البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

قراءة لأبرز «تجربة ترمبية» في كبرى دول أميركا اللاتينية

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف
TT

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

البرازيل في عهدة اليمين المتطرف

عندما أعلن جايير بولسونارو، النقيب المسرَّح من الجيش البرازيلي والنائب المغمور في البرلمان عن مدينة ريو دي جانيرو للمرة السابعة على التوالي، ترشّحه لانتخابات الرئاسة في البرازيل مطلع العام الماضي، كانت نسبة المؤيدين له في كبرى دول أميركا اللاتينية، والسادسة في العالم من حيث المساحة وعدد السكّان، لا تتجاوز 10 في المائة من الناخبين.
كانت حظوظه معدومة في الوصول حتى إلى الجولة الثانية من الانتخابات، وفق إجماع المحللين واستطلاعات الرأي والمراقبين. وكان هؤلاء يعتبرون أن في كونه لا ينتمي إلى أي حزب أو تيّار سياسي له امتداد جغرافي واسع وكتلة نيابية توفّر له الدعم اللازم، إضافة إلى خطابه اليميني المتطرّف الذي يهاجم الأقليّات ويحقِّرها ويحرّض على استخدام أجهزة الأمن أقسى درجات القوة والعنف ويمتدح الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل بالقمع وإلغاء الحريّات، عناصر أكثر من كافية لإخراجه من السباق الرئاسي في مراحله الأولى.
لكن شعبية بولسونارو ذهبت إلى ارتفاع مضطرّد حتى تجاوزت 30 في المائة مع البداية الرسمية للحملة الانتخابية منتصف أغسطس (آب) الماضي، وبدا من شبه المؤكد أن المعركة النهائية ستضعه في مواجهة مرشّح حزب العمّال المتحدّر من أصل لبناني فرناندو حدّاد، وذلك بعدما أصدر القضاء حكمه النهائي بإلغاء ترشيح الرئيس الأسبق لويس إيناسيو دا سيلفا «لولا» الذي يمضي عقوبة بالسجن بتهمة الفساد، وهو الذي كان ما يزال الأوسع شعبية بين كل المرشّحين.

في بداية الحملة الانتخابية الرئاسية في البرازيل تعرّض المرشح اليميني المتطرف جاير بولسونارو، الذي فاز لاحقاً بالانتخابات وتولى مقاليد منصبه رسمياً قبل أيام، لمحاولة اغتيال كادت تودي بحياته. تلك المحاولة أقصته ثلاثة أسابيع عن التواصل مع مؤيديه الذين كانوا يتابعونه بأعداد متزايدة عبر المنصّات الإلكترونية. ولقد تبيّن فيما بعد في أعقاب فوز بولسونارو أنها كانت سلاحه الأقوى الذي عوّض به افتقاره إلى ماكينة انتخابية في بلد مترامي الأطراف، مثل البرازيل، ومُدمن على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إذ يحتلّ المرتبة الثانية في العالم بعد الفلبين.
والحقيقة أنه عندما ظهرت نتائج الجولة الأولى التي فاز بها بولسونارو بفارق عشر نقاط مئوية عن منافسه الاشتراكي فرناندو حدّاد، أيقن الجميع أن هذا الأخير سيحتاج إلى معجزة لقطع الطريق أمام وصول أوّل يميني متطرّف إلى الرئاسة في تاريخ البرازيل الديمقراطي. كذلك أدرك المراقبون أنهم لم يقدّروا أهمية الورقة الرابحة التي راهن عليها بولسونارو منذ البداية، وهي الرفض العارم لحزب العمّال وقياداته بسبب الفساد الذي استشرى خلال ولايتَي «لولا» وبداية ولاية «خليفته» الاشتراكية ديلما روسّيف التي أقيلت من منصبها في عام 2016.

