الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

بعضهم يتعرض للاغتصاب والتعذيب أو يتم دمجه في الجماعات الإرهابية والإجرامية

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
TT

الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)

منذ قرابة عامين، هربت الطفلة الأفريقية فاطمة أبو رحماني من قبضة عصابة لتهريب البشر، بمساعدة مواطن ليبي، واستقر بها المقام في مدينة سبها (جنوب) ولم تغادرها حتى الآن. هذه الفتاة التي تستهل عامها الثالث عشر، عُثر عليها ليلاً في صحراء فزان، بعدما قفزت من حافلة كانت تُقلّ مهاجرين غير شرعيين من دول جوار عدة، وهي الآن تعمل لدى عائلة ليبية، مقابل الطعام والسكن، وتسمح لها ببيع المناديل الورقية قرب الأسواق التجارية في آخر اليوم. بخوف شديد، سردت فاطمة أبو رحماني جزءاً من مأساتها، فقالت: «أرسلني والداي من الصومال مع رفيقات ونساء ورجال كثيرين للسفر إلى إيطاليا. لكن السماسرة الذين كانوا على حدود تشاد أخذوا أموالنا، وسلمونا إلى عصابة محلية، عنّفتنا ومنعت عنا الطعام والمياه».
لكن فاطمة، وعلى صغر سنها، لا تعد حالة معزولة. ففي داخل الأرضي الليبية يوجد عشرات الأطفال أصغر منها سناً، بعضهم دفعت بهم أُسرهم الفقيرة للمصير نفسه وبالطريقة نفسها، وبعضهم الآخر فقدوا آباءهم غرقاً في مياه البحر المتوسط، أثناء محاولة فاشلة للهجرة، وهو ما خلّف معضلة إضافية تتنامى داخل المجتمع الليبي، مُلخصها أن جيلاً من الأطفال الذين تقطّعت بهم السبل، أصبح يعيش في هذا البلد المليء بالفوضى دون آباء أو معيل. منهم من يعيش على «حلم مؤجل»، ويعمل في كل شيء لتوفير ثمن «رحلة البحر»، بينما غالبيتهم يفضلون البقاء في ليبيا على العودة إلى بلادهم، وكلهم يعيشون بعيداً عن أعين أجهزة الشرطة، وخارج مراكز إيواء المهاجرين الحكومية.
«الشرق الأوسط» استقصت هذه الظاهرة في أنحاء البلاد، وتتبعت مسارات تحركات هؤلاء الأطفال، الذين سقطوا من ذاكرة المنظمات والهيئات الدولية، لمعرفة من أين جاؤوا؟ وأين يتجمعون؟ وهل يمكن أن يشكلوا خطراً على البلد الذي تضربه الانقسامات السياسية منذ إسقاط نظام الرئيس معمر القذافي قبل نحو ثماني سنوات؟... وخرجت بالتحقيق التالي...
عندما بحثنا عن رفاق فاطمة، الفارين من بؤس دولهم الأفريقية الفقيرة، إلى بلد يعاني فراغاً أمنياً، اقتفينا أثرهم في رحلتهم الممتدة من الحدود الأفريقية مع ليبيا إلى وسط وغرب البلاد، فتبين أن نقطة الانطلاق فيها تبدأ عادة من مدن الجنوب، مثل سبها وبراك الشاطئ، ثم الكفرة، التي تسيطر عليها عصابات الاتجار بالبشر، ومرتزقة أفارقة، وقبائل يتاجر بعضها في تسهيل مهمة من يدفع «مقابل المرور»، وصولاً إلى بني وليد كنقطة تمركز، قبل الانطلاق باتجاه القرة بولي ثم إلى الخمس، ومنها نحو صبراتة أو زوارة.
ورغم أن الأجهزة الأمنية في ليبيا تُودع من حين إلى آخر، مئات المهاجرين الذين ينسلون عبر الحدود أو الذين تنقذهم قوات خفر السواحل، قيد الاحتجاز أو في مراكز للإيواء تشرف عليها وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني. لكن أعداداً كثيرة من القصّر، بينهم نساء وأطفال غير مصحوبين بذويهم، يتسربون بطرق ملتوية إلى المدن والبلدات الليبية؛ وهو ما كشفت عنه أرقام شبه رسمية؛ إذ يقدر عدد الذين يقيمون داخل تلك المراكز بـ34 ألف مهاجر فقط، مقابل أكثر من 740 ألفاً يمرحون في عموم البلاد، وفق ما أعلن عنه المبعوث الأممي لدى ليبيا الدكتور غسان سلامة في حوار مع قناة «(فرانس 24» نهاية الشهر الماضي.

