«الانفراديون»... خطر الإرهاب المتجدد

{داعش} دعاهم إلى تنفيذ «ضربات خاطفة» بأي سلاح

محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
TT

«الانفراديون»... خطر الإرهاب المتجدد

محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
محموعة من عناصر «داعش» في سوريا

عاد تنظيم «داعش» الإرهابي للرهان مجدداً على «الانفراديين» أو «الذئاب المنفردة»، و«الخلايا النائمة» لتنفيذ «ضربات خاطفة» سريعة في الدول بأي سلاح مُتاح، قد تكون خسائرها أقل، لكنها قد تُحدث دوياً في الدول، لتأكيد بقاء التنظيم، وأنه ما زالت لديه القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية، رغم خسائره في سوريا والعراق والضربات القوية التي تعرض لها في المناطق التي سبق أن سيطر عليها في الماضي.
و«الانفراديون» لا يخضعون لـ«داعش» بصورة تنظيمية؛ بل هم شخص أو أشخاص يخططون وينفذون باستخدام السلاح المتاح لديهم، كما حدث في استهداف المطارات والمساجد والأسواق والمقاهي والتجمعات.
يقول عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الانفراديين» هم أشخاص يقومون بهجمات بشكل منفرد دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما؛ سواء أكانت هذه العمليات بالأسلحة المتطورة أو بالطرق البدائية مثل «سكين المطبخ» أو العصا أو حتى الدهس بالسيارات والشاحنات، وهذه العمليات لها تأثير إعلامي كبير، والتخطيط لها يعتمد على آليات بسيطة جداً من قبل «الذئاب المنفردة».
وكشفت دراسات دولية أخيرة عن أن العديد من الأشخاص المتعاونين أو المتعاطفين مع «داعش» والذين يُعرفون إعلامياً بـ«الانفراديين» يتلقون تشجيعاً وتوجيهاً عبر الإنترنت من التنظيم، لتنفيذ هجمات يمكن له لاحقاً تبنيها، وذلك بعد تراجع قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات كبيرة.
كان أبو محمد العدناني، الناطق السابق باسم «داعش»، قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014، المتعاطفين مع التنظيم إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... كما دعا أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، أيضاً إلى استهداف المواطنين، وتوعد التنظيمُ عبر مؤسسة «دابق» الإعلامية بحرب جديدة تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
ويشار إلى أن العديد من الدول التي شهدت العمليات الإرهابية الأخيرة مثل تونس والمغرب، إلى جانب بعض الدول الأوروبية، وجه التنظيم تهديدات إليها بارتكاب عمليات أخرى عبر استخدام «الأحزمة الناسفة، والدهس، والطعن».
وأصدر التنظيم أخيراً مقطع فيديو بعنوان «أعد نفسك» في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، دعا فيه عناصره وخلاياه النائمة وذئابه المنفردة لـ«التخفي» واستهداف التجمعات في أثناء احتفالات أعياد الميلاد في الدول الأوروبية بأي طريقة ممكنة. كما نشرت مجموعة إعلامية مناصرة لـ«داعش» رسالة أخيراً تهدد بالقيام بهجمات إرهابية جديدة على نيويورك، باستخدام تكتيكات جديدة تشمل «القناصة، والعبوات الناسفة». كما ظهر بأحد الملصقات المتداولة عبر الإنترنت في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أحد «الإرهابيين» مرتدياً قناعاً يغطي وجهه وتوعد بهجمات مع العام الجديد... وأيضاً أطلقت مجموعة إعلامية تابعة لـ«داعش» تهديدات لسكان نيويورك بـ«الأحزمة الناسفة، والعربات المفخخة، والعبوات المتفجرة، وكواتم الصوت، والقناصة».

«شبكات الإرهاب»
مراقبون رجحوا أنه ربما يتجه التنظيم إلى توسيع نشاط هذه المجموعات في الدول (أي الذئاب المنفردة) في حال عدم قدرته على تأسيس هياكل تنظيمية أو فروع في بعض الدول، التي وجهت سلطاتها ضربات أمنية استباقية إليه خلال المرحلة الماضية.
ويشار إلى أن أول ظهور لمصطلح «الذئاب المنفردة» كان في أحد فصول كتاب «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» الذي أعده أبو مصعب السوري بعد التحديات الأمنية التي واجهها تنظيم «القاعدة» الإرهابي بعد أحداث وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، والذي يدعو فيه أفراد التنظيم والمتعاطفين معه إلى الجهاد المنفرد ضد الغرب -على حد وصفه.
وفي تقريره الأخير حول الإرهاب، توصل المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي، إلى أن بنية الإرهاب شهدت عملية «لا مركزية» واضحة من خلال ظاهرة «الذئاب المنفردة» والكسب على الإنترنت، وأن التعمق في كشف شبكات الإرهاب، أو عند الكشف عن «الإرهابيين»، أصبح متعذراً بفعل هذه «اللا مركزية». وأشار التقرير إلى أن نتائج تحليل الواقع الاجتماعي والديموغرافي كانت أكثر عواقب هذه العمليات الإرهابية خطراً، إذ اتضح منها أن 56 إرهابياً من منفذي هذه العمليات كانوا من مواطني البلد الذي تعرض لهذه العمليات الإرهابية، أي ما يشكل 73% من مجموع المنفذين، ويضاف إلى هؤلاء نسبة 14% ممن يتمتعون بإقامة دائمة في البلد الذي نُفّذت فيه العمليات، أو أنهم وفدوا إليه اعتيادياً من بلد مجاور.
وقال التقرير إن 8% فقط منهم تلقوا أوامر مباشرة من «داعش» أو من تنظيم إرهابي آخر لتنفيذ هذه العمليات، أما النسبة الأكبر، أي 92%، فكانوا من المتأثرين بدعاية «داعش»، أو من ذوي صلة غامضة بالتنظيم، أو من الذين تصرفوا بمفردهم مستوحين العبرة من «الإرهابيين».
وقال عبد المنعم، إن «داعش» يستخدم «الذئاب المنفردة» والتوغل في المجتمعات الغربية بطريقة الانفرادية «الانفراديين»، التي تعني أن منفذي العمليات الإرهابية يعملون بشكل فردي، ويشكلون خلايا محدودة العدد تعمل في التخطيط والتنفيذ، فضلاً عن «الخلايا النائمة» المستوحاة من تنظيم «القاعدة» الإرهابي، وهي تكون دائماً في فترة الإعداد تعمل وتدرس وتحضر، لحين القيام بعمليات إرهابية.

