«الشباب» و«داعش»... حرب المواجهة المفتوحة في الصومال

نظرة على صراع التنظيمات الإرهابية في أفريقيا

صوماليون قرب موقع تفجير انتحاري في مقديشو الأسبوع الماضي (رويترز)
صوماليون قرب موقع تفجير انتحاري في مقديشو الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

«الشباب» و«داعش»... حرب المواجهة المفتوحة في الصومال

صوماليون قرب موقع تفجير انتحاري في مقديشو الأسبوع الماضي (رويترز)
صوماليون قرب موقع تفجير انتحاري في مقديشو الأسبوع الماضي (رويترز)

شهدت الأيام القليلة الماضية تطورا لافتا للنظر في المواجهة العسكرية بين تنظيمين إرهابيين نشيطين في الصومال. ورغم أن الاشتباك الأخير، لا يعد الأول من نوعه، حيث كانت بداية المواجهات بين المجموعتين قد انطلقت سنة 2015. غير أنه ينهي، مرحلة توصل فيها الطرفان لما يشبه هدنة، صمدت لنحو ثلاث سنوات؛ وساعدتهما على تنسيق جهودهما، الخاصة بشن عمليات منسقة على الحدود الصومالية الإثيوبية.
ويبدو أن انهيار الهدنة القائمة بين الجماعتين المتطرفتين، تظهر أنهما دخلا في صراع جديد، مختلف من حيث الدوافع، والأهداف عن تلك المواجهات الدامية السابقة؛ التي جاءت بسبب ولادة «داعش» الصومال، وانشقاق بعض القيادات الشابة عن تنظيم الشباب سنة 2015.
وتفيد المواجهة المسلحة الأخيرة، والمختلف حول نتائجها بين التنظيمين المتطرفين، أن حرب «القاعدة» و«داعش»، بالصومال، انتقلت إلى مرحلة جديدة بين «حركة الشباب» و«جماعة البغدادي»؛ خاصة فرعها بزعامة عبد القادر مؤمن. فقد كانت المواجهات السابقة، في عمومها تتركز على اغتيال شخصيات منشقة من التنظيمين؛ لتتحول في شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 2018 إلى مواجهة شاملة، وتكفير متبادل، ودعوة كل طرف لمنافسه للخروج من الصومال. كما أن الاقتتال بين «الشباب» وفرع «داعش»، حمي وطيسه سنة 2015، وشهد فصولا من المواجهات النادرة سنة 2017، وكذلك الحدث المعزول الذي وقع بداية سنة 2018؛ ظل ملفوفا بالكتمان من الجانبين، الشيء الذي فهم منه أن المواجهات لم تكن اختيارا آيديولوجيا، وعقديا. غير أن خروج حركة الشباب، ببيان، ونداء لقتال «داعش» الصومال، سرعان ما رد عليه تنظيم عبد القادر مؤمن بتوثيق المعركة ونشر شريط الفيديو، الذي يوثق للمعركة التي وقعت بين الطرفين يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 2018. وهذا التوجه الجديد من كلا الطرفين، يؤكد أنهما في بداية الحرب المفتوحة.
ويظهر أن ما أقدمت عليه وكالة أنباء «أعماق» التابعة لـ«داعش»، يشكل واحدة من سمات المرحلة الجديدة للصراع الناشب بين الطرفين. حيث نشرت الوكالة، لأول مرة في تاريخها شريطا مرئيا يوثق المواجهة بين وكلاء «القاعدة» و«داعش»، في 16 ديسمبر. وبحسب رواية تنظيم عبد القادر مؤمن، فإن مقاتليه، هاجموا حركة الشباب، في منطقة بونتلاند الشمالية، مما أسفر عن مقتل 14 من أعضاء الشباب بزعامة «أحمد ديري أبو عبيدة». ورغم أن الشريط المصور، لا يظهر كل فصول المعركة، واقتصر على جانب منها، فإنه تعمد إظهار تبادل لإطلاق النار بين الجانبين، وجثث لأربعة من مقاتلي تنظيم حركة الشباب؛ تزعم «داعش» أنهم قتلوا في المواجهات، بالإضافة إلى ثماني بنادق كلاشنيكوف.

