البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

قراءة لأبرز «تجربة ترمبية» في كبرى دول أميركا اللاتينية

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف
TT

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

عندما أعلن جايير بولسونارو، النقيب المسرَّح من الجيش البرازيلي والنائب المغمور في البرلمان عن مدينة ريو دي جانيرو للمرة السابعة على التوالي، ترشّحه لانتخابات الرئاسة في البرازيل مطلع العام الماضي، كانت نسبة المؤيدين له في كبرى دول أميركا اللاتينية، والسادسة في العالم من حيث المساحة وعدد السكّان، لا تتجاوز 10 في المائة من الناخبين.
كانت حظوظه معدومة في الوصول حتى إلى الجولة الثانية من الانتخابات، وفق إجماع المحللين واستطلاعات الرأي والمراقبين. وكان هؤلاء يعتبرون أن في كونه لا ينتمي إلى أي حزب أو تيّار سياسي له امتداد جغرافي واسع وكتلة نيابية توفّر له الدعم اللازم، إضافة إلى خطابه اليميني المتطرّف الذي يهاجم الأقليّات ويحقِّرها ويحرّض على استخدام أجهزة الأمن أقسى درجات القوة والعنف ويمتدح الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل بالقمع وإلغاء الحريّات، عناصر أكثر من كافية لإخراجه من السباق الرئاسي في مراحله الأولى.
لكن شعبية بولسونارو ذهبت إلى ارتفاع مضطرّد حتى تجاوزت 30 في المائة مع البداية الرسمية للحملة الانتخابية منتصف أغسطس (آب) الماضي، وبدا من شبه المؤكد أن المعركة النهائية ستضعه في مواجهة مرشّح حزب العمّال المتحدّر من أصل لبناني فرناندو حدّاد، وذلك بعدما أصدر القضاء حكمه النهائي بإلغاء ترشيح الرئيس الأسبق لويس إيناسيو دا سيلفا «لولا» الذي يمضي عقوبة بالسجن بتهمة الفساد، وهو الذي كان ما يزال الأوسع شعبية بين كل المرشّحين.

في بداية الحملة الانتخابية الرئاسية في البرازيل تعرّض المرشح اليميني المتطرف جاير بولسونارو، الذي فاز لاحقاً بالانتخابات وتولى مقاليد منصبه رسمياً قبل أيام، لمحاولة اغتيال كادت تودي بحياته. تلك المحاولة أقصته ثلاثة أسابيع عن التواصل مع مؤيديه الذين كانوا يتابعونه بأعداد متزايدة عبر المنصّات الإلكترونية. ولقد تبيّن فيما بعد في أعقاب فوز بولسونارو أنها كانت سلاحه الأقوى الذي عوّض به افتقاره إلى ماكينة انتخابية في بلد مترامي الأطراف، مثل البرازيل، ومُدمن على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إذ يحتلّ المرتبة الثانية في العالم بعد الفلبين.
والحقيقة أنه عندما ظهرت نتائج الجولة الأولى التي فاز بها بولسونارو بفارق عشر نقاط مئوية عن منافسه الاشتراكي فرناندو حدّاد، أيقن الجميع أن هذا الأخير سيحتاج إلى معجزة لقطع الطريق أمام وصول أوّل يميني متطرّف إلى الرئاسة في تاريخ البرازيل الديمقراطي. كذلك أدرك المراقبون أنهم لم يقدّروا أهمية الورقة الرابحة التي راهن عليها بولسونارو منذ البداية، وهي الرفض العارم لحزب العمّال وقياداته بسبب الفساد الذي استشرى خلال ولايتَي «لولا» وبداية ولاية «خليفته» الاشتراكية ديلما روسّيف التي أقيلت من منصبها في عام 2016.