الرهان الصائب

وبالفعل، جاءت الجولة الثانية لتؤكّد عمق الاستياء الشعبي من سياسات حزب العمّال وممارساته، وصواب رهان بولسونارو الذي لم يتوقّف الناخبون عند شطحاته العنصرية وتصريحاته المهينة بحق المرأة والأقليّات... بل تماهوا مع وعوده برفض التساهل مع العنف والفساد.
وهكذا، بعد 13 سنة من حكم اليسار، وسنتين من المراوحة السياسية مع الرئيس الوسطي السابق ميشال تامر، الذي خلف ديلما روسّيف، فتحت البرازيل صفحة جديدة على المجهول في تاريخها السياسي.
البرازيل اليوم يحكمها أوّل نظام يميني متطرّف وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة، بقيادة رئيس توعّد بتقليص حقوق الطبقة العاملة وتجاهل تغيّر المناخ، وأعلن أن «الاستثمار في الثقافة ليس مجزياً»، وفتح الأبواب واسعة أمام المحافظين الإنجيليين و«العسكر» لإدارة القوة الاقتصادية الأولى في أميركا اللاتينية والثامنة في العالم.

يوم التنصيب

وقف بولسونارو أمام آلاف المحتشدين يوم تنصيبه في ميدان السلطات الثلاث، الاشتراعية والإجرائية والقضائية، في العاصمة برازيليا. ورفع راية البرازيل يلوّح بها قائلاً: «رايتنا لن تكون حمراء أبداً» في إشارة تحدٍّ إلى حزب العمّال واليسار. ثم أضاف: «أنا لست المخلّص، لكن ليس بوسع البرازيل أن تواصل جنوحها إلى الشيوعية والاشتراكية والشعبويّة التي تقضي على القيم العائلية».
في تلك الأثناء كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرسل له تغريدة يقول فيها: «الولايات المتحدة إلى جانبك»... ليردّ عليها بقوله: «معاً بحماية الله، سنحمل الازدهار والتقدّم لشعبينا». وفي عين المكان، كان في طليعة المصفّقين للرئيس اليميني الجديد «رفيقا فكر وممارسة» هما رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوروبان ونظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان يختتم زيارة رسمية إلى البرازيل، بعدما وعده بولسونارو بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. وكي لا يترك بولسونارو مجالاً للشك حول عزمه على السير في الاتجاه المعاكس تماماً للحكومات اليسارية السابقة، فإنه كان قد سحب الدعوات التي وجهها سلفه - كما هو مألوف في مثل هذه المناسبات - إلى رؤساء فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا لحضور حفل تنصيبه، وهو ما ينذر بتغيير جذري في المعادلة الإقليمية بأميركا اللاتينية.
هذا، بالنسبة للبعد الدولي، ولكن ما لفت انتباه المراقبين بشكل خاص كان غياب المعارضة البرازيلية عن حفل التنصيب، وذلك لأول مرة في تاريخ الديمقراطية البرازيلية، لاعتبارها «أن الحقد الذي يظهره الرئيس المنتخب تجاه حزب العمّال ينبع من مشروع الاستيلاء على المؤسسات وتأسيس دولة بوليسية والقضاء على المنجزات التاريخية التي حقّقها الشعب البرازيلي».

مخاوف... وتوقّعات

صحيح أن البرازيليين لا يشعرون اليوم بالخوف الذي تملّكهم من «العسكر» طوال 21 سنة من الحكم الديكتاتوري الذي امتد بين 1964 و1985. لكن التصريحات والمواقف الكثيرة التي أطلقها بولسونارو إبّان الحملة الانتخابية عن «محاسن» الحكم العسكري و«مزايا» الديكتاتورية، تطرح علامات استفهام، وتثير مخاوف حول دور «العسكر» في حكومة ثلث أعضائها من ضبّاط القوات المسلحة المتقاعدين، على رأسهم الجنرال المتقاعد هاملتون موراو، المعروف بمواقفه المتشددة، الذي يتولّى منصب نائب الرئيس بصلاحيات واسعة غير ملحوظة في الدستور البرازيلي.
أيضاً توقّف المراقبون عند تكليف جنرال متقاعد آخر معروف بمواقفه المؤيدة للحكم الديكتاتوري، هو ألبرتو سانتوس كروز، بتولي حقيبة العلاقات مع الكونغرس التي يعوّل عليها بولسونارو كثيراً لضمان الغالبية البرلمانية التي تمكّنه من تنفيذ وعوده الانتخابية.
ومن ثم، فالتوقعات الأولى تشير إلى أن البرازيل مقبلة على مرحلة حافلة بالاحتجاجات العمالية والاضطرابات الاجتماعية ضد برنامج الحكومة الجديدة. وخاصة أن هذا البرنامج يتضمّن خصخصة معظم المؤسسات والشركات العامة، وإلغاء كثير من برامج المساعدة للطبقات الشعبية والفقيرة، والسماح باستغلال مساحات واسعة من غابة الأمازون، والترخيص لبيع الأسلحة للمدنيين، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية لمكافحة الجريمة. لكن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن 75 في المائة من البرازيليين يؤيدون التدابير التي اتخذها بولسونارو خلال الفترة الانتقالية، وإلى أن هذا التفاؤل يشمل أيضا مستقبل القطاع الاقتصادي إذ يعتبر 47 في المائة منه أن نسبة البطالة ستتراجع، خاصة أن وصول بولسونارو إلى الحكم يتزامن مع خروج البرازيل من مرحلة طويلة من الركود الاقتصادي وبداية فترة واعدة من النمو.
في المقابل، يرى البعض أن هذا التفاؤل ليس إلا ظاهرة مرحليّة، وهي ما يعرف بـ«شهر العسل» الذي تنعم به عادة الحكومات الجديدة في بداياتها. كذلك تتساءل الدوائر الدبلوماسية في الدول التي تربطها مصالح تجارية كبيرة مع البرازيل، بتحفظّ شديد وحذر: إلى متى سيدوم هذا التفاؤل في الظروف الدقيقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي والانقسام السياسي والاجتماعي الحاد الذي تعيشه البلاد بعد انتخاب بولسونارو؟

«مدرسة» ترمب السياسية

لا يخفي الرئيس البرازيلي الجديد إعجابه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويحاول تقليده بشتّى الوسائل. إلا أنه رغم الترحيب الذي لقيه انتخابه لدى الإدارة الأميركية، فإن واشنطن اكتفت بإرسال وزير خارجيتها مايك بومبيو إلى حفل تنصيبه. وبالتالي، فالانطباع العام الذي يسود الدوائر السياسية الدولية المهتمة بمتابعة التطورات المقبلة في البرازيل، هو أن بولسونارو ما زال أسير نشوة الانتصار الذي كان أبعد من حلم منذ أشهر قليلة. وإنه سيضطر قريباً إلى الجنوح نحو الواقعية والاعتدال، فيتخلّى عن الخطاب المتطرف الذي حمله إلى الرئاسة.
المؤشرات الأولى لهذه «الواقعية»، التي ينتظر المراقبون أن تفرض نهجاً أكثر اعتدالاً على خطوات بولسونارو المقبلة، ظهرت مع إعلانه «إعادة النظر» في مسألة الانسحاب من «اتفاقية باريس» حول تغيّر المناخ. وذلك لأن خطوة كهذه من شأنها أن تحرم البرازيل، التي هي من الدول الرئيسية المصدّرة للمنتوجات الزراعية والمواد الغذائية، من شهادات المنشأ التي تتيح لها دخول عدد من الأسواق الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية. أيضاً، من المرجّح أن يبقى قراره نقل السفارة إلى القدس المحتلة من غير تفعيل في الوقت الراهن، بعد «التنبيهات» التي نقلها إليه عدد من كبار رجال الأعمال حول التداعيات الاقتصادية السلبية لهذه الخطوة، ولا سيما بالنظر للمصالح التجارية والمالية الضخمة للبرازيل مع عدد من الدول العربية.
مع هذا، هناك مصادر دبلوماسية رفيعة في الأمم المتحدة غير مطمئنة لناحية إحجام البرازيل عن الانسحاب من «اتفاقية باريس»، لا سيما أن أدغال الأمازون تعدّ الرئة الأساسية للأرض وتنتج أكثر من 10 في المائة من الأكسجين في العالم. وهي قلقة حقاً لأنها تتوقع الانسحاب من الاتفاقية، كما سبق أن أعلن بولسونارو خلال حملته الانتخابية.