شرارة المواجهة
جاءت الاشتباكات الأخيرة التي استمرت لأكثر من أسبوع؛ تماشيا مع توجهات قرار حركة «شباب المجاهدين»، الذي اتخذته الحركة، ثلاثة أسابيع قبل نهاية 2018. فقد أعلن الناطق باسم الحركة علي طيري، يوم الخميس 20 ديسمبر 2018 عبر قناة التنظيم بـ«التيليغرام»، أن تنظيمه سيحارب «داعش»؛ وهو ما تم ترجمته بعنف بعد أربعة أيام من الإعلان. حيث هاجمت الشباب فرع «داعش»، في منطقة جبلية تسمى «عيل عدي»، بإقليم غدو جنوب غربي الصومال. وقد أشارت تقارير صحافية محلية إلى أن الاشتباكات اندلعت، يوم 22 و23 ديسمبر 2018 وأسفرت عن مقتل 10 أشخاص من الجانبين.
وكانت حركة الشباب قد دعت، في بيان لها بعنوان «والله يعلم المفسد من المصلح»، إلى ضرورة استئصال «داعش». معتبرة أن هذا التنظيم كفر المسلمين، واستحل أموالهم وأنفسهم»، كما أنه يحاول زرع الفتنة وسط المتطرفين؛ حيث عمل على خلق نزاعات وانشقاقات، مستغلا العناصر الأجنبية الوافدة من خارج الصومال.
وفي هذا السياق، شهدت مدينة «جلب» جنوب الصومال، مواجهات داخلية عنيفة بين أعضاء تنظيم الشباب. ويأتي ذلك بعد مقتل قيادي أجنبي من التنظيم الإرهابي على يد مقاتلين بالحركة، يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بسبب اتهامه بالانشقاق عن الشباب وانضمامه لـ«داعش». ويبدو فعلا أن جماعة، عبد القادر مؤمن، رغم قلة عناصرها، استطاعت استمالة بعض المقاتلين الأجانب التابعين للشباب إلى صفوفها؛ وهو ما أدى إلى حدوث الاشتباكات بين العناصر الأجنبية الموالية للقيادي المقتول، المسمى «أبو يونس المصري»، ومجموعة أجنبية لها ولاء كامل لحركة الشباب.
ويشبه هذا الحدث ما وقع بداية سنة 2017، جنوب الصومال، بإقليم «جوبا الوسطى»، حيث دارت مواجهات بين مقاتلين من الشباب بينهم أجانب وعناصر أخرى تنتمي إلى الحركة نفسها، أعلنت مبايعتها لتنظيم داعش في الصومال.
ومن الواضح أن هذه الاشتباكات الأخيرة، بين الجماعتين الإرهابيتين، تأتي بعد تحول الصراع بين الجانبين، إلى تنافس على بسط النفوذ الجغرافي. فبحسب الحكومة الصومالية، فإن أجهزتها الأمنية رصدت في نوفمبر، انتشارا لعناصر «داعش»، في مختلف الأقاليم؛ مما يعني أن التنظيم الإرهابي لم يعد يكتفي بالمناطق الجنوبية الجبلية، والحدودية التي كان يتمركز فيها منذ سنة 2015.
ويبدو أن «حركة الشباب»، واعية بأن مثل هذه الخطوة الجديدة لـ«داعش»، من شأنها التأثير على الحركة، على المستوى التنظيمي، وعلى مستوى التمويل والتسليح. ذلك أن «الشباب» مهيمنة على مناطق شاسعة من الجنوب وفي الريف الصومالي عموما. وهو ما يمكنها من مداخل مهمة، تهم التجارة والخدمات، وفرض الضرائب؛ كما تهم بعض الموارد الاقتصادية مثل الفحم.
حيث استطاعت «حركة الشباب» بحسب تقديرات الأمم المتحدة تصدير وإنتاج نحو 3.6 مليون كيس من الفحم سنة 2017، ربحت منه الحركة، عائدات لا تقل عن 7.5 مليون دولار؛ أي بسعر 2.5 دولار عن كل كيس بيعت بطرق ملتوية في السوق الدولية.