الرهان الصائب

وبالفعل، جاءت الجولة الثانية لتؤكّد عمق الاستياء الشعبي من سياسات حزب العمّال وممارساته، وصواب رهان بولسونارو الذي لم يتوقّف الناخبون عند شطحاته العنصرية وتصريحاته المهينة بحق المرأة والأقليّات... بل تماهوا مع وعوده برفض التساهل مع العنف والفساد.
وهكذا، بعد 13 سنة من حكم اليسار، وسنتين من المراوحة السياسية مع الرئيس الوسطي السابق ميشال تامر، الذي خلف ديلما روسّيف، فتحت البرازيل صفحة جديدة على المجهول في تاريخها السياسي.
البرازيل اليوم يحكمها أوّل نظام يميني متطرّف وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة، بقيادة رئيس توعّد بتقليص حقوق الطبقة العاملة وتجاهل تغيّر المناخ، وأعلن أن «الاستثمار في الثقافة ليس مجزياً»، وفتح الأبواب واسعة أمام المحافظين الإنجيليين و«العسكر» لإدارة القوة الاقتصادية الأولى في أميركا اللاتينية والثامنة في العالم.

يوم التنصيب

وقف بولسونارو أمام آلاف المحتشدين يوم تنصيبه في ميدان السلطات الثلاث، الاشتراعية والإجرائية والقضائية، في العاصمة برازيليا. ورفع راية البرازيل يلوّح بها قائلاً: «رايتنا لن تكون حمراء أبداً» في إشارة تحدٍّ إلى حزب العمّال واليسار. ثم أضاف: «أنا لست المخلّص، لكن ليس بوسع البرازيل أن تواصل جنوحها إلى الشيوعية والاشتراكية والشعبويّة التي تقضي على القيم العائلية».
في تلك الأثناء كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرسل له تغريدة يقول فيها: «الولايات المتحدة إلى جانبك»... ليردّ عليها بقوله: «معاً بحماية الله، سنحمل الازدهار والتقدّم لشعبينا». وفي عين المكان، كان في طليعة المصفّقين للرئيس اليميني الجديد «رفيقا فكر وممارسة» هما رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوروبان ونظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان يختتم زيارة رسمية إلى البرازيل، بعدما وعده بولسونارو بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. وكي لا يترك بولسونارو مجالاً للشك حول عزمه على السير في الاتجاه المعاكس تماماً للحكومات اليسارية السابقة، فإنه كان قد سحب الدعوات التي وجهها سلفه - كما هو مألوف في مثل هذه المناسبات - إلى رؤساء فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا لحضور حفل تنصيبه، وهو ما ينذر بتغيير جذري في المعادلة الإقليمية بأميركا اللاتينية.
هذا، بالنسبة للبعد الدولي، ولكن ما لفت انتباه المراقبين بشكل خاص كان غياب المعارضة البرازيلية عن حفل التنصيب، وذلك لأول مرة في تاريخ الديمقراطية البرازيلية، لاعتبارها «أن الحقد الذي يظهره الرئيس المنتخب تجاه حزب العمّال ينبع من مشروع الاستيلاء على المؤسسات وتأسيس دولة بوليسية والقضاء على المنجزات التاريخية التي حقّقها الشعب البرازيلي».

مخاوف... وتوقّعات

صحيح أن البرازيليين لا يشعرون اليوم بالخوف الذي تملّكهم من «العسكر» طوال 21 سنة من الحكم الديكتاتوري الذي امتد بين 1964 و1985. لكن التصريحات والمواقف الكثيرة التي أطلقها بولسونارو إبّان الحملة الانتخابية عن «محاسن» الحكم العسكري و«مزايا» الديكتاتورية، تطرح علامات استفهام، وتثير مخاوف حول دور «العسكر» في حكومة ثلث أعضائها من ضبّاط القوات المسلحة المتقاعدين، على رأسهم الجنرال المتقاعد هاملتون موراو، المعروف بمواقفه المتشددة، الذي يتولّى منصب نائب الرئيس بصلاحيات واسعة غير ملحوظة في الدستور البرازيلي.
أيضاً توقّف المراقبون عند تكليف جنرال متقاعد آخر معروف بمواقفه المؤيدة للحكم الديكتاتوري، هو ألبرتو سانتوس كروز، بتولي حقيبة العلاقات مع الكونغرس التي يعوّل عليها بولسونارو كثيراً لضمان الغالبية البرلمانية التي تمكّنه من تنفيذ وعوده الانتخابية.
ومن ثم، فالتوقعات الأولى تشير إلى أن البرازيل مقبلة على مرحلة حافلة بالاحتجاجات العمالية والاضطرابات الاجتماعية ضد برنامج الحكومة الجديدة. وخاصة أن هذا البرنامج يتضمّن خصخصة معظم المؤسسات والشركات العامة، وإلغاء كثير من برامج المساعدة للطبقات الشعبية والفقيرة، والسماح باستغلال مساحات واسعة من غابة الأمازون، والترخيص لبيع الأسلحة للمدنيين، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية لمكافحة الجريمة. لكن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن 75 في المائة من البرازيليين يؤيدون التدابير التي اتخذها بولسونارو خلال الفترة الانتقالية، وإلى أن هذا التفاؤل يشمل أيضا مستقبل القطاع الاقتصادي إذ يعتبر 47 في المائة منه أن نسبة البطالة ستتراجع، خاصة أن وصول بولسونارو إلى الحكم يتزامن مع خروج البرازيل من مرحلة طويلة من الركود الاقتصادي وبداية فترة واعدة من النمو.
في المقابل، يرى البعض أن هذا التفاؤل ليس إلا ظاهرة مرحليّة، وهي ما يعرف بـ«شهر العسل» الذي تنعم به عادة الحكومات الجديدة في بداياتها. كذلك تتساءل الدوائر الدبلوماسية في الدول التي تربطها مصالح تجارية كبيرة مع البرازيل، بتحفظّ شديد وحذر: إلى متى سيدوم هذا التفاؤل في الظروف الدقيقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي والانقسام السياسي والاجتماعي الحاد الذي تعيشه البلاد بعد انتخاب بولسونارو؟

«مدرسة» ترمب السياسية

لا يخفي الرئيس البرازيلي الجديد إعجابه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويحاول تقليده بشتّى الوسائل. إلا أنه رغم الترحيب الذي لقيه انتخابه لدى الإدارة الأميركية، فإن واشنطن اكتفت بإرسال وزير خارجيتها مايك بومبيو إلى حفل تنصيبه. وبالتالي، فالانطباع العام الذي يسود الدوائر السياسية الدولية المهتمة بمتابعة التطورات المقبلة في البرازيل، هو أن بولسونارو ما زال أسير نشوة الانتصار الذي كان أبعد من حلم منذ أشهر قليلة. وإنه سيضطر قريباً إلى الجنوح نحو الواقعية والاعتدال، فيتخلّى عن الخطاب المتطرف الذي حمله إلى الرئاسة.
المؤشرات الأولى لهذه «الواقعية»، التي ينتظر المراقبون أن تفرض نهجاً أكثر اعتدالاً على خطوات بولسونارو المقبلة، ظهرت مع إعلانه «إعادة النظر» في مسألة الانسحاب من «اتفاقية باريس» حول تغيّر المناخ. وذلك لأن خطوة كهذه من شأنها أن تحرم البرازيل، التي هي من الدول الرئيسية المصدّرة للمنتوجات الزراعية والمواد الغذائية، من شهادات المنشأ التي تتيح لها دخول عدد من الأسواق الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية. أيضاً، من المرجّح أن يبقى قراره نقل السفارة إلى القدس المحتلة من غير تفعيل في الوقت الراهن، بعد «التنبيهات» التي نقلها إليه عدد من كبار رجال الأعمال حول التداعيات الاقتصادية السلبية لهذه الخطوة، ولا سيما بالنظر للمصالح التجارية والمالية الضخمة للبرازيل مع عدد من الدول العربية.
مع هذا، هناك مصادر دبلوماسية رفيعة في الأمم المتحدة غير مطمئنة لناحية إحجام البرازيل عن الانسحاب من «اتفاقية باريس»، لا سيما أن أدغال الأمازون تعدّ الرئة الأساسية للأرض وتنتج أكثر من 10 في المائة من الأكسجين في العالم. وهي قلقة حقاً لأنها تتوقع الانسحاب من الاتفاقية، كما سبق أن أعلن بولسونارو خلال حملته الانتخابية.

