البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

قراءة لأبرز «تجربة ترمبية» في كبرى دول أميركا اللاتينية

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف
TT

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

عندما أعلن جايير بولسونارو، النقيب المسرَّح من الجيش البرازيلي والنائب المغمور في البرلمان عن مدينة ريو دي جانيرو للمرة السابعة على التوالي، ترشّحه لانتخابات الرئاسة في البرازيل مطلع العام الماضي، كانت نسبة المؤيدين له في كبرى دول أميركا اللاتينية، والسادسة في العالم من حيث المساحة وعدد السكّان، لا تتجاوز 10 في المائة من الناخبين.
كانت حظوظه معدومة في الوصول حتى إلى الجولة الثانية من الانتخابات، وفق إجماع المحللين واستطلاعات الرأي والمراقبين. وكان هؤلاء يعتبرون أن في كونه لا ينتمي إلى أي حزب أو تيّار سياسي له امتداد جغرافي واسع وكتلة نيابية توفّر له الدعم اللازم، إضافة إلى خطابه اليميني المتطرّف الذي يهاجم الأقليّات ويحقِّرها ويحرّض على استخدام أجهزة الأمن أقسى درجات القوة والعنف ويمتدح الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل بالقمع وإلغاء الحريّات، عناصر أكثر من كافية لإخراجه من السباق الرئاسي في مراحله الأولى.
لكن شعبية بولسونارو ذهبت إلى ارتفاع مضطرّد حتى تجاوزت 30 في المائة مع البداية الرسمية للحملة الانتخابية منتصف أغسطس (آب) الماضي، وبدا من شبه المؤكد أن المعركة النهائية ستضعه في مواجهة مرشّح حزب العمّال المتحدّر من أصل لبناني فرناندو حدّاد، وذلك بعدما أصدر القضاء حكمه النهائي بإلغاء ترشيح الرئيس الأسبق لويس إيناسيو دا سيلفا «لولا» الذي يمضي عقوبة بالسجن بتهمة الفساد، وهو الذي كان ما يزال الأوسع شعبية بين كل المرشّحين.

في بداية الحملة الانتخابية الرئاسية في البرازيل تعرّض المرشح اليميني المتطرف جاير بولسونارو، الذي فاز لاحقاً بالانتخابات وتولى مقاليد منصبه رسمياً قبل أيام، لمحاولة اغتيال كادت تودي بحياته. تلك المحاولة أقصته ثلاثة أسابيع عن التواصل مع مؤيديه الذين كانوا يتابعونه بأعداد متزايدة عبر المنصّات الإلكترونية. ولقد تبيّن فيما بعد في أعقاب فوز بولسونارو أنها كانت سلاحه الأقوى الذي عوّض به افتقاره إلى ماكينة انتخابية في بلد مترامي الأطراف، مثل البرازيل، ومُدمن على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إذ يحتلّ المرتبة الثانية في العالم بعد الفلبين.
والحقيقة أنه عندما ظهرت نتائج الجولة الأولى التي فاز بها بولسونارو بفارق عشر نقاط مئوية عن منافسه الاشتراكي فرناندو حدّاد، أيقن الجميع أن هذا الأخير سيحتاج إلى معجزة لقطع الطريق أمام وصول أوّل يميني متطرّف إلى الرئاسة في تاريخ البرازيل الديمقراطي. كذلك أدرك المراقبون أنهم لم يقدّروا أهمية الورقة الرابحة التي راهن عليها بولسونارو منذ البداية، وهي الرفض العارم لحزب العمّال وقياداته بسبب الفساد الذي استشرى خلال ولايتَي «لولا» وبداية ولاية «خليفته» الاشتراكية ديلما روسّيف التي أقيلت من منصبها في عام 2016.