ملء الفراغ
يبدو أن الصراع بين حركة الشباب وفرع «داعش» بالصومال، قد دخل منعطفا جديدا؛ وأن هذا الصراع يدور حول مسألة بناء النفوذ وسط دولة فاشلة، لم تستطع القوات الأفريقية ولا المساعدات الخارجية، لا استعادة الدولة ولا القضاء على الإرهاب. فما زال الصومال يعيش في نزاعات وانقسامات سياسية، على المستويين المركزي وداخل الولايات؛ ومثال ذلك منع مختار روبو المعروف بأبي منصور من الترشح للانتخابات، رغم أنه كان أول من ترشح رسميا لولاية بيدوا، جنوب غربي الصومال.
وفي هذا السياق الانقسامي والعشائري، يأتي إلقاء القبض على أبي منصور القيادي ومؤسس حركة الشباب؛ في الوقت الذي اعتبر بعض المختصين ترشحه، طريقة سلمية انتخابية لإضعاف الإرهاب، وخصوصا تنظيم الشباب، وبالتالي تدعيما للاستقرار.
فرضت الحكومة المركزية على السكان عبد العزيز حسن محمد لفتاغرين لحكم ولاية جنوب غربي الصومال؛ الشيء الذي قرب من جديد بين أنصار أبي منصور وتنظيم الشباب، رغم أن أبا منصور انشق منذ 2017 عن التنظيم الإرهابي، وهدر هذا الأخير دم المنشق الملتحق بالحكومة المركزية. أما على المستوى العسكري، فإن المواجهة المسلحة بين «داعش»، و«الشباب»، تخفي من ورائها سعي هذا الأخير إلى ملء الفراغ الذي يتركه ضعف الجيش الصومالي. بالإضافة إلى قرب موعد انسحاب القوات الأفريقية بحلول سنة 2020. وبحكم التجربة الطويلة «لحركة الشباب»، فإن المواجهة الشاملة التي أعلنتها ضد «داعش»؛ هي استباق لملء الفراغ ومنع جماعة عبد القادر مؤمن، من بناء أي نفوذ في المناطق الاستراتيجية، أو تلك التي يسيطر عليها حاليا تنظيم أبي عبيدة.
يبدو أن «حركة الشباب» لها خطة استباقية لما سيؤول إليه الوضع الصومالي الهش، وهي واعية، بمحدودية الغارات الجوية الأميركية، ومجهودات القوات الصومالية والأفريقية؛ وبالتالي فإن خروجها العلني وإعلان المواجهة الشاملة يأتيان من اعتبار التنظيم نفسه هو المنافس الوحيد للحكومة الحالية على السلطة.
ويشير اللواء عبديلي جاما قائد قوات الدفاع الصومالية إلى العمل غير الدقيق والبطيء للقوات الأفريقية ببلاده، حيث يقول في حوار مع موقع منتدى الدفاع الأفريقي: «نحن‭ ‬نعمل‭ ‬سوياً‭ ‬مع‭ ‬بعثة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأفريقي‭ ‬في‭ ‬الصومال‭ ‬(أميصوم) ‬ونعمل‭ ‬على‭ ‬سد‭ ‬الثغرات؛‭ ‬فنحن‭ ‬الآن‭ ‬نقوم‭ ‬بعمليات‭ ‬مشتركة، ‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بولو‭ ‬مارير‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الصومال». وكان‭ ‬هذا‭ ‬نجاحاً‭ ‬كبيراً‭ ‬بالنسبة‭ ‬للجيش‭ ‬الوطني‭ ‬الصومالي‭ ‬وبعثة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأفريقي‭ ‬في‭ ‬الصومال ‬لكن‭ ‬الأمر ‬فيه صعوبات،‭ ‬ففي فترة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عدم‭ ‬التنسيق‭ ‬بين‭ ‬القيادة‭ ‬والتنفيذ‭ .‬فلا يُعلِم‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬مساهم‭ ‬بقوات، ‭ ‬عند‭ ‬مباشرة‭ ‬عملياتها، ‭ ‬قائد‭ ‬قطاع‭ ‬بعثة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأفريقي‭ ‬في‭ ‬الصومال‭ ‬بهذه‭ ‬العمليات‭ ‬مباشر‭ ة‬ بل‭ ‬يرسلون‭ ‬إلى‭ ‬بلدانهم‭ ‬الأصلية‭ ‬التعليمات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بنيتهم‭ ‬في‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ .
ويضيف اللواء عبديلي: «ربما‭ ‬التحدي‭ ‬الأكبر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬قواعد‭ ‬عسكرية‭ ‬وثكنات‭ ‬يعمل‭ ‬بها‭ ‬الضباط‭ .‬نفتقر‭ ‬إلى‭ ‬هذا، ‭ ‬وتنقصنا‭ ‬الموارد، ‭ ‬ونحتاج‭ ‬إلى‭ ‬المعدات‭ .‬نحن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬شركاء‭ ‬ومتبرعين‭ ‬أيضاً‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يساعدونا‭ ‬في‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الوطني‭ ‬الصومالي‭ .‬نحن‭ ‬حريصون‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬الجيش‭ ‬الوطني‭ ‬الصومالي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الشراكات‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان. دون‭ ‬أن‭ ‬نستغل‭ ‬هذا‭ ‬الدعم‭ ‬لتشكيل‭ ‬جيشنا‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬الصوماليين‭.»‬
من جانب آخر، يمكن فهم هذا الصراع، في سياق عام؛ يتعلق بالصراع المرير بين تنظيمي «القاعدة»، و«داعش»، والممتد من العراق إلى سوريا واليمن إلى الصومال. فتوجهات المركز، واستراتيجيته، تؤثر بشكل كبير على الأطراف. وبالتالي يمكن القول إن «القاعدة» بالصومال لا تريد منح أي فرصة لتوسع «داعش» في أحد مواقعها التاريخية.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.