إشكالية الأراضي الزراعية

وفي سياق متصل، تزداد الخشية من وفاء الرئيس البرازيلي الجديد بوعوده الانتخابية بعد القرار الأول الذي اتخذه بُعيد تنصيبه، عندما قدّم هديّة «سخية» لشركات تربية الماشية والمنتوجات الزراعية والغذائية، التي تتمتّع بنفوذ واسع على حساب حماية البيئة والسكان الأصليين. شركات الماشية والمنتجات الزراعية - بالمناسبة - كانت من القوى الرئيسية التي دعمت حملة بولسونارو الانتخابية بجانب الكنيسة الإنجيلية المحافظة، ولقد أصدر مرسوماً بتفويض وزارة الزراعة كامل صلاحيات تحديد المناطق المحميّة المخصّصة للسكّان الأصليين الذين يزيد عددهم على المليون ويعيشون في نحو 12 في المائة من مساحة البرازيل. ويُعدّ هذا المرسوم الذي يطلق يد وزارة الزراعة في تحديد هذه الأراضي وتسجيل ملكيّتها، ضربة قاسية للمنظمات والجمعيات المدافعة عن البيئة وعن حقوق السكّان الأصليين، خاصة، أن تيريزا كريستينا دياز، وزيرة الزراعة الجديدة، كانت حتى تعيينها رئيسة للكتلة البرلمانية التي تمثّل مصالح الشركات الزراعية والغذائية الكبرى التي تطالب منذ سنوات بمثل هذه الخطوة التي من شأنها أن تفتح مساحات شاسعة من أدغال الأمازون لاستغلاها في الزراعة وتربية الماشية. وعلى طريقة الرئيس ترمب شرح بولسونارو قراره في تغريدة: «أقلّ من مليون شخص يعيشون في مناطق منعزلة تماماً في البرازيل، تستغلّهم وتتحكم بهم منظمات غير حكومية، وسنعمل معاً من أجل إدماج هؤلاء المواطنين والنهوض بأوضاعهم».

وزارة العدل... والقضاء

من الوزارات الأخرى التي تتجّه أنظار المراقبين إليها لمعرفة خطوات الرئيس بولسونارو المقبلة وزارة العدل التي يتولاها سيرجيو مورو، القاضي الذي حكم بسجن الرئيس الأسبق لولا، خصم بولسونارو اللدود، وألغى ترشيحه للرئاسة. وفي أوّل تصريح لمورو بعد تسلّمه منصبه «المهمّة الأولى التي أوكلها إلى الرئيس هي إنهاء حالات الإفلات من العقاب»، ما يوحي بأن أول المستهدفين سيكون الرئيس السابق ميشال تامر، الذي وصل إلى رئاسة الدولة بعد عزل ديلما روسّيف، التي كان نائباً لها. وكان تامر قد استطاع الإفلات من المحاكمة والعزل بفضل تأييد غالبية الأعضاء في مجلس الشيوخ الذين كان يخشى معظمهم المصير نفسه في حال رفع الحصانة عنهم. ويتوقّع المراقبون أن تتسارع الإجراءات القضائية لملاحقة تامر بعد إسقاط الحصانة الرئاسية عنه، ما سيفتح الباب واسعاً أمام مسلسل من المحاكمات التي قد تقضي تباعاً على كثير من خصوم بولسونارو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».