إشكالية الأراضي الزراعية

وفي سياق متصل، تزداد الخشية من وفاء الرئيس البرازيلي الجديد بوعوده الانتخابية بعد القرار الأول الذي اتخذه بُعيد تنصيبه، عندما قدّم هديّة «سخية» لشركات تربية الماشية والمنتوجات الزراعية والغذائية، التي تتمتّع بنفوذ واسع على حساب حماية البيئة والسكان الأصليين. شركات الماشية والمنتجات الزراعية - بالمناسبة - كانت من القوى الرئيسية التي دعمت حملة بولسونارو الانتخابية بجانب الكنيسة الإنجيلية المحافظة، ولقد أصدر مرسوماً بتفويض وزارة الزراعة كامل صلاحيات تحديد المناطق المحميّة المخصّصة للسكّان الأصليين الذين يزيد عددهم على المليون ويعيشون في نحو 12 في المائة من مساحة البرازيل. ويُعدّ هذا المرسوم الذي يطلق يد وزارة الزراعة في تحديد هذه الأراضي وتسجيل ملكيّتها، ضربة قاسية للمنظمات والجمعيات المدافعة عن البيئة وعن حقوق السكّان الأصليين، خاصة، أن تيريزا كريستينا دياز، وزيرة الزراعة الجديدة، كانت حتى تعيينها رئيسة للكتلة البرلمانية التي تمثّل مصالح الشركات الزراعية والغذائية الكبرى التي تطالب منذ سنوات بمثل هذه الخطوة التي من شأنها أن تفتح مساحات شاسعة من أدغال الأمازون لاستغلاها في الزراعة وتربية الماشية. وعلى طريقة الرئيس ترمب شرح بولسونارو قراره في تغريدة: «أقلّ من مليون شخص يعيشون في مناطق منعزلة تماماً في البرازيل، تستغلّهم وتتحكم بهم منظمات غير حكومية، وسنعمل معاً من أجل إدماج هؤلاء المواطنين والنهوض بأوضاعهم».

وزارة العدل... والقضاء

من الوزارات الأخرى التي تتجّه أنظار المراقبين إليها لمعرفة خطوات الرئيس بولسونارو المقبلة وزارة العدل التي يتولاها سيرجيو مورو، القاضي الذي حكم بسجن الرئيس الأسبق لولا، خصم بولسونارو اللدود، وألغى ترشيحه للرئاسة. وفي أوّل تصريح لمورو بعد تسلّمه منصبه «المهمّة الأولى التي أوكلها إلى الرئيس هي إنهاء حالات الإفلات من العقاب»، ما يوحي بأن أول المستهدفين سيكون الرئيس السابق ميشال تامر، الذي وصل إلى رئاسة الدولة بعد عزل ديلما روسّيف، التي كان نائباً لها. وكان تامر قد استطاع الإفلات من المحاكمة والعزل بفضل تأييد غالبية الأعضاء في مجلس الشيوخ الذين كان يخشى معظمهم المصير نفسه في حال رفع الحصانة عنهم. ويتوقّع المراقبون أن تتسارع الإجراءات القضائية لملاحقة تامر بعد إسقاط الحصانة الرئاسية عنه، ما سيفتح الباب واسعاً أمام مسلسل من المحاكمات التي قد تقضي تباعاً على كثير من خصوم بولسونارو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا
TT

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما حصل أقرب منافسيها باندوليني إيتولا على 26 في المائة فقط من الأصوات. شكَّل فوز نيتومبو الملقبة بـ«NNN»، حلقةً جديدةً في حياة مليئة بالأحداث، عاشتها المرأة التي ناضلت ضد الاحتلال، واختبرت السجن والنفي في طفولتها، قبل أن تعود لتثبت نفسها بصفتها واحدة من أبرز النساء في السياسة الناميبية وقيادية فاعلة في الحزب الحاكم «سوابو».

