يختلف نشر حساب مجهول على موقع «تويتر» آلاف الوثائق المتعلقة بسياسيين وفنانين ألمان، عن حالات مشابهة سابقة استهدفت شخصيات عامة أو أحزاباً في أثناء حملات انتخابية، بغموض الهدف منه، ذلك أن الانتخابات الإقليمية قد انتهت قبل أشهر ولا تنتظر البلاد حدثاً استثنائياً في المستقبل القريب.
لم يصل المحققون الألمان بعد إلى استنتاج نهائي حول مصدر الوثائق التي يبدو أنها جُمعت في مدة زمنية طويلة، على الرغم من تعرض عدد من المواقع الإلكترونية الحكومية لهجمات القراصنة في شهر مارس (آذار) الماضي. قالت السلطات الألمانية حينذاك إن الهجمات لم تنجح في الاستحواذ على أي وثائق حساسة.
غموض الدافع إلى نشر معلومات شخصية وعائلية تتناول الطبقة السياسية والنخبة الإعلامية الألمانية والذي خلّف حالاً من الصدمة والاستياء في برلين، حمل وزيرة العدل كاترينا بارلي على اعتبار الحدث «مسعى لإلحاق الضرر بالديمقراطية وبمؤسساتها»، وسط تساؤلات عن معنى غياب أي وثائق مسربة تتعلق بسياسيي حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف الذي حقق نجاحاً لافتاً للانتباه في انضمامه إلى البرلمان سنة 2017 بكتلة وازنة.
يزيد من غموض القرصنة الأخيرة أنها لا تندرج في نطاق أيٍّ من الهجمات السابقة أو عمليات تسريب المعلومات الواسعة النطاق على غرار ما قام به موقع «ويكيليكس» أو الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي. هاتان الحالتان رأى أصحابهما أنهم يكشفون عن انتهاك الحكومة الأميركية وغيرها للقانون من خلال التجسس على المواطنين وعلى الحلفاء، إضافة إلى تسليط الضوء على ممارسات تتجاوز حدود السلطة المخولة بها أجهزة الاستخبارات والهيئات السياسية عموماً على نحو ما ظهر في وثائق «ويكيليكس».
نوع آخر من التسريبات برز في الأعوام القليلة الماضية ركّز على الجنّات الضريبية والتهرب من دفع الضرائب وإنشاء الشركات الوهمية للقيام بأعمال تجارية يطالها القانون لو أُنجزت في البلدان الأصلية لأصحاب الشركات. وهذا ما كشفته «أوراق باناما» و«أوراق بارادايز» على سبيل المثال، ما صبّ في خانة تعزيز رقابة المجتمع والدولة على الأعمال المخالفة للأسس القانونية. وأشار في الوقت ذاته إلى الدور المتنامي الذي تؤديه الصحافة الإلكترونية بصيغتها الجديدة والتي تعتمد على الاستقصاء والتحري والنشر الكثيف للوثائق والمعلومات بصيغة أقرب إلى المادة الخام قبل معالجتها على أيدي صحافيين متخصصين يتولون متابعة كل ملف على حدة.
يضاف إلى ذلك، طبعاً، اقتحام القراصنة للأنظمة المعلوماتية التي تمتلكها القوى المنافسة بهدف التأثير على العملية السياسية ككل، وأشهر هذه الحالات هي تسلل من يُعتقد أنهم قراصنة روس، إلى خوادم الحزب الديمقراطي الأميركي في أثناء الحملة الرئاسية الأخيرة والتي ما زال التحقيق مستمراً في آثارها وما إذا كان التسلل المذكور قد أسهم في تخريب فرص المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في الفوز في الانتخابات التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 وأسفرت عن فوز الرئيس دونالد ترمب.
بكلمات ثانية، يمكن فهم كل حالة من الحالات المذكورة في سياق عريض، من الدفاع عن القانون والديمقراطية والحريات العامة، حسبما يقول أنصار «ويكيليكس» وسنودن وناشرو «أوراق باناما»، إلى وضع العقبات على طريق منافس سياسي أو خصم قد يعيق مشاريع معينة، على ما يُنسب إلى القراصنة الروس الذين تسللوا إلى كومبيوترات الحزب الديمقراطي الأميركي. والجديد في الحدث الألماني هو العبثية (الظاهرة على الأقل) في تسريب محادثات شخصية وعائلية لشخصيات من تيارات مختلفة على نحو لا يفيد إلا في إضفاء قدر من الفوضى والتخبط على الحياة العامة ويسمم الأجواء. في المقابل، ينسجم التسريب الألماني الجديد تمام الانسجام مع أجواء الاعتراض على مؤسسات الدولة السائدة في العديد من الأنحاء والاستياء من الإخفاقات المتعاقبة للسياسيين التقليديين والدعوات إلى إرساء أشكال جديدة من العمل العام، السياسي والثقافي، في منأى عن القيم التي اعتمدتها الديمقراطية الليبرالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا بد، في سبيل ذلك، من تحطيم الثقة بالمؤسسة الحاكمة بكل ألوانها واتجاهاتها الممثلة في الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام الكبرى. وليست من دون أهمية هوية الأشخاص الذين سُرّبت معلوماتهم الشخصية. فجمع السياسيين إلى الفنانين والصحافيين يشير إلى «هجوم شامل» على الفئة الحاكمة بجميع وظائفها ومهماتها.
عليه، يبدو تسريب هذه الكمية من الوثائق في ألمانيا، جديداً من جهة، كممارسة رافضة للواقع، وملائماً من جهة ثانية، للمناخات الآخذة في الانتشار في العديد من دول العالم.
تسريب الوثائق الألمانية... تحطيم الثقة بالسلطة
تسريب الوثائق الألمانية... تحطيم الثقة بالسلطة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة