قيود واندماجات وتشريعات لـ«ضبط» المشهد الإعلامي العربي في 2018

الأخبار الكاذبة تمنح الصحافة أملاً بمواجهة مواقع التواصل

جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
TT

قيود واندماجات وتشريعات لـ«ضبط» المشهد الإعلامي العربي في 2018

جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)

قد يكون العنوان الأبرز للمشهد الإعلامي العربي في عام 2018 هو مواجهة الأخبار الكاذبة وما ترتب على ذلك من تحديات وفرص، فعلى مدار العام أقيمت مؤتمرات وجلسات حوارية لإيجاد حل لهذه المشكلة التي أرقت المنطقة العربية والعالم على حدٍ سواء، ومع ذلك فإن هذه الأزمة أعطت بعض الأمل للإعلام التقليدي كوسيلة للتحقق من المعلومات في مواجهة الإعلام الجديد أو السوشيال ميديا.
لكن وعلى مستوى آخر، فإن المعركة لا تزال دائرة بين ما يسمى بالإعلام القديم والحديث، وباتت وسائل الإعلام العربية القديمة تعاني تحت وطأة سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديث على الشبكة العنكبوتية.
ليس هذا هو الخطر الوحيد الذي يهدد الإعلام العربي فعام 2018 كان حافلاً بالتحديات سواء تلك المتعلقة بالقيود والتشريعات القانونية، أو بمستوى الحريات الممنوحة للصحافة والإعلام، ومحاولات جهات حكومية السيطرة على مضمون الرسالة الإعلامية عبر اندماجات وتحالفات، أو عن طريق أزمات مالية متلاحقة عصفت بالإعلام بشكل عام، والصحافة الورقية بشكل خاص، مما أدى إلى إغلاق قنوات تلفزيونية وصحف ورقية.
وعلى صعيد التشريعات القانونية شهد العام محاولات عربية عدة لسن تشريعات إعلامية لـ«ضبط المشهد»، فأصدرت مصر 3 قوانين لتنظيم الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ووضعت للمرة الأولى نصوصاً خاصة بالمواقع الإلكترونية، وحددت طرقاً لترخيصها، وفي السودان تم تعديل قانون الصحافة والمطبوعات، بينما ما زالت دول أخرى مثل البحرين ولبنان تعمل بقوانين قديمة يؤكد قائمون على العمل الإعلامي أنها لم تعد تتواكب مع العصر، وفي الجزائر ما زال العاملون بقطاع الإعلامي المرئي والمسموع يعانون من عدم إصدار الحكومة للائحة التنفيذية للقانون الصادر عام 2014 لتنظيم عمل الإعلام المرئي والمسموع، وكسر احتكار الدولة للتلفزيون، لتعامل القنوات التلفزيونية الخاصة في الجزائر، باعتبارها مكاتب لوسائل إعلام أجنبية.
وتثير قضية التشريعات الإعلامية سواء كانت قديمة أو جديدة الجدل في كل دولة تثار فيها هذه القضية، فبينما يرى البعض في التعديلات قيوداً جديدة على حرية الإعلام، ومحاولة من جانب الدولة السيطرة عليه، يؤيد آخرون هذه القيود للحد من الفوضى الإعلامية.
الناشر المصري هشام قاسم يرى في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «القوانين الجديدة ما هي إلا محاولة لفرض مزيد من القيود على حرية الإعلام»، مؤكداً أن ضبط المشهد الإعلامي «لن يحدث إلا بمزيد من الحرية، فالمنافسة هي التي ستمنح الإعلام القدرة على التطور».
لكن الإعلامي اللبناني جورج قرداحي كان له رأي آخر، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «القوانين ضرورية لتنظيم الإعلام، ووضع قيود حتى لا يتجاوز الإعلام الخطوط الحمراء التي تمس بالسلم الأهلي والتعايش بين المواطنين».
الصحافي التونسي توفيق حبيب، رئيس تحرير مجلة ليدرز، كان أيضاً مع إنشاء كيانات لتنظيم عمل الإعلام، وإن كان يؤكد على «تمتع الإعلام التونسي بالحرية»، ويقول لـ«الشرق الأوسط» «إن الدستور التونسي الصادر في عام 2014، نص على تكوين هيئة للاتصال السمعي والبصري، لكن هذا لم يحدث حتى الآن».
ورصدت منظمة «مراسلون بلا حدود» في تقريرها الأخير عن مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، أن «العداء للصحافيين يزداد عالمياً»، وصنف التقرير، الذي يقيس حرية الصحافة في 180 دولة، الدول العربية في مراكز متأخرة، بسبب النزاعات المسلحة والاتهامات بالإرهاب، وزيادة الرقابة، مما يجعل ممارسة المهنة في الوطن العربي «أمراً خطيراً»، وجاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة 177، ثم اليمن 167، والبحرين 166، وليبيا 162، ومصر 161، والعراق 160، والجزائر 136، والمغرب 135، والإمارات 128، ولبنان 100، وتونس 97.
لكن التشريعات والقيود القانونية سواء مقيدة أم ضابطة للمشهد الإعلامي العربي، ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يتم اللجوء إليها للسيطرة على الرسالة الإعلامية، فهناك وسائل أخرى مثل حبس الصحافيين والإعلاميين، ربما كان أبرزها في المغرب حبس الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، أو امتلاك الدولة أو جهات محسوبة عليها لوسائل الإعلام وربما كان المثال الأوضح على ذلك خلال عام 2018 ما حدث في مصر، من اندماج عدة شبكات فضائية، ودخولها تحت مظلة واحدة، أدت في النهاية إلى إغلاق الكثير من القنوات وتسريح عدد من الإعلاميين، ووقف عدد من البرامج لمشاهير الإعلاميين مثل لميس الحديدي.
رئيس التحرير السابق لصحيفة «المصري اليوم» محمد السيد صالح، عدّ في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «الاندماجات تمثل خطورة على المشهد الإعلامي»، وقال إن «قطاعاً كبيراً الآن يضم مؤيدين للسلطة ينتقدون تدخل جهات ذات طابع رسمي للسيطرة على المشهد الإعلامي، خصوصاً وأن إدارة الموقف لا تجري باحترافية».
ويضيف صالح: «ما نراه اليوم يثبت أن هذه الاندماجات كانت بلا خطة ولا هدف، فهناك قنوات أغلقت في نفس العام الذي أطلقت فيها»، ويقدر أن «الخسائر بالمليارات، لكن الخسارة الأكبر تكمن في الجمهور الذي انصرف عن هذه القنوات إلى وسائل إعلام أخرى خارجية».
الأزمات المالية تحدٍ آخر أضيف لما واجهه الإعلام العربي في العام المنصرم، وكان ذلك بسبب تراجع عائدات الإعلانات، وارتفاع تكلفة الطباعة، وسعر الورق، في ظل انخفاض التوزيع واتجاه الجمهور للصحافة الإلكترونية كبديل عن الورقية.
وشهد عام 2018 تقليص أماكن طباعة صحيفة الحياة ورقياً وتقديم نسخة إلكترونية لقرائها، كما تم إغلاق دور صحافية عريقة مثل دار الصياد في لبنان، وتوقف صحف تونسية عن الطباعة واكتفائها بالمواقع الإلكترونية، وما نتج عن ذلك من تشريد صحافيين، وكان أكبر تعبير عن الأزمة هو إصدار صحيفة النهار اللبنانية عدداً من الجريدة بصفحات بيضاء.
توضح الصحافية التونسية آسيا العتروس، رئيس تحرير أول في جريدة الصباح التونسية، لـ«الشرق الأوسط» أزمة صحيفتها كواحدة من الصحف المصادرة في تونس في أعقاب الثورة التونسية، وتقول: «صحيفة الصباح واحدة من المؤسسات الإعلامية التي نشأت في تونس في أعقاب استقلالها، فعمرها من عمر تونس لكنها اليوم مهددة، حيث لم تحظَ بالإصلاح المطلوب في ظل فساد المشهد الإعلامي عبر ما يسمى بتعيينات الولاءات (أصحاب الولاء)».
ورأت العتروس أن «مناخ الحريات الصحافية في تونس لم يقابله استثمار لهذه الحرية، لتشهد الساحة الإعلامية منافسة شرسة بين مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة التقليدية».
ويرى رئيس تحرير مجلة ليدرز التونسية أن «الصحافة كانت أكبر مستفيد من الثورة التونسية، خاصة فيما يتعلق بالتحرر والتعددية، وإن كانت هناك محاولات لتجنيدها أو احتوائها في بعص الأحيان»، ويشير حبيب إلى أن «قلة المنافسة الاقتصادية بسبب ما حدث في ليبيا، أدى إلى انحسار الإنفاق الإعلامي وغياب الإعلانات والاشتراكات».
ويقول: «عام 2018 شهد صدور صحف ومحطات ومواقع مجهولة التمويل لا تخضع لأي منطق اقتصادي، واحتجاب صحف عتيدة مثل جريدة الصريح اليومية، وأخبار الجمهورية الأسبوعية، واكتفائها بنسخ إلكترونية، وتراكم ديون وأزمات مالية في دور صحافية أخرى مثل الصباح».
وتعد المنافسة مع مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام الإلكتروني أحد أهم أسباب الأزمة التي تعاني منها الصحافة الورقية، خاصة مع هروب المعلنين إلى تلك المساحات الجديدة التي يمكن قياس مدى تأثيرها، بعيداً عن مؤشرات وهمية يتيحها الإعلام التقليدي.
خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في الإعلام الحديث، يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «الصراع بدأ بين شركات السيلكون فالي وشركات الإعلام، على مساحة الإعلانات، لنصل اليوم إلى استحواذ (غوغل) و(فيسبوك) على 85 في المائة من الإعلانات، مقابل 15 في المائة لباقي وسائل الإعلام».
ويقول البرماوي إن «العالم استشعر خطورة السوشيال ميديا خاصة بعد الانتخابات الأميركية الأخيرة، وبدأت تحالفات إعلامية تضغط في مواجهة ما سمي بالأخبار المفبركة، واستطاعت خلال عام 2018 استعادة المصداقية لمنصاتها الإعلامية خاصة فيما يتعلق بالتحقق من الأخبار المفبركة والمغلوطة التي ثبت تأثيرها السلبي على المجتمع».
وإن كانت المعالجة عالمياً جاءت ملائمة بدرجة أو بأخرى، فإن الوضع مختلف عربياً، ويرى البرماوي أن «المنطقة العربية متأخرة في المشكلة والحل، رغم أن المشكلة أصعب هنا لأن وعي المواطن أقل»، لكنه في الوقت نفسه يرى أن «هناك حالة بسيطة متنامية في الشارع العربي مفادها أن السوشيال ميديا أكثر انتشاراً لكنها ليست الأكثر مصداقية، والتحقق من المعلومة يستلزم اللجوء لوسائل الإعلام التقليدية».
ودعا البرماوي وسائل الإعلام إلى «العمل على سد الفراغ على الإنترنت بتوفير محتوى نادر قادر على المنافسة في العصر الإلكتروني».
لكن فتحي أبو حطب، مدير عام مؤسسة المصري اليوم، يرى أن «وسائل الإعلام التقليدية في الوطن العربي خسرت المعركة في مواجهة الإعلام الحديث»، ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «النموذج الربحي للإعلام الذي كان قائماً على الإعلانات تغير، ولم يعد بإمكان الإعلام التقليدي جذب النسبة المطلوبة من المعلنين لافتقاده البيانات التي توفرها وسائل الإعلام الحديث عن طبيعة الجمهور وصفاته وحجمه، وما يدفع المعلنين إلى الإنترنت».
ويضيف أبو حطب أن «الإعلام في العالم تنبه إلى هذا التغير، وبدأ يعتمد على الاشتراكات، كما يحدث في نيويورك تايمز مثلاً»، متسائلاً: «هل لدى الإعلام العربي ما يستحق أن يدفع الجمهور مقابله؟»، ومشيراً إلى أن «المسألة تتطلب تحالفات وتوفير محتوى تستطيع تسويقه عالمياً»، واصفاً المؤسسات العربية بأنها «خارج الصناعة، وإن بقيت ستكون مؤسسات بائسة جداً».
وعلى صعيد التلفزيون والإنتاج التلفزيوني ضرب أبو حطب مثلا بشبكة نتفليكس، التي تحقق عائدات تبلغ 11 مليار دولار في السنة، مشيرا إلى أن «هناك شركات عربية بدأت تنتح لهذه المنصات، في ظل تراجع الإنتاج الدرامي والإعلامي في القنوات التقليدية»، ويقول: «للأسف فإن الإنترنت وسيط لم تنتبه له المؤسسات الصحافية».
ونظراً لطبيعة الإعلام العربي الذي يدخل المال السياسي فيه كجزء مهم من اللعبة فقد لا نشهد توقفاً للإعلام التقليدي، حيث سيستمر حتى وإن كان بلا جمهور لأن الساسة ما زالوا يؤمنون بأهميته ويسعون للتحكم فيه، وهو ما يعبر عنه الصحافي التونسي توفيق حبيب الذي يتوقع أن يشهد عام 2019 في تونس وهو عام الانتخابات، «محاولات لكسب وسائل الإعلام التقليدية واستمالتها وتمويلها لأغراض انتخابية».


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.