الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

بعضهم يتعرض للاغتصاب والتعذيب أو يتم دمجه في الجماعات الإرهابية والإجرامية

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
TT

الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)

منذ قرابة عامين، هربت الطفلة الأفريقية فاطمة أبو رحماني من قبضة عصابة لتهريب البشر، بمساعدة مواطن ليبي، واستقر بها المقام في مدينة سبها (جنوب) ولم تغادرها حتى الآن. هذه الفتاة التي تستهل عامها الثالث عشر، عُثر عليها ليلاً في صحراء فزان، بعدما قفزت من حافلة كانت تُقلّ مهاجرين غير شرعيين من دول جوار عدة، وهي الآن تعمل لدى عائلة ليبية، مقابل الطعام والسكن، وتسمح لها ببيع المناديل الورقية قرب الأسواق التجارية في آخر اليوم. بخوف شديد، سردت فاطمة أبو رحماني جزءاً من مأساتها، فقالت: «أرسلني والداي من الصومال مع رفيقات ونساء ورجال كثيرين للسفر إلى إيطاليا. لكن السماسرة الذين كانوا على حدود تشاد أخذوا أموالنا، وسلمونا إلى عصابة محلية، عنّفتنا ومنعت عنا الطعام والمياه».
لكن فاطمة، وعلى صغر سنها، لا تعد حالة معزولة. ففي داخل الأرضي الليبية يوجد عشرات الأطفال أصغر منها سناً، بعضهم دفعت بهم أُسرهم الفقيرة للمصير نفسه وبالطريقة نفسها، وبعضهم الآخر فقدوا آباءهم غرقاً في مياه البحر المتوسط، أثناء محاولة فاشلة للهجرة، وهو ما خلّف معضلة إضافية تتنامى داخل المجتمع الليبي، مُلخصها أن جيلاً من الأطفال الذين تقطّعت بهم السبل، أصبح يعيش في هذا البلد المليء بالفوضى دون آباء أو معيل. منهم من يعيش على «حلم مؤجل»، ويعمل في كل شيء لتوفير ثمن «رحلة البحر»، بينما غالبيتهم يفضلون البقاء في ليبيا على العودة إلى بلادهم، وكلهم يعيشون بعيداً عن أعين أجهزة الشرطة، وخارج مراكز إيواء المهاجرين الحكومية.
«الشرق الأوسط» استقصت هذه الظاهرة في أنحاء البلاد، وتتبعت مسارات تحركات هؤلاء الأطفال، الذين سقطوا من ذاكرة المنظمات والهيئات الدولية، لمعرفة من أين جاؤوا؟ وأين يتجمعون؟ وهل يمكن أن يشكلوا خطراً على البلد الذي تضربه الانقسامات السياسية منذ إسقاط نظام الرئيس معمر القذافي قبل نحو ثماني سنوات؟... وخرجت بالتحقيق التالي...
عندما بحثنا عن رفاق فاطمة، الفارين من بؤس دولهم الأفريقية الفقيرة، إلى بلد يعاني فراغاً أمنياً، اقتفينا أثرهم في رحلتهم الممتدة من الحدود الأفريقية مع ليبيا إلى وسط وغرب البلاد، فتبين أن نقطة الانطلاق فيها تبدأ عادة من مدن الجنوب، مثل سبها وبراك الشاطئ، ثم الكفرة، التي تسيطر عليها عصابات الاتجار بالبشر، ومرتزقة أفارقة، وقبائل يتاجر بعضها في تسهيل مهمة من يدفع «مقابل المرور»، وصولاً إلى بني وليد كنقطة تمركز، قبل الانطلاق باتجاه القرة بولي ثم إلى الخمس، ومنها نحو صبراتة أو زوارة.