الرهان الصائب

وبالفعل، جاءت الجولة الثانية لتؤكّد عمق الاستياء الشعبي من سياسات حزب العمّال وممارساته، وصواب رهان بولسونارو الذي لم يتوقّف الناخبون عند شطحاته العنصرية وتصريحاته المهينة بحق المرأة والأقليّات... بل تماهوا مع وعوده برفض التساهل مع العنف والفساد.
وهكذا، بعد 13 سنة من حكم اليسار، وسنتين من المراوحة السياسية مع الرئيس الوسطي السابق ميشال تامر، الذي خلف ديلما روسّيف، فتحت البرازيل صفحة جديدة على المجهول في تاريخها السياسي.
البرازيل اليوم يحكمها أوّل نظام يميني متطرّف وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة، بقيادة رئيس توعّد بتقليص حقوق الطبقة العاملة وتجاهل تغيّر المناخ، وأعلن أن «الاستثمار في الثقافة ليس مجزياً»، وفتح الأبواب واسعة أمام المحافظين الإنجيليين و«العسكر» لإدارة القوة الاقتصادية الأولى في أميركا اللاتينية والثامنة في العالم.

يوم التنصيب

وقف بولسونارو أمام آلاف المحتشدين يوم تنصيبه في ميدان السلطات الثلاث، الاشتراعية والإجرائية والقضائية، في العاصمة برازيليا. ورفع راية البرازيل يلوّح بها قائلاً: «رايتنا لن تكون حمراء أبداً» في إشارة تحدٍّ إلى حزب العمّال واليسار. ثم أضاف: «أنا لست المخلّص، لكن ليس بوسع البرازيل أن تواصل جنوحها إلى الشيوعية والاشتراكية والشعبويّة التي تقضي على القيم العائلية».
في تلك الأثناء كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرسل له تغريدة يقول فيها: «الولايات المتحدة إلى جانبك»... ليردّ عليها بقوله: «معاً بحماية الله، سنحمل الازدهار والتقدّم لشعبينا». وفي عين المكان، كان في طليعة المصفّقين للرئيس اليميني الجديد «رفيقا فكر وممارسة» هما رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوروبان ونظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان يختتم زيارة رسمية إلى البرازيل، بعدما وعده بولسونارو بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. وكي لا يترك بولسونارو مجالاً للشك حول عزمه على السير في الاتجاه المعاكس تماماً للحكومات اليسارية السابقة، فإنه كان قد سحب الدعوات التي وجهها سلفه - كما هو مألوف في مثل هذه المناسبات - إلى رؤساء فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا لحضور حفل تنصيبه، وهو ما ينذر بتغيير جذري في المعادلة الإقليمية بأميركا اللاتينية.
هذا، بالنسبة للبعد الدولي، ولكن ما لفت انتباه المراقبين بشكل خاص كان غياب المعارضة البرازيلية عن حفل التنصيب، وذلك لأول مرة في تاريخ الديمقراطية البرازيلية، لاعتبارها «أن الحقد الذي يظهره الرئيس المنتخب تجاه حزب العمّال ينبع من مشروع الاستيلاء على المؤسسات وتأسيس دولة بوليسية والقضاء على المنجزات التاريخية التي حقّقها الشعب البرازيلي».

