنازل، نتمنى أن تصبح الأوضاع جيدة، أنا لا أعود إلى بغداد لأن وضعنا المعيشي هنا جيد».
الفنادق والمنتجعات وقاعات المناسبات والكنائس والمساجد والمراكز الثقافية والحدائق العامة وحتى بعض المدارس مشغولة الآن بالنازحين، الذين تقول هيئة السياحة في الإقليم إنهم يقطنون في كل الأماكن، لكنها أشارت إلى أن فنادق النجمة الواحدة والنجمتين كانت الأماكن الأكثر استقطابا للنازحين.
الهيئة العامة للسياحة في إقليم كردستان، الجهة المشرفة بشكل مباشر لى السياحة في كردستان، مع أنها أكدت انخفاض النسبة، إلا أنها امتنعت عن الإفصاح عن أي أرقام.
وقال مولوي جبار، رئيس هيئة السياحة في كردستان، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأوضاع الأخيرة أثرت بشكل سلبي في السياحة بالإقليم، نسبة السياح الداخلين من مناطق العراق الأخرى تأثرت بالأوضاع الأخيرة في الموصل، أما السياحة الخارجية فلم تتأثر بشكل كبير، لكن حقيقة نحن كنا نعتمد على السياحة الداخلية أكثر من الخارجية، قبل أحداث الموصل كان هناك ارتفاع في نسبة السياحة في الإقليم بمستوى ثمانية في المائة عن العام الماضي، وسجلنا خلال الأشهر الأولى من عام 2014 الحالي أكثر من مليون سائح في أربيل، لكن خلال شهر يوليو (تموز) الماضي كان هناك انخفاض في نسبة السياحة الداخلية، لكن أتحدث عن نسبة الانخفاض».
وأشار جبار إلى أن الإقليم استقبل بعد أحداث الموصل النازحين بدلا من السياح، مبينا أن هؤلاء النازحين يسكنون في الشقق والموتيلات والفنادق السياحية، وأثر هذا تأثيرا كبيرا في السياحة بكردستان، مشددا بالقول: «نحن إزاء واقع لا يمكن الهرب منه قط».
وأضاف أن الوزارة والهيئة تخططان للنهوض بالواقع السياحي الحالي وتعويض النقص الحاصل بسبب أوضاع العراق عن طريق تشجيع السياحة من إيران وتركيا إلى مناطق إقليم كردستان، وقال: «نحن بصدد تنظيم عدة مؤتمرات سياحية كبيرة في تركيا وإيران لتشجيع الشركات السياحية في البلدين لتنظم رحلات سياحية إلى الإقليم وجذب السياح إلى كردستان، وخططنا لذلك فعليا، لكن ننتظر الوقت المناسب لتنظيمها».
وحول نشاطات أربيل عاصمة السياحة العربية لعام 2014، أكد رئيس هيئة السياحة في إقليم كردستان أن النشاطات كافة متوقفة حاليا بسبب الحصار المفروض من قبل بغداد على الإقليم، مشيرا إلى أن أربيل ستستأنف نشاطاتها السياحية مع انفراج الوضعين الأمني والسياسي في العراق.
بدوره، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين في أربيل، إن مجيء هذه الأعداد الهائلة من النازحين إلى أربيل تسبب في ضغط اقتصادي كبير على الإقليم. وقال الدكتور صباح خوشناو، أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أثر مجيء هذا العدد الهائل من النازحين على الناحية الاقتصادية والمالية للإقليم»، وأضاف: «في الوقت ذاته، لها إيجابيات من الناحية الاقتصادية، لأن هؤلاء يحركون السوق ويزيدون الحركة الشرائية في الإقليم وتدخل مبالغ مالية كبيرة إلى الإقليم، ومن ثم تدور هذه المبالغ داخل الإقليم، ويزداد الطلب، لكن من جهة أخرى هؤلاء بحاجة إلى خدمات ومساعدة، خاصة الذين لا يملكون الإمكانية المالية الكافية والذين جرى إيواءهم في المخيمات من نازحي الموصل وصلاح الدين وديالى». وتابع: «هذا يشكل ضغطا إضافيا على إقليم كردستان الذي يجب أن يؤسس لهم المخيمات ويزودها بالخدمات اللازمة والوقود، خاصة ونحن مقبلون بعد شهور على الشتاء، وخاصة في الوقت الذي يشهد الإقليم حصارا اقتصاديا من قبل بغداد».
وأضاف خوشناو أن أربيل تحولت بفضل هذه الظروف ومع الأسف من عاصمة للسياحة إلى عاصمة للنازحين: «في ظل الظروف غير المتوقعة التي يشهدها العراق من الناحية السياسية والعسكرية وسيطرة (داعش) على عدد من المدن العراقية، إذن هذه الظروف أدت إلى أن تتحول أربيل من مدينة يقصدها السياح من المناطق كافة في العالم إلى منطقة تستقبل النازحين، وهذا ما نلاحظه يوميا، حيث نرى المئات من هؤلاء القادمين إلى أربيل خوفا من (داعش)، بالإضافة إلى زيادة ظاهرة التسول من قبل اللاجئين السوريين في المدينة، كل هذا أثر على السياحة في أربيل، وكان هذا من سوء حظها، ففي حين اختيرت عاصمة للسياحة العربية واجهت المنطقة هذه الأزمات الكبيرة».
واستبعد هذا الخبير الاقتصادي أن ينهض الإقليم بسرعة من الأزمة الحالية، خاصة أنه يئن تحت وطأة الحصار، وأضاف: «حكومة الإقليم تواجه أزمة اقتصادية وضغطا كبيرا بسبب قطع ميزانيتها من بغداد، فهي توزع شهريا نحو 850 مليار دينار رواتب للموظفين فقط، وهذا المبلغ يعتمد الإقليم في تحصيله على الموارد الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تأخير توزيع هذه الرواتب في أوقاتها المحددة، وهذا يشكل ضغطا هائلا على نواحي الحياة الأخرى في الإقليم، وأكثر المشاريع الخدمية في الإقليم توقفت الآن، فالميزانية الاستثمارية توقفت تماما، ومن ناحية الميزانية التشغيلية هناك حالة التقشف التي أعلنتها حكومة الإقليم للخروج من الأزمة الحالية، إذن حكومة الإقليم لا تمتلك أي بديل أو خيار لحل هذه الأزمة التي تواجهها، والحل الوحيد هو انتظار الانفراج الذي من المحتمل أن يستغرق ستة أشهر أخرى، اعتمادا على التنبؤات الاقتصادية بزيادة تصدير النفط مع بدء عام 2015 وكذلك انفراج الأوضاع في العراق».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».