«11 عملية دهس»
من جانبه، أكد الدكتور إبراهيم نجم، مدير مرصد الفتاوى المتشددة والآراء التكفيرية بدار الإفتاء في مصر، أن «داعش» اعتمد على تبني فكرة الدفع نحو زيادة الهجمات الإرهابية عبر «الذئاب المنفردة»، مستخدماً في ذلك الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
مضيفاً أن «داعش» منذ أن تم تضييق الخناق عليه وهزائمه التي مُني بها، اعتمد على استراتيجية للانسحاب التكتيكي لصالح التمدد في أماكن أخرى والانتشار في مساحات بديلة وتوظيف آليات مغايرة للتجنيد والاستقطاب، لافتاً إلى أن التنظيم اعتمد على نمط اللا مركزية في الانتشار والتمدد، وذلك من خلال تجميع الفارين من التنظيم لأنفسهم وتكوين كيانات وتنظيمات أخرى تسير على نهج التنظيم الأكبر... ويحاول التنظيم عبر هذه الخطوة أن يعود للسيطرة وخلق مؤيدين له، لأن التنظيم كان قد بالغ في التكفير وعمليات سفك الدماء بصورة كبيرة جعلت الكثيرين من المنضمين إليه ينشقون عنه.
وأوضح نجم، وهو مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط»، أن تنظيم داعش توسع في استخدام الإنترنت، ليس فقط بهدف الاستقطاب؛ بل بهدف التوظيف والقيادة وتوزيع المهام والمسؤوليات وفقاً لما عُرف بـ«الخلافة الافتراضية». محذراً من خطورة تلك العمليات الإرهابية المتوقع حدوثها، خصوصاً عمليات «الدهس» التي تقوم بها «الذئاب المنفردة»، والتي يصعب بشكل كبير منعها أو التنبؤ بها... لذا فإنه على أجهزة الأمن والمعلومات أن تستنفر قواتها خلال تلك الاحتفالات لإحباط الأعمال التي ينوي التنظيم القيام بها.
وقالت دراسة لدار الإفتاء المصرية أخيراً إن عمليات «الدهس» التي قام بها التنظيم منذ ظهوره، بلغت نحو 11 عملية إرهابية، نتج عنها مقتل وإصابة نحو 892 في كل من «بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، وألمانيا، وكندا».
وتبنى «داعش» في أغسطس (آب) الماضي، هجوماً بالطعن، أودى بحياة اثنين وأصاب آخر بجروح خطيرة في العاصمة الفرنسية باريس، حسب بيان أصدرته وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم. كما تبنى أيضاً في نوفمبر الماضي حادث طعن ودهس شنه رجل مسلح بسكين بعد أن صدم بسيارته حشداً من المارة وسط مدينة ملبورن في أستراليا، أسفر عن مقتل شخص وإصابة آخرين.

زرع «خلايا نائمة»
في ذات الصدد، ذكر مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، جيمس كلابر، في تصريحات صحافية له، أن «الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية سمحت لتنظيم داعش بزرع (خلايا نائمة) عبر القارة»، محذراً من أن التنظيم يستعد لشن هجمات أخرى، مضيفاً أن «هناك دليلاً على أن (متشددين) تابعين لـ(داعش) في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، يعدّون سراً لهجمات مشابهة في أوروبا».وعن أهداف «داعش» من تهديداته للدول خلال العام الجديد، قال مرصد الأزهر في القاهرة، إن «داعش» يستهدف من تهديداته تصدير صورة إعلامية مفادها أنه لا يزال موجوداً، ولعله بهذه الرسالة يخاطب أتباعه أكثر مما يخاطب الآخرين؛ حتى يضمن عدم زعزعة الثقة لديهم، فهي رسائل نفسية بالأساس. وأضاف الأزهر في دراسة له أعدها باحثوه، أن «داعش» يأمل من هذه الرسائل أن يستجيب لها أشخاص متطرفون فيحاولوا تنفيذ هذه التهديدات بناءً على دوافعهم الخاصة، وليس بتوجيه وإرشاد من «داعش»؛ فهم أناس لا يعرفهم «داعش»، ولا تربطه بهم أي رابطة، لكن إذا حدث هذا فإن المشاهد سيقتنع بأن «داعش» هو الذي قام بهذه الهجمات... وبالفعل حدث هذا في أكثر من مرة، فنجد أن منفذ الهجوم كان مستجيباً لـ«داعش»، لكن التحقيقات تكشف عدم وجود صلة فعلية بينه وبين التنظيم، بالإضافة إلى أنه إذا حدث واستجاب شخص ما لأفكار «داعش»، فإن التنظيم سوف يسارع ويتبنى الحادث، ليكتسب به أرضية وقوة، في نفوس أتباعه أو المؤمنين به، ولو بشكل مؤقت.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.