مخاوف... وتوقّعات

صحيح أن البرازيليين لا يشعرون اليوم بالخوف الذي تملّكهم من «العسكر» طوال 21 سنة من الحكم الديكتاتوري الذي امتد بين 1964 و1985. لكن التصريحات والمواقف الكثيرة التي أطلقها بولسونارو إبّان الحملة الانتخابية عن «محاسن» الحكم العسكري و«مزايا» الديكتاتورية، تطرح علامات استفهام، وتثير مخاوف حول دور «العسكر» في حكومة ثلث أعضائها من ضبّاط القوات المسلحة المتقاعدين، على رأسهم الجنرال المتقاعد هاملتون موراو، المعروف بمواقفه المتشددة، الذي يتولّى منصب نائب الرئيس بصلاحيات واسعة غير ملحوظة في الدستور البرازيلي.
أيضاً توقّف المراقبون عند تكليف جنرال متقاعد آخر معروف بمواقفه المؤيدة للحكم الديكتاتوري، هو ألبرتو سانتوس كروز، بتولي حقيبة العلاقات مع الكونغرس التي يعوّل عليها بولسونارو كثيراً لضمان الغالبية البرلمانية التي تمكّنه من تنفيذ وعوده الانتخابية.
ومن ثم، فالتوقعات الأولى تشير إلى أن البرازيل مقبلة على مرحلة حافلة بالاحتجاجات العمالية والاضطرابات الاجتماعية ضد برنامج الحكومة الجديدة. وخاصة أن هذا البرنامج يتضمّن خصخصة معظم المؤسسات والشركات العامة، وإلغاء كثير من برامج المساعدة للطبقات الشعبية والفقيرة، والسماح باستغلال مساحات واسعة من غابة الأمازون، والترخيص لبيع الأسلحة للمدنيين، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية لمكافحة الجريمة. لكن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن 75 في المائة من البرازيليين يؤيدون التدابير التي اتخذها بولسونارو خلال الفترة الانتقالية، وإلى أن هذا التفاؤل يشمل أيضا مستقبل القطاع الاقتصادي إذ يعتبر 47 في المائة منه أن نسبة البطالة ستتراجع، خاصة أن وصول بولسونارو إلى الحكم يتزامن مع خروج البرازيل من مرحلة طويلة من الركود الاقتصادي وبداية فترة واعدة من النمو.
في المقابل، يرى البعض أن هذا التفاؤل ليس إلا ظاهرة مرحليّة، وهي ما يعرف بـ«شهر العسل» الذي تنعم به عادة الحكومات الجديدة في بداياتها. كذلك تتساءل الدوائر الدبلوماسية في الدول التي تربطها مصالح تجارية كبيرة مع البرازيل، بتحفظّ شديد وحذر: إلى متى سيدوم هذا التفاؤل في الظروف الدقيقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي والانقسام السياسي والاجتماعي الحاد الذي تعيشه البلاد بعد انتخاب بولسونارو؟

«مدرسة» ترمب السياسية

لا يخفي الرئيس البرازيلي الجديد إعجابه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويحاول تقليده بشتّى الوسائل. إلا أنه رغم الترحيب الذي لقيه انتخابه لدى الإدارة الأميركية، فإن واشنطن اكتفت بإرسال وزير خارجيتها مايك بومبيو إلى حفل تنصيبه. وبالتالي، فالانطباع العام الذي يسود الدوائر السياسية الدولية المهتمة بمتابعة التطورات المقبلة في البرازيل، هو أن بولسونارو ما زال أسير نشوة الانتصار الذي كان أبعد من حلم منذ أشهر قليلة. وإنه سيضطر قريباً إلى الجنوح نحو الواقعية والاعتدال، فيتخلّى عن الخطاب المتطرف الذي حمله إلى الرئاسة.
المؤشرات الأولى لهذه «الواقعية»، التي ينتظر المراقبون أن تفرض نهجاً أكثر اعتدالاً على خطوات بولسونارو المقبلة، ظهرت مع إعلانه «إعادة النظر» في مسألة الانسحاب من «اتفاقية باريس» حول تغيّر المناخ. وذلك لأن خطوة كهذه من شأنها أن تحرم البرازيل، التي هي من الدول الرئيسية المصدّرة للمنتوجات الزراعية والمواد الغذائية، من شهادات المنشأ التي تتيح لها دخول عدد من الأسواق الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية. أيضاً، من المرجّح أن يبقى قراره نقل السفارة إلى القدس المحتلة من غير تفعيل في الوقت الراهن، بعد «التنبيهات» التي نقلها إليه عدد من كبار رجال الأعمال حول التداعيات الاقتصادية السلبية لهذه الخطوة، ولا سيما بالنظر للمصالح التجارية والمالية الضخمة للبرازيل مع عدد من الدول العربية.
مع هذا، هناك مصادر دبلوماسية رفيعة في الأمم المتحدة غير مطمئنة لناحية إحجام البرازيل عن الانسحاب من «اتفاقية باريس»، لا سيما أن أدغال الأمازون تعدّ الرئة الأساسية للأرض وتنتج أكثر من 10 في المائة من الأكسجين في العالم. وهي قلقة حقاً لأنها تتوقع الانسحاب من الاتفاقية، كما سبق أن أعلن بولسونارو خلال حملته الانتخابية.