ورغم أن الأجهزة الأمنية في ليبيا تُودع من حين إلى آخر، مئات المهاجرين الذين ينسلون عبر الحدود أو الذين تنقذهم قوات خفر السواحل، قيد الاحتجاز أو في مراكز للإيواء تشرف عليها وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني. لكن أعداداً كثيرة من القصّر، بينهم نساء وأطفال غير مصحوبين بذويهم، يتسربون بطرق ملتوية إلى المدن والبلدات الليبية؛ وهو ما كشفت عنه أرقام شبه رسمية؛ إذ يقدر عدد الذين يقيمون داخل تلك المراكز بـ34 ألف مهاجر فقط، مقابل أكثر من 740 ألفاً يمرحون في عموم البلاد، وفق ما أعلن عنه المبعوث الأممي لدى ليبيا الدكتور غسان سلامة في حوار مع قناة «(فرانس 24» نهاية الشهر الماضي.

سبها قبلة القصر الوافدين
في متاهة التضاريس الصحراوية الغالبة على البلد الغني بالنفط، والذي تربو مساحته على 1.7 مليون كيلومتر مربع، تتربع مدينة سبها، (عاصمة الجنوب) بمناطقها الخمسة عشر، وفيها يتوه آلاف الأطفال الوافدين من أفريقيا، بين أهلها المُنهكين في أزماتهم المعيشية، فيندمجون في أوساطهم في عملية احتواء طابعها العطف والشفقة بحجة «أنهم أطفال مساكين بلا أُسر، تم الدفع بهم إلى بلادنا، عبر حدودنا المفتوحة للهرب إلى أوروبا... مثل الطفلة فاطمة التي كُتب لها عُمر جديد، بعدما عثرنا عليها بين الحياة والموت في صحراء فزان، فاقدة للنطق»، كما قال زنّاري الضوي، الذي يمتلك مزرعة من النخيل، لـ«الشرق الأوسط»، وتابع موضحاً: «كدنا أن ندهسها، قبل أن تبرق عيناها أمام ضوء السيارة كقط بري... وقد حكت لنا الطفلة بفزع شديد، وعلى أيام متباعدة، تفاصيل ما وقع لها ليلة عثورنا عليها في ظلمة الصحراء. إنها لا تزال تعاني حالة نفسية صعبة، توقظها ليلاً وهي تصرخ؛ لذا أتركها على راحتها، وأساعدها على إرسال أموال لأسرتها الفقيرة في الصومال. فهي تدّخر من عملها في منزلي، وبيع المناديل».

مأساة الصومالية بائعة المناديل
فاطمة التي تخطو نحو المجهول، منذ أن ألقى بها والدها على ظهر حافلة، تحت أقدام عشرات الرجال والنساء، أصبحت تعرف شوارع سبها جيداً وتحفظ أسماءها، كما تحفظ أسماء مدينة كانيبو الصومالية، التي أتت منها قبل عامين. وهي تواظب اليوم على الوقوف في قلب إحدى الأسواق الشعبية المزدحمة مع بنات وصبيان آخرين من دول أفريقية مختلفة، يبيعون المناديل الورقية، ويستجدون المارة للحصول على المال.
كانت فترة العامين، التي عاشتهما الصغيرة فاطمة في ليبيا، كافية لتتعلم القليل من مفردات اللغة العربية، التي ترددها بركاكة مصحوبة بلهجة ليبية. تقول فاطمة: «جئت مع نحو 50 رجلاً وامرأة، وأطفال كثيرين في سيارة ممتلئة بالبشر، انطلقت بنا لأيام في الصحراء، وعندما كانت تتوقف لم يكن يسمحون لنا بالنزول منها، فكنا نقضي حاجتنا الطبيعية داخل السيارة... ولطالما بكينا طويلاً وصرخنا من الجوع والعطش».
وتضيف فاطمة لـ«الشرق الأوسط»: «عندما شعر الرجال باقترابنا من المدن الليبية، قفز بعضهم من أعلى السيارة في ظلام الصحراء، هرباً من العصابة التي تسلمتنا من سيارة أخرى على حدود تشاد، فسقطت من شدة التدافع».