في أول مؤتمر صحافي لها، بعد أسبوع من إعلان فوزها بالانتخابات الرئاسية، تعهدت نيتومبو، التي ستتولى منصبها رسمياً في مارس (آذار) المقبل، بإجراء «تحولات جذرية» لإصلاح مستويات الفقر والبطالة المرتفعة في ناميبيا، الدولة الواقعة في الجنوب الأفريقي، والتي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة.

نيتومبو أشارت إلى أنها قد تنحو منحى مختلفاً بعض الشيء عن أسلافها في حزب «سوابو» الذي يحكم ناميبيا منذ استقلالها عن جنوب أفريقيا في عام 1990. وقالت نيتومبو: «لن يكون الأمر كالمعتاد، يجب أن نُجري تحولات جذرية من أجل شعبنا».

لم توضح نيتومبو طبيعة هذه التحولات الجذرية التي تعتزم تنفيذها، وإن أشارت إلى «إصلاح الأراضي، وتوزيع أكثر عدالة للثروة». وبينما يصنف البنك الدولي ناميبيا على أنها دولة ذات «دخل متوسط»، فإنها تعد واحدة من أكثر الدول التي تعاني من عدم المساواة في توزيع الدخل على مستوى العالم، مع ارتفاع مستويات الفقر التي ترجع جزئياً إلى إرث عقود الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء.

ووفق تقرير رسمي من البنك الدولي صدر عام 2021 فإن «43 في المائة من سكان ناميبيا يعيشون فقراً متعدد الأبعاد». وهو مؤشر يأخذ في الاعتبار عوامل عدة إلى جانب الدخل، من بينها الوصول إلى التعليم والخدمات العامة.

ولأن طريق نيتومبو السياسي لم يكن أبداً ممهداً، لم يمر إعلان فوزها بالانتخابات دون انتقادات. وقالت أحزاب المعارضة إنها ستطعن على نتيجة الانتخابات الرئاسية، متحدثةً عن «صعوبات فنية وقمع ضد الناخبين». لكنَّ نيتومبو، المعروفة بين أقرانها بـ«القوة والحزم»، تجاهلت هذه الادعاءات، واحتفلت بالفوز مع أعضاء حزبها، وقالت: «أنا لا أستمع إلى هؤلاء المنتقدين».

نشأة سياسية مبكرة

وُلدت نيتومبو في 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 في قرية أوناموتاي، شمال ناميبيا، وهي التاسعة بين 13 طفلاً، وكان والدها رجل دين ينتمي إلى الطائفة الأنغليكانية. وفي طفولتها التحقت نيتومبو بمدرسة «القديسة مريم» في أوديبو. ووفق موقع الحزب الحاكم «سوابو» فإن «نيتومبو مسيحية مخلصة»، تؤمن بشعار «قلب واحد وعقل واحد».

في ذلك الوقت، كانت ناميبيا تعرف باسم جنوب غرب أفريقيا، وكان شعبها تحت الاحتلال من دولة «جنوب أفريقيا»، مما دفع نيتومبو إلى الانخراط في العمل السياسي، والانضمام إلى «سوابو» التي كانت آنذاك حركة تحرير تناضل ضد سيطرة الأقلية البيضاء، لتبدأ رحلتها السياسية وهي في الرابعة عشرة من عمرها.

في تلك السن الصغيرة، أصبحت نيتومبو ناشطة سياسية، وقائدة لرابطة الشباب في «سوابو»، وهو ما أهّلها فيما بعد لتولي مناصب سياسية وقيادية، لكنها تقول إنها آنذاك «كانت مهتمة فقط بتحرير بلدها من الاحتلال»، مشيرةً في حوار مصوَّر نُشر عبر صفحتها على «فيسبوك» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن «السياسة جاءت فقط بسبب الظروف، التي لو اختلفت ربما كنت أصبحت عالمة».

شاركت نيتومبو في حملة «ضد الجَلْد العلنيّ»، الذي كان شائعاً في ظل نظام الفصل العنصري، وكان نشاطها السياسي سبباً في إلقاء القبض عليها واحتجازها، عدة أشهر عام 1973، وهي ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية. ونتيجة ما تعرضت له من قمع واضطهاد، فرَّت نيتومبو إلى المنفى عام 1974، وانضمت إلى أعضاء «سوابو» الآخرين هناك، واستكملت نضالها ضد الاحتلال من زامبيا وتنزانيا، قبل أن تنتقل إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراستها.

تدرجت نيتومبو في مناصب عدة داخل «سوابو»، فكانت عضواً في اللجنة المركزية للحركة من عام 1976 إلى عام 1986، والممثلة الرئيسية للحركة في لوساكا من عام 1978 إلى عام 1980. والممثلة الرئيسية لشرق أفريقيا، ومقرها في دار السلام من عام 1980 إلى عام 1986.

درست نيتومبو في كلية غلاسكو للتكنولوجيا، وحصلت على دبلوم في الإدارة العامة والتنمية عام 1987، ودبلوم العلاقات الدولية عام 1988، ودرجة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية عام 1989 من جامعة كيل في المملكة المتحدة، كما حصلت على دبلوم في عمل وممارسة رابطة الشبيبة الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي، من مدرسة «لينين كومسومول العليا» في موسكو.

ونالت الكثير من الأوسمة، من بينها وسام النسر الناميبي، ووسام «فرانسيسكو دي ميراندا بريميرا كلاس» من فنزويلا، والدكتوراه الفخرية من جامعة دار السلام بتنزانيا.

تزوجت نيتومبو عام 1983 من إيبافراس دينجا ندايتواه، وكان آنذاك شخصية بارزة في الجناح المسلح لجيش التحرير الشعبي في ناميبيا التابع لـ«سوابو»، وتولى عام 2011 منصب قائد قوات الدفاع الناميبية، وظل في المنصب حتى تقاعده في عام 2013، ولديها ثلاثة أبناء.

العودة بعد الاستقلال

بعد 14 عاماً من فرار نيتومبو إلى المنفى، وتحديداً في عام 1988، وافقت جنوب أفريقيا على استقلال ناميبيا، لتعود نيتومبو إلى وطنها، عضوة في حزب «سوابو» الذي يدير البلاد منذ الاستقلال.

تدرجت نيتومبو في المناصب وشغلت أدواراً وزارية عدة، في الشؤون الخارجية والسياحة ورعاية الطفل والمعلومات. وعُرفت بدفاعها عن حقوق المرأة.

وعام 2002 دفعت بقانون عن العنف المنزلي إلى «الجمعية الوطنية»، وهو القانون الذي يعد أحد أبرز إنجازاتها، حيث دافعت عنه بشدة ضد انتقادات زملائها، ونقلت عنها وسائل إعلام ناميبية في تلك الفترة تأكيدها أن الدستور يُدين التمييز على أساس الجنس.

وواصلت صعودها السياسي، وفي فبراير (شباط) من العام الماضي، أصبحت نائبة رئيس ناميبيا. كانت أول امرأة تشغل مقعد نائب رئيس حزب «سوابو» بعدما انتخبها مؤتمر الحزب في عام 2017 وأعيد انتخابها في مؤتمر الحزب نوفمبر 2022، مما أهَّلها لتكون مرشحة الحزب للرئاسة عام 2024، خلفاً للرئيس الحاج جينجوب، الذي توفي خلال العام الماضي، وتولى رئاسة البلاد مؤقتاً نانجولو مبومبا.

صعوبات وتحديات

لم تكن مسيرة نيتومبو السياسية مفروشة بالورود، إذ اتُّهمت في فترة من الفترات بدعم فصيل منشق في حزب «سوابو» كان يسعى لخلافة سام نجوما أول رئيس لناميبيا بعد الاستقلال، لكنها سرعان ما تجاوزت الأزمة بدعم من هيفيكيبوني بوهامبا، خليفة نجوما.

يصفها أقرانها بأنها قادرة على التعامل مع المواقف الصعبة بطريقة غير صدامية. خلال حياتها السياسية التي امتدّت لأكثر من نصف قرن أظهرت نيتومبو أسلوباً عملياً متواضعاً في القيادة، ولم تتورط -حسب مراقبين- في فضائح فساد، مما يمنحها مصداقية في معالجة مثل هذه الأمور، لكنَّ انتماءها منذ الطفولة إلى «سوابو»، وعملها لسنوات من خلاله، لا ينبئ بتغييرات سياسية حادة في إدارة البلاد، وإن تعهَّدت نيتومبو بذلك.

ويرى مراقبون أنها «لن تبتعد كثيراً عن طريق الحزب، ولن يشكل وجودها على سدة الحكم دعماً أكبر للمرأة». وأشاروا إلى أن نيتومبو التي كانت رئيسة المنظمة الوطنية الناميبية للمرأة (1991-1994)، والمقررة العامة للمؤتمر العالمي الرابع المعنيّ بالمرأة في عام 1995 في بكين، ووزيرة شؤون المرأة ورعاية الطفل 2000-2005، «لا يمكن وصفها بأنها نسوية، وإن دافعت عن بعض حقوق النساء».

خلال الانتخابات قدمت نيتومبو نفسها بوصفها «صوتاً حازماً يتمحور حول الناس، وزعيمة سياسية وطنية، مخلصة للوحدة الأفريقية، مناصرةً لحقوق المرأة والطفل والسلام والأمن والبيئة»، وتبنت خطاباً يضع الأوضاع المعيشية في قمة الأولويات، متعهدةً بـ«خلق 250 ألف فرصة عمل خلال السنوات الخمس المقبلة» ليتصدر هذا التعهد وسائل الإعلام الناميبية، لكن أحداً لا يعرف إن كانت ستنجح في تنفيذ تعهدها أم لا.

تبدأ نيتومبو فترة حكمها بصراعات سياسية مع أحزاب المعارضة التي انتقدت نتيجة الانتخابات التي جعلتها رئيسة لناميبيا، تزامناً مع استمرار تراجع شعبية الحزب الحاكم. وفي الوقت نفسه تواجه نيتومبو عقبات داخلية في ظل ظروف اقتصادية صعبة يعيشها نحو نصف السكان، مما يجعل مراقبون يرون أنها أمام «مهمة ليست بالسهلة، وأن عليها الاستعداد للعواصف».

ويندهوك عاصمة ناميبيا (أدوب ستوك)

حقائق

ناميبيا بلد الماس... و43% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر

في أقصى جنوب غربي القارة الأفريقية تقع دولة ناميبيا التي تمتلك ثروات معدنية كبيرة، بينما يعيش ما يقرب من نصف سكانها فقراً متعدد الأبعاد.ورغم مساحة ناميبيا الشاسعة، فإن عدد سكانها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة؛ ما يجعلها من أقل البلدان كثافة سكانية في أفريقيا، كما أن بيئتها القاسية والقاحلة تصعّب المعيشة فيها. ومن الجدير بالذكر أن البلاد هي موطن صحراء كالاهاري وناميب.وفقاً لموقع حكومة ناميبيا، فإن تاريخ البلاد محفور في لوحات صخرية في الجنوب، «يعود بعضها إلى 26000 عام قبل الميلاد»، حيث استوطنت مجموعات عرقية مختلفة، بينها «سان يوشمن»، و«البانتو» وأخيراً قبائل «الهيمبا» و«هيريرو» و«ناما»، أرض ناميبيا الوعرة منذ آلاف السنين.ولأن ناميبيا كانت من أكثر السواحل القاحلة في أفريقيا؛ لم يبدأ المستكشفون وصيادو العاج والمنقبون والمبشرون بالقدوم إليها؛ إلا في منتصف القرن التاسع عشر، لتظل البلاد بمنأى عن اهتمام القوى الأوروبية إلى حدٍ كبير حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما استعمرتها ألمانيا، بحسب موقع الحكومة الناميبية.سيطرت ألمانيا على المنطقة التي أطلقت عليها اسم جنوب غربي أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وأدى اكتشاف الماس في عام 1908 إلى تدفق الأوروبيين إلى البلاد، وتعدّ ناميبيا واحدة من أكبر 10 دول منتجة للماس الخام في العالم، وتنتج وفق التقديرات الدولية نحو مليونَي قيراط سنوياً.شاب فترة الاستعمار صراعات عدة، وتمرد من السكان ضد المستعمر، تسبَّبا في موت عدد كبير، لا سيما مع إنشاء ألمانيا معسكرات اعتقال للسكان الأصليين، وعام 1994 اعتذرت الحكومة الألمانية عن «الإبادة الجماعية» خلال فترة الاستعمار.ظلت ألمانيا تسيطر على ناميبيا، التي كانت تسمى وقتها «جنوب غربي أفريقيا» حتى الحرب العالمية الأولى، التي انتهت باستسلام ألمانيا، لتنتقل ناميبيا إلى تبعية جنوب أفريقيا، فيما تعتبره الدولة «مقايضة تجربة استعمارية بأخرى»، وفق موقع الحكومة الناميبية.في عام 1966، شنَّت المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا (سوابو)، حرب تحرير، وناضلت من أجل الاستقلال، حتى وافقت جنوب أفريقيا في عام 1988 على إنهاء إدارة الفصل العنصري. وبعد إجراء الانتخابات الديمقراطية في عام 1989، أصبحت ناميبيا دولة مستقلة في 21 مارس (آذار) 1990، وأصبح سام نجوما أول رئيس للبلاد التي ما زال يحكمها حزب «سوابو». وشجعت المصالحة بين الأعراق السكان البيض في البلاد على البقاء، وما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في الزراعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى.وتعد ناميبيا دولة ذات كثافة سكانية منخفضة، حيث يعيش على مساحتها البالغة 824 ألف متر مربع، نحو ثلاثة ملايين نسمة. ويشير البنك الدولي، في تقرير نشره عام 2021، إلى أن ناميبيا «دولة ذات دخل متوسط»، لكنها تحتل المركز الثالث بين دول العالم من حيث عدم المساواة في توزيع الدخل، حيث يمتلك 6 في المائة فقط من السكان نحو 70 في المائة من الأملاك في البلاد، وتعيش نسبة 43 في المائة من سكان ناميبيا في «فقر متعدد الأبعاد». وتدير ثروات البلاد الطبيعية من الماس والمعادن شركات أجنبية.وتمتلك ناميبيا ثروة برية كبيرة، لكنها تعاني بين الحين والآخر موجات جفاف، كان آخرها الصيف الماضي، ما اضطرّ الحكومة إلى ذبح أكثر من 700 حيوان بري من أجناس مختلفة، بينها أفراس نهر، وفيلة، وجواميس وحمير وحشية، وهو إجراء ووجه بانتقادات من جانب جمعيات البيئة والرفق بالحيوان، لكن حكومة ناميبيا دافعت عن سياستها، مؤكدة أنها تستهدف «إطعام السكان الذين يعانون الجوع جراء أسوأ موجة جفاف تضرب البلاد منذ عقود».ووفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منتصف العام الحالي، فإن «نحو 1.4 مليون ناميبي، أي أكثر من نصف السكان، يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، مع انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 53 في المائة ومستويات مياه السدود بنسبة 70 في المائة مقارنة بالعام الماضي».