سبها قبلة القصر الوافدين
في متاهة التضاريس الصحراوية الغالبة على البلد الغني بالنفط، والذي تربو مساحته على 1.7 مليون كيلومتر مربع، تتربع مدينة سبها، (عاصمة الجنوب) بمناطقها الخمسة عشر، وفيها يتوه آلاف الأطفال الوافدين من أفريقيا، بين أهلها المُنهكين في أزماتهم المعيشية، فيندمجون في أوساطهم في عملية احتواء طابعها العطف والشفقة بحجة «أنهم أطفال مساكين بلا أُسر، تم الدفع بهم إلى بلادنا، عبر حدودنا المفتوحة للهرب إلى أوروبا... مثل الطفلة فاطمة التي كُتب لها عُمر جديد، بعدما عثرنا عليها بين الحياة والموت في صحراء فزان، فاقدة للنطق»، كما قال زنّاري الضوي، الذي يمتلك مزرعة من النخيل، لـ«الشرق الأوسط»، وتابع موضحاً: «كدنا أن ندهسها، قبل أن تبرق عيناها أمام ضوء السيارة كقط بري... وقد حكت لنا الطفلة بفزع شديد، وعلى أيام متباعدة، تفاصيل ما وقع لها ليلة عثورنا عليها في ظلمة الصحراء. إنها لا تزال تعاني حالة نفسية صعبة، توقظها ليلاً وهي تصرخ؛ لذا أتركها على راحتها، وأساعدها على إرسال أموال لأسرتها الفقيرة في الصومال. فهي تدّخر من عملها في منزلي، وبيع المناديل».

مأساة الصومالية بائعة المناديل
فاطمة التي تخطو نحو المجهول، منذ أن ألقى بها والدها على ظهر حافلة، تحت أقدام عشرات الرجال والنساء، أصبحت تعرف شوارع سبها جيداً وتحفظ أسماءها، كما تحفظ أسماء مدينة كانيبو الصومالية، التي أتت منها قبل عامين. وهي تواظب اليوم على الوقوف في قلب إحدى الأسواق الشعبية المزدحمة مع بنات وصبيان آخرين من دول أفريقية مختلفة، يبيعون المناديل الورقية، ويستجدون المارة للحصول على المال.
كانت فترة العامين، التي عاشتهما الصغيرة فاطمة في ليبيا، كافية لتتعلم القليل من مفردات اللغة العربية، التي ترددها بركاكة مصحوبة بلهجة ليبية. تقول فاطمة: «جئت مع نحو 50 رجلاً وامرأة، وأطفال كثيرين في سيارة ممتلئة بالبشر، انطلقت بنا لأيام في الصحراء، وعندما كانت تتوقف لم يكن يسمحون لنا بالنزول منها، فكنا نقضي حاجتنا الطبيعية داخل السيارة... ولطالما بكينا طويلاً وصرخنا من الجوع والعطش».
وتضيف فاطمة لـ«الشرق الأوسط»: «عندما شعر الرجال باقترابنا من المدن الليبية، قفز بعضهم من أعلى السيارة في ظلام الصحراء، هرباً من العصابة التي تسلمتنا من سيارة أخرى على حدود تشاد، فسقطت من شدة التدافع».
وبأسى شديد، ومرارة بالغة تابعت فاطمة سرد مأساتها بعد أن أدركت أن حلم معانقة الأراضي الإيطالية أصبح صعب المنال: «والدي قال لي إنهم ذاهبون إلى إيطاليا، وعليك أن تتبعيهم. لكن ذلك لم يحدث، وأنا الآن أساعد عائلة عمي زنّاري، وأبيع المناديل من العصر إلى آخر اليوم مع أطفال من دول أفريقية في السوق، وأعود لأنام في المنزل. أبي يُلح عليّ بالاتجاه نحو البحر، لكنني لن أغادر سبها، فكثير من الأطفال، الذين كنت أقابلهم كل يوم اختفوا. كانوا أكثر من 20 بنتاً وسبعة أولاد، غالبيتهم من إريتريا وتشاد وساحل العاج... لا أعلم أين ذهبوا...هل تعرف أين هم الآن؟».
تساءلت فاطمة بحزن شديد، قبل أن تستكمل سرد حكايتها المؤلمة «كان بين الأطفال المختفين ثلاث بنات مصابات بالسل (الدرن) والإيدز»، وهي الأمراض التي كشفت عنها الأجهزة الطبية في البلاد لاحقاً، بعد توقيف عدد من المهاجرين، وإخضاعهم للفحص الطبي، قبل ترحيلهم إلى دولهم.
وتبعاً للمعطيات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، فإن الأطفال المهاجرين يفضلون الاندماج في مدن الجنوب، مستغلين في ذلك التقارب في لون البشرة السمراء مع مواطنيها، وهرباً من التمييز ضد أصحاب هذه البشرة، حتى باتت هذه الظاهرة في تنام ملحوظ. وفي هذا السياق، يرى إسماعيل بازنكة، الناشط المدني الذي ينتمي إلى قبلية التبو، أنه «رغم عدم وجود حصر لعدد هؤلاء الأطفال في البلاد، فإن أعدادهم كبيرة، وهم يتواجدون في المدن والمناطق المعروفة بالتهريب».
وأوضح بازنكة، أن «غالبية الأطفال الأفارقة، المتواجدين في الجنوب تركوا عائلاتهم وأتوا للعمل في ليبيا رفقة مهاجرين كبار السن، رغم حداثة أعمارهم»، مؤكداً أن «نسبة كبيرة منهم صغار السن وضعاف البنية، ولا يملكون المهارات اللازمة لأي عمل».
وتابع بازنكة، الذي اطّلع بحكم نشاطه التطوعي على نماذج عدة لهؤلاء الأطفال القصر: «هم يشتغلون لدى العمالة الوافدة في أماكن إقامتهم، ويساعدونهم على الطهو، وعندما يضمنون ثمن إيجار قارب ينتقلون إلى الساحل للتوجه نحو أوروبا».

في قبضة عصابات الجريمة
تعاني منطقة الجنوب، التي يبلغ امتدادها نحو 600 كيلومتر، من التهريب بكل أنواعه، وبخاصة المخدرات والاتجار بالبشر. ومع تردي الأوضاع المعيشية بعد مقتل القذافي، وسقوط سلطة الدولة، باتت جميع القبائل التي تقع على خط سير عمليات تهريب المهاجرين «تسترزق من الهجرة»، واتجه شبانها لمساعدة تلك العصابات في نقل المهاجرين من الجنوب، إلى أقرب نقطة على الساحل. وقد تسبب الفساد الإداري في إغلاق بعض مراكز الإيواء في الجنوب، التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني، ولم يتبق غير مركزي إيواء الكفرة، وسبها طريق المطار؛ الأمر الذي ساهم - برأي البعض - في تسلل مئات الأطفال المهاجرين إلى المدن والبلدات، وبخاصة في ظل ضعف رقابة الأجهزة الأمنية المنقسمة بين حكومتين متنازعتين في شرق البلاد وغربها. وأصبح من السهل تبعاً لذلك رصد تجمعاتهم بالعشرات، فيما يشبه «جيتوهات».
في ظل هذه الظروف الصعبة، لا يسلم المهاجرون الأطفال في ليبيا، وبخاصة الفئات المستضعفة منهم، من التعرض لعمليات اغتصاب وتعذيب واحتجاز للقُصّر؛ إذ رصدت البعثة الأممية لدى ليبيا في أحدث تقاريرها في ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن شبكات إجرامية أسرت طالبة لجوء من إريتريا ثلاث مرات في براك الشاطئ، وبني وليد والخمس، تعرضت خلالها لاغتصاب جماعي وضرب وتجويع، وسردت معاناة الفتاة على لسانها «كنا نحو مائتي شخص في غرفة واحدة. لم نكن نقوى على التنفس أو الحركة أو مد أرجلنا، وكنت أتعرض في كل ليلة للاغتصاب من قبل نحو ستة رجال، بعضهم ليبيون، وآخرون من جنسيات أفريقية مختلفة».
كما قالت البعثة: إن صومالية صغيرة السن «بيعت لمتاجرين بالبشر في مدينة الكفرة فور دخولها ليبيا، قادمة من السودان أواخر العام الماضي، وسردت تفاصيل تجربتها المريرة على لسانها: (في الكفرة تعرضت للاغتصاب والضرب إلى أن دفعت والدتي المال. غير أنه لم يطلق سراحي، بل تم اقتيادي إلى براك الشاطئ، وطلب مني دفع المال مرة أخرى، فبقيت هناك أشهر عدة، شهدت خلالها وفاة عشرين شخصاً)».
«الشرق الأوسط» سألت أحد أعضاء «جهاز الهجرة غير الشرعية» في مدينة سبها عن هؤلاء الأطفال، داخل وخارج مقار مركز الهجرة، فقال: «لا يوجد لدينا أطفال غير مصحوبين بذويهم، وليست لدينا إحصائية في الجنوب عن أعدادهم خارج مركز الإيواء. لكنهم كثيرون، ويعملون بالتسول في شوارع المدينة، ويتواجدون بكثرة في محيط المحال التجارية، وفي الأسواق والمناطق المزدحمة».
وأضاف عضو جهاز الهجرة في سبها، الذي اختار لنفسه اسم أحمد امحمد، موضحاً: إن «هذه النوعية من الأطفال المهاجرين يظهرون بشكل كبير، وبخاصة في الصيف، وأحياناً يختفون بشكل مريب»، كاشفاً عن «تعرضهم لمخاطر كبيرة»، وقال: «إذا كان المهاجرون بشكل عام يتعرضون لأهوال في ليبيا، فإن الأطفال يعتبرون صيداً سهلاً، وأكثر استهدافاً من قبل عصابات الجريمة، والاتجار في البشر».
وأوضح امحمد باعتباره أحد سكان سبها، أن هذه الشريحة باتت «تتزايد بشكل مستمر بسبب موجات الهجرة، ونشاط عصابات الاتجار بالبشر، لكن يظل الوضع في المناطق الجنوبية كارثياً بالنسبة لهؤلاء الأطفال». ففي الأشهر الماضية خطفت عصابات مسلحة بعض المