«الانفراديون»... خطر الإرهاب المتجدد

{داعش} دعاهم إلى تنفيذ «ضربات خاطفة» بأي سلاح

محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
TT

«الانفراديون»... خطر الإرهاب المتجدد

محموعة من عناصر «داعش» في سوريا
محموعة من عناصر «داعش» في سوريا

عاد تنظيم «داعش» الإرهابي للرهان مجدداً على «الانفراديين» أو «الذئاب المنفردة»، و«الخلايا النائمة» لتنفيذ «ضربات خاطفة» سريعة في الدول بأي سلاح مُتاح، قد تكون خسائرها أقل، لكنها قد تُحدث دوياً في الدول، لتأكيد بقاء التنظيم، وأنه ما زالت لديه القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية، رغم خسائره في سوريا والعراق والضربات القوية التي تعرض لها في المناطق التي سبق أن سيطر عليها في الماضي.
و«الانفراديون» لا يخضعون لـ«داعش» بصورة تنظيمية؛ بل هم شخص أو أشخاص يخططون وينفذون باستخدام السلاح المتاح لديهم، كما حدث في استهداف المطارات والمساجد والأسواق والمقاهي والتجمعات.
يقول عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الانفراديين» هم أشخاص يقومون بهجمات بشكل منفرد دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما؛ سواء أكانت هذه العمليات بالأسلحة المتطورة أو بالطرق البدائية مثل «سكين المطبخ» أو العصا أو حتى الدهس بالسيارات والشاحنات، وهذه العمليات لها تأثير إعلامي كبير، والتخطيط لها يعتمد على آليات بسيطة جداً من قبل «الذئاب المنفردة».
وكشفت دراسات دولية أخيرة عن أن العديد من الأشخاص المتعاونين أو المتعاطفين مع «داعش» والذين يُعرفون إعلامياً بـ«الانفراديين» يتلقون تشجيعاً وتوجيهاً عبر الإنترنت من التنظيم، لتنفيذ هجمات يمكن له لاحقاً تبنيها، وذلك بعد تراجع قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات كبيرة.
كان أبو محمد العدناني، الناطق السابق باسم «داعش»، قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014، المتعاطفين مع التنظيم إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... كما دعا أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، أيضاً إلى استهداف المواطنين، وتوعد التنظيمُ عبر مؤسسة «دابق» الإعلامية بحرب جديدة تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
ويشار إلى أن العديد من الدول التي شهدت العمليات الإرهابية الأخيرة مثل تونس والمغرب، إلى جانب بعض الدول الأوروبية، وجه التنظيم تهديدات إليها بارتكاب عمليات أخرى عبر استخدام «الأحزمة الناسفة، والدهس، والطعن».
وأصدر التنظيم أخيراً مقطع فيديو بعنوان «أعد نفسك» في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، دعا فيه عناصره وخلاياه النائمة وذئابه المنفردة لـ«التخفي» واستهداف التجمعات في أثناء احتفالات أعياد الميلاد في الدول الأوروبية بأي طريقة ممكنة. كما نشرت مجموعة إعلامية مناصرة لـ«داعش» رسالة أخيراً تهدد بالقيام بهجمات إرهابية جديدة على نيويورك، باستخدام تكتيكات جديدة تشمل «القناصة، والعبوات الناسفة». كما ظهر بأحد الملصقات المتداولة عبر الإنترنت في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أحد «الإرهابيين» مرتدياً قناعاً يغطي وجهه وتوعد بهجمات مع العام الجديد... وأيضاً أطلقت مجموعة إعلامية تابعة لـ«داعش» تهديدات لسكان نيويورك بـ«الأحزمة الناسفة، والعربات المفخخة، والعبوات المتفجرة، وكواتم الصوت، والقناصة».

«شبكات الإرهاب»
مراقبون رجحوا أنه ربما يتجه التنظيم إلى توسيع نشاط هذه المجموعات في الدول (أي الذئاب المنفردة) في حال عدم قدرته على تأسيس هياكل تنظيمية أو فروع في بعض الدول، التي وجهت سلطاتها ضربات أمنية استباقية إليه خلال المرحلة الماضية.
ويشار إلى أن أول ظهور لمصطلح «الذئاب المنفردة» كان في أحد فصول كتاب «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» الذي أعده أبو مصعب السوري بعد التحديات الأمنية التي واجهها تنظيم «القاعدة» الإرهابي بعد أحداث وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، والذي يدعو فيه أفراد التنظيم والمتعاطفين معه إلى الجهاد المنفرد ضد الغرب -على حد وصفه.
وفي تقريره الأخير حول الإرهاب، توصل المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي، إلى أن بنية الإرهاب شهدت عملية «لا مركزية» واضحة من خلال ظاهرة «الذئاب المنفردة» والكسب على الإنترنت، وأن التعمق في كشف شبكات الإرهاب، أو عند الكشف عن «الإرهابيين»، أصبح متعذراً بفعل هذه «اللا مركزية». وأشار التقرير إلى أن نتائج تحليل الواقع الاجتماعي والديموغرافي كانت أكثر عواقب هذه العمليات الإرهابية خطراً، إذ اتضح منها أن 56 إرهابياً من منفذي هذه العمليات كانوا من مواطني البلد الذي تعرض لهذه العمليات الإرهابية، أي ما يشكل 73% من مجموع المنفذين، ويضاف إلى هؤلاء نسبة 14% ممن يتمتعون بإقامة دائمة في البلد الذي نُفّذت فيه العمليات، أو أنهم وفدوا إليه اعتيادياً من بلد مجاور.
وقال التقرير إن 8% فقط منهم تلقوا أوامر مباشرة من «داعش» أو من تنظيم إرهابي آخر لتنفيذ هذه العمليات، أما النسبة الأكبر، أي 92%، فكانوا من المتأثرين بدعاية «داعش»، أو من ذوي صلة غامضة بالتنظيم، أو من الذين تصرفوا بمفردهم مستوحين العبرة من «الإرهابيين».
وقال عبد المنعم، إن «داعش» يستخدم «الذئاب المنفردة» والتوغل في المجتمعات الغربية بطريقة الانفرادية «الانفراديين»، التي تعني أن منفذي العمليات الإرهابية يعملون بشكل فردي، ويشكلون خلايا محدودة العدد تعمل في التخطيط والتنفيذ، فضلاً عن «الخلايا النائمة» المستوحاة من تنظيم «القاعدة» الإرهابي، وهي تكون دائماً في فترة الإعداد تعمل وتدرس وتحضر، لحين القيام بعمليات إرهابية.

«11 عملية دهس»
من جانبه، أكد الدكتور إبراهيم نجم، مدير مرصد الفتاوى المتشددة والآراء التكفيرية بدار الإفتاء في مصر، أن «داعش» اعتمد على تبني فكرة الدفع نحو زيادة الهجمات الإرهابية عبر «الذئاب المنفردة»، مستخدماً في ذلك الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
مضيفاً أن «داعش» منذ أن تم تضييق الخناق عليه وهزائمه التي مُني بها، اعتمد على استراتيجية للانسحاب التكتيكي لصالح التمدد في أماكن أخرى والانتشار في مساحات بديلة وتوظيف آليات مغايرة للتجنيد والاستقطاب، لافتاً إلى أن التنظيم اعتمد على نمط اللا مركزية في الانتشار والتمدد، وذلك من خلال تجميع الفارين من التنظيم لأنفسهم وتكوين كيانات وتنظيمات أخرى تسير على نهج التنظيم الأكبر... ويحاول التنظيم عبر هذه الخطوة أن يعود للسيطرة وخلق مؤيدين له، لأن التنظيم كان قد بالغ في التكفير وعمليات سفك الدماء بصورة كبيرة جعلت الكثيرين من المنضمين إليه ينشقون عنه.
وأوضح نجم، وهو مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط»، أن تنظيم داعش توسع في استخدام الإنترنت، ليس فقط بهدف الاستقطاب؛ بل بهدف التوظيف والقيادة وتوزيع المهام والمسؤوليات وفقاً لما عُرف بـ«الخلافة الافتراضية». محذراً من خطورة تلك العمليات الإرهابية المتوقع حدوثها، خصوصاً عمليات «الدهس» التي تقوم بها «الذئاب المنفردة»، والتي يصعب بشكل كبير منعها أو التنبؤ بها... لذا فإنه على أجهزة الأمن والمعلومات أن تستنفر قواتها خلال تلك الاحتفالات لإحباط الأعمال التي ينوي التنظيم القيام بها.
وقالت دراسة لدار الإفتاء المصرية أخيراً إن عمليات «الدهس» التي قام بها التنظيم منذ ظهوره، بلغت نحو 11 عملية إرهابية، نتج عنها مقتل وإصابة نحو 892 في كل من «بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، وألمانيا، وكندا».
وتبنى «داعش» في أغسطس (آب) الماضي، هجوماً بالطعن، أودى بحياة اثنين وأصاب آخر بجروح خطيرة في العاصمة الفرنسية باريس، حسب بيان أصدرته وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم. كما تبنى أيضاً في نوفمبر الماضي حادث طعن ودهس شنه رجل مسلح بسكين بعد أن صدم بسيارته حشداً من المارة وسط مدينة ملبورن في أستراليا، أسفر عن مقتل شخص وإصابة آخرين.

زرع «خلايا نائمة»
في ذات الصدد، ذكر مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، جيمس كلابر، في تصريحات صحافية له، أن «الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية سمحت لتنظيم داعش بزرع (خلايا نائمة) عبر القارة»، محذراً من أن التنظيم يستعد لشن هجمات أخرى، مضيفاً أن «هناك دليلاً على أن (متشددين) تابعين لـ(داعش) في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، يعدّون سراً لهجمات مشابهة في أوروبا».وعن أهداف «داعش» من تهديداته للدول خلال العام الجديد، قال مرصد الأزهر في القاهرة، إن «داعش» يستهدف من تهديداته تصدير صورة إعلامية مفادها أنه لا يزال موجوداً، ولعله بهذه الرسالة يخاطب أتباعه أكثر مما يخاطب الآخرين؛ حتى يضمن عدم زعزعة الثقة لديهم، فهي رسائل نفسية بالأساس. وأضاف الأزهر في دراسة له أعدها باحثوه، أن «داعش» يأمل من هذه الرسائل أن يستجيب لها أشخاص متطرفون فيحاولوا تنفيذ هذه التهديدات بناءً على دوافعهم الخاصة، وليس بتوجيه وإرشاد من «داعش»؛ فهم أناس لا يعرفهم «داعش»، ولا تربطه بهم أي رابطة، لكن إذا حدث هذا فإن المشاهد سيقتنع بأن «داعش» هو الذي قام بهذه الهجمات... وبالفعل حدث هذا في أكثر من مرة، فنجد أن منفذ الهجوم كان مستجيباً لـ«داعش»، لكن التحقيقات تكشف عدم وجود صلة فعلية بينه وبين التنظيم، بالإضافة إلى أنه إذا حدث واستجاب شخص ما لأفكار «داعش»، فإن التنظيم سوف يسارع ويتبنى الحادث، ليكتسب به أرضية وقوة، في نفوس أتباعه أو المؤمنين به، ولو بشكل مؤقت.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.