إشكالية الأراضي الزراعية

وفي سياق متصل، تزداد الخشية من وفاء الرئيس البرازيلي الجديد بوعوده الانتخابية بعد القرار الأول الذي اتخذه بُعيد تنصيبه، عندما قدّم هديّة «سخية» لشركات تربية الماشية والمنتوجات الزراعية والغذائية، التي تتمتّع بنفوذ واسع على حساب حماية البيئة والسكان الأصليين. شركات الماشية والمنتجات الزراعية - بالمناسبة - كانت من القوى الرئيسية التي دعمت حملة بولسونارو الانتخابية بجانب الكنيسة الإنجيلية المحافظة، ولقد أصدر مرسوماً بتفويض وزارة الزراعة كامل صلاحيات تحديد المناطق المحميّة المخصّصة للسكّان الأصليين الذين يزيد عددهم على المليون ويعيشون في نحو 12 في المائة من مساحة البرازيل. ويُعدّ هذا المرسوم الذي يطلق يد وزارة الزراعة في تحديد هذه الأراضي وتسجيل ملكيّتها، ضربة قاسية للمنظمات والجمعيات المدافعة عن البيئة وعن حقوق السكّان الأصليين، خاصة، أن تيريزا كريستينا دياز، وزيرة الزراعة الجديدة، كانت حتى تعيينها رئيسة للكتلة البرلمانية التي تمثّل مصالح الشركات الزراعية والغذائية الكبرى التي تطالب منذ سنوات بمثل هذه الخطوة التي من شأنها أن تفتح مساحات شاسعة من أدغال الأمازون لاستغلاها في الزراعة وتربية الماشية. وعلى طريقة الرئيس ترمب شرح بولسونارو قراره في تغريدة: «أقلّ من مليون شخص يعيشون في مناطق منعزلة تماماً في البرازيل، تستغلّهم وتتحكم بهم منظمات غير حكومية، وسنعمل معاً من أجل إدماج هؤلاء المواطنين والنهوض بأوضاعهم».

وزارة العدل... والقضاء

من الوزارات الأخرى التي تتجّه أنظار المراقبين إليها لمعرفة خطوات الرئيس بولسونارو المقبلة وزارة العدل التي يتولاها سيرجيو مورو، القاضي الذي حكم بسجن الرئيس الأسبق لولا، خصم بولسونارو اللدود، وألغى ترشيحه للرئاسة. وفي أوّل تصريح لمورو بعد تسلّمه منصبه «المهمّة الأولى التي أوكلها إلى الرئيس هي إنهاء حالات الإفلات من العقاب»، ما يوحي بأن أول المستهدفين سيكون الرئيس السابق ميشال تامر، الذي وصل إلى رئاسة الدولة بعد عزل ديلما روسّيف، التي كان نائباً لها. وكان تامر قد استطاع الإفلات من المحاكمة والعزل بفضل تأييد غالبية الأعضاء في مجلس الشيوخ الذين كان يخشى معظمهم المصير نفسه في حال رفع الحصانة عنهم. ويتوقّع المراقبون أن تتسارع الإجراءات القضائية لملاحقة تامر بعد إسقاط الحصانة الرئاسية عنه، ما سيفتح الباب واسعاً أمام مسلسل من المحاكمات التي قد تقضي تباعاً على كثير من خصوم بولسونارو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.