وبأسى شديد، ومرارة بالغة تابعت فاطمة سرد مأساتها بعد أن أدركت أن حلم معانقة الأراضي الإيطالية أصبح صعب المنال: «والدي قال لي إنهم ذاهبون إلى إيطاليا، وعليك أن تتبعيهم. لكن ذلك لم يحدث، وأنا الآن أساعد عائلة عمي زنّاري، وأبيع المناديل من العصر إلى آخر اليوم مع أطفال من دول أفريقية في السوق، وأعود لأنام في المنزل. أبي يُلح عليّ بالاتجاه نحو البحر، لكنني لن أغادر سبها، فكثير من الأطفال، الذين كنت أقابلهم كل يوم اختفوا. كانوا أكثر من 20 بنتاً وسبعة أولاد، غالبيتهم من إريتريا وتشاد وساحل العاج... لا أعلم أين ذهبوا...هل تعرف أين هم الآن؟».
تساءلت فاطمة بحزن شديد، قبل أن تستكمل سرد حكايتها المؤلمة «كان بين الأطفال المختفين ثلاث بنات مصابات بالسل (الدرن) والإيدز»، وهي الأمراض التي كشفت عنها الأجهزة الطبية في البلاد لاحقاً، بعد توقيف عدد من المهاجرين، وإخضاعهم للفحص الطبي، قبل ترحيلهم إلى دولهم.
وتبعاً للمعطيات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، فإن الأطفال المهاجرين يفضلون الاندماج في مدن الجنوب، مستغلين في ذلك التقارب في لون البشرة السمراء مع مواطنيها، وهرباً من التمييز ضد أصحاب هذه البشرة، حتى باتت هذه الظاهرة في تنام ملحوظ. وفي هذا السياق، يرى إسماعيل بازنكة، الناشط المدني الذي ينتمي إلى قبلية التبو، أنه «رغم عدم وجود حصر لعدد هؤلاء الأطفال في البلاد، فإن أعدادهم كبيرة، وهم يتواجدون في المدن والمناطق المعروفة بالتهريب».
وأوضح بازنكة، أن «غالبية الأطفال الأفارقة، المتواجدين في الجنوب تركوا عائلاتهم وأتوا للعمل في ليبيا رفقة مهاجرين كبار السن، رغم حداثة أعمارهم»، مؤكداً أن «نسبة كبيرة منهم صغار السن وضعاف البنية، ولا يملكون المهارات اللازمة لأي عمل».
وتابع بازنكة، الذي اطّلع بحكم نشاطه التطوعي على نماذج عدة لهؤلاء الأطفال القصر: «هم يشتغلون لدى العمالة الوافدة في أماكن إقامتهم، ويساعدونهم على الطهو، وعندما يضمنون ثمن إيجار قارب ينتقلون إلى الساحل للتوجه نحو أوروبا».

في قبضة عصابات الجريمة
تعاني منطقة الجنوب، التي يبلغ امتدادها نحو 600 كيلومتر، من التهريب بكل أنواعه، وبخاصة المخدرات والاتجار بالبشر. ومع تردي الأوضاع المعيشية بعد مقتل القذافي، وسقوط سلطة الدولة، باتت جميع القبائل التي تقع على خط سير عمليات تهريب المهاجرين «تسترزق من الهجرة»، واتجه شبانها لمساعدة تلك العصابات في نقل المهاجرين من الجنوب، إلى أقرب نقطة على الساحل. وقد تسبب الفساد الإداري في إغلاق بعض مراكز الإيواء في الجنوب، التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني، ولم يتبق غير مركزي إيواء الكفرة، وسبها طريق المطار؛ الأمر الذي ساهم - برأي البعض - في تسلل مئات الأطفال المهاجرين إلى المدن والبلدات، وبخاصة في ظل ضعف رقابة الأجهزة الأمنية المنقسمة بين حكومتين متنازعتين في شرق البلاد وغربها. وأصبح من السهل تبعاً لذلك رصد تجمعاتهم بالعشرات، فيما يشبه «جيتوهات».
في ظل هذه الظروف الصعبة، لا يسلم المهاجرون الأطفال في ليبيا، وبخاصة الفئات المستضعفة منهم، من التعرض لعمليات اغتصاب وتعذيب واحتجاز للقُصّر؛ إذ رصدت البعثة الأممية لدى ليبيا في أحدث تقاريرها في ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن شبكات إجرامية أسرت طالبة لجوء من إريتريا ثلاث مرات في براك الشاطئ، وبني وليد والخمس، تعرضت خلالها لاغتصاب جماعي وضرب وتجويع، وسردت معاناة الفتاة على لسانها «كنا نحو مائتي شخص في غرفة واحدة. لم نكن نقوى على التنفس أو الحركة أو مد أرجلنا، وكنت أتعرض في كل ليلة للاغتصاب من قبل نحو ستة رجال، بعضهم ليبيون، وآخرون من جنسيات أفريقية مختلفة».
كما قالت البعثة: إن صومالية صغيرة السن «بيعت لمتاجرين بالبشر في مدينة الكفرة فور دخولها ليبيا، قادمة من السودان أواخر العام الماضي، وسردت تفاصيل تجربتها المريرة على لسانها: (في الكفرة تعرضت للاغتصاب والضرب إلى أن دفعت والدتي المال. غير أنه لم يطلق سراحي، بل تم اقتيادي إلى براك الشاطئ، وطلب مني دفع المال مرة أخرى، فبقيت هناك أشهر عدة، شهدت خلالها وفاة عشرين شخصاً)».
«الشرق الأوسط» سألت أحد أعضاء «جهاز الهجرة غير الشرعية» في مدينة سبها عن هؤلاء الأطفال، داخل وخارج مقار مركز الهجرة، فقال: «لا يوجد لدينا أطفال غير مصحوبين بذويهم، وليست لدينا إحصائية في الجنوب عن أعدادهم خارج مركز الإيواء. لكنهم كثيرون، ويعملون بالتسول في شوارع المدينة، ويتواجدون بكثرة في محيط المحال التجارية، وفي الأسواق والمناطق المزدحمة».
وأضاف عضو جهاز الهجرة في سبها، الذي اختار لنفسه اسم أحمد امحمد، موضحاً: إن «هذه النوعية من الأطفال المهاجرين يظهرون بشكل كبير، وبخاصة في الصيف، وأحياناً يختفون بشكل مريب»، كاشفاً عن «تعرضهم لمخاطر كبيرة»، وقال: «إذا كان المهاجرون بشكل عام يتعرضون لأهوال في ليبيا، فإن الأطفال يعتبرون صيداً سهلاً، وأكثر استهدافاً من قبل عصابات الجريمة، والاتجار في البشر».
وأوضح امحمد باعتباره أحد سكان سبها، أن هذه الشريحة باتت «تتزايد بشكل مستمر بسبب موجات الهجرة، ونشاط عصابات الاتجار بالبشر، لكن يظل الوضع في المناطق الجنوبية كارثياً بالنسبة لهؤلاء الأطفال». ففي الأشهر الماضية خطفت عصابات مسلحة بعض المهاجرين الأطفال، وأخضعتهم لعملية ابتزاز: إمّا أن يدفعوا إليهم أموالاً، أو يتم التنازل عنهم لعصابة أخرى مقابل مبلغ من الدولارات.

مسارات المهاجرين
تتعدد وتتنوع مسارات المهاجرين إلى ليبيا، أبرزها المسار الرابط من إقليم دارفور بالسودان، مروراً بالقلع الغربي للسودان، ثم عبور ليبيا بالقرب من منفذ السارة إلى خط الأربعمائة، ومن ثم إلى جبل كلمنجة ومنطقة واو الناموس، ومنها إلى سبها، ثم إلى طرابلس العاصمة. وهناك مسار آخر من تشاد إلى منفذ السارة البري، ومنه إلى منطقة ريبانة، أو جبل كلنجة غرب مدينة الكفرة.
بالنسبة لمحطة بني وليد، فرغم المسافة الشاسعة بينها وبين سبها، والتي تقدر بـ524 كيلومتراً، فإن الأخيرة التي تقع في الشمال الغربي، تعد إحدى أهم المحطات بطريق وفود الهجرة غير الشرعية. فهناك يستريح المهاجرون من عناء الطريق التي قطعوها من الجنوب، قبل أن ينطلقوا إلى ترهونة، ثم صبراتة أو الزاوية على الساحل الغربي. ومن هناك يتم الهرب في زوارق إلى البحر، إذا استطاع المهاجرون تدبير الأموال المطلوبة ودفعها للمهربين.
ويبدو أن المدينة، التي لا تزال تدين بالولاء للقذافي، لها نصيب من اسمها الذي عُرفت به حسب المرويات القديمة، حيث كان مواطنو المغرب، والجزائر، وتونس الذين يذهبون إلى «الأراضي الحجازية» للحج، يمرون عبر ليبيا من خلال هذه البقعة ويبقون فيها نوقهم، التي على وشك أن تلد، وخلال عودتهم من الحج يجدون إبلهم قد ولدت، فأطلقوا عليها اسم «وادي الوليد»، ثم تطور الاسم إلى أن صار بني وليد.
واليوم أصبح المهاجرون، الذين يمرون عبر صحراء بني وليد، يتخففون من المهاجرين الصغار، بعدما تحولوا إلى عبء في رحلة محفوفة بالمخاطر، فأصبحوا يبقونهم في فضاء الصحراء ليعثر عليهم سكان المدينة، ومن بين هؤلاء الصغار، طفلة قادمة من النيجر، تدعى أنبوتي، لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، جاءت من بلادها مع مهاجرين آخرين، عبر الحدود الجنوبية الليبية، في رحلة قاسية يرويها حاتم التويجر، عضو مجلس إدارة «جمعية السلام بني وليد» للأعمال الخيرية: «فور وصول الطفلة إلى قرية الشويرف شمال مدينة سبها، التي تعتبر ممراً لجماعات المهاجرين، اختفت وبدأ الخاطفون في مساومة أسرتها المسيحية المقيمة في النيجر، لدفع فدية. لكنها لم تستطع توفير المال اللازم لإطلاق سراحها، فسكبوا البنزين على جسدها وأشعلوا فيها النار، وألقوا بها جنوب ضواحي المدينة، التي تبعد عن العاصمة طرابلس 180 كيلومتراً، وقد عثرت عليها سرية حماية بني وليد الأمنية، ونقلتها إلى المستشفى العام في المدينة لتلقي الإسعافات الأولية».

اعتناق الإسلام
في العاصمة طرابلس، بدأت الطفلة أنبوتي تتلقى العلاج من الحروق لمدة شهرين على نفقة مواطن ليبي يدعى عبد العاطي المروم، ثم عادت إلى بني وليد ثانية، لتبدأ رحلة جديدة... لكن هذه المرة مع اعتناق الدين الإسلامي.
حول هذه المرحلة يقول التويجر لـ«الشرق الأوسط»: «كانت أنبوتي تتردد على الجمعية، وأشهرت إسلامها لما شهدته من حسن معاملة من أهالي المدينة، وحفظت 8 سور من القرآن الكريم، وتم تسميتها رحمة، ثم التحقت بفضل مساعدة أسرة المروم بالمدرسة الهندية (السند العالمية) لتستكمل دراستها».
ومع الجهود التي بذلتها السلطات المحلية في بني وليد، عادت أنبوتي إلى أسرتها في النيجر، في حالة فريدة من نوعها. بينما بقيت أخريات من أمثالها هناك، يصارعن مستقبلاً مجهولاً، بعدما تبددت آمالهن في الانتقال إلى «الشط الثاني»، وأصبحن يخططن للإقامة في ليبيا بشكل دائم. ولذلك؛ أنشأت الجمعية مقراً أطلقت عليه «البيت الآمن» خصيصاً للحالات المرضية للأطفال والنساء الناجين من حوادث الهجرة أثناء تنقلهم عبر الطرق الصحراوية، يتلقون فيه العلاج والغذاء مجاناً. كما أن أطفالاً عدة من الصومال وإثيوبيا والنيجر أصبحوا يتلقون الرعاية في جمعية بني وليد.
لكن العصابات المسلحة دائماً ما تتربص بالعابرين لصحراء بني وليد، وتقطع عليهم «طريق الرحلة»، بقيادة المهرب موسي دياب، الذي طالب مكتب النائب العام، بالقبض عليه وإخضاعه للمحاكمة، بعد مجزرة قضى فيها 15 مهاجراً، معظمهم من إريتريا، والصومال، وإثيوبيا بعد إطلاق النار على 140 شخصاً، أثناء محاولتهم الفرار من سجن سري يديره مهربون قرب ضواحي بني وليد.
وقال الصدّيق الصور، رئيس مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام، خلال مؤتمر صحافي في مارس (آذار) الماضي، إنهم أصدروا 205 مذكرات توقيف ضد أشخاص متورطين في تنظيم عمليات الاتجار بالبشر وحالات تعذيب وقتل واغتصاب، من بينهم دياب.

مماني في طرابلس
داخل مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بطريق السكة (فرع طرابلس)، أمضت الطفلة مماني ابنة السنوات السبع، قرابة العام دون أسرتها التي أتت من ساحل العاج، وغرقت في مياه المتوسط، قبل أن تصل إلى أوروبا، يقول ميلاد الساعدي، المستشار الإعلامي لجهاز مكافحة الهجرة لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الطفلة السمراء تعرف أحداً ولا تعلم شيئاً، فاصطحبتها السيدة خدوجة، الممرضة بالمركز، إلى بيتها لتربيتها مع أبنائها».
ومضى الساعدي يقول: «حرصت السيدة خدوجة على تحصين مماني بكل التطعيمات التي كانت محرومة منها في بلدها، وألحقتها بالمدرسة، وظلت تحظى بالعناية إلى أن تم تسليمها إلى سفارة ساحل العاج في ليبيا».
وتظهر السلطات المحلية قلة حيلتها أمام تنامي ظاهرة تسرب أطفال المهاجرين بين المدن المختلفة، وهو ما كشف عنه مسؤول أمني كبير في وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، بقوله: «هذه تركة ثقيلة ورثناها... وأمامنا بعض الوقت لترتيب أمورنا»، قبل أن يستدرك: «المكان الطبيعي للمهاجرين غير النظاميين، هو مراكز الإيواء، ولا يوجد لدينا غير ذلك». أما العميد محمد بشر، رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، فكان أكثر صراحة، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «لا يوجد حصر دقيق لأعداد المهاجرين غير الشرعيين خارج مراكز الإيواء... ومسؤوليتنا تتوقف عند الأطفال الذين هم داخل المراكز فقط.. وهؤلاء أعدادهم ليست كبيرة»، دون إعطاء أرقام محددة.
وأبقى جهاز الهجرة غير الشرعية في طرابلس على 12 مركزاً فقط، من إجمالي 34 على مستوى ليبيا، وذلك على خلفية تجاوزات تتعلق باستغلال مهاجرين على نحو غير أخلاقي. بقول بشر: «عندما يتأكد لنا وجود خروقات أمنية في أي مركز لإيواء المهاجرين يتم إغلاقه على الفور دون تردد... ولو تطلب الأمر إحالة أي ضابط صف متورط إلى النائب العام فإننا لن نتأخر».
غير أن عدم اهتمام الأجهزة الرسمية في ليبيا بغير المهاجرين الموقوفين لديها في مراكز الإيواء، وضع تلك الشريحة المستضعفة فريسة سهلة أمام استغلالها من عصابات الجريمة المنظمة في أعمال منافية للآداب، ودمجها في الجماعات الإرهابية والإجرامية، في ظل مخاوف من تعرض هؤلاء الأطفال لعمليات متاجرة في الأعضاء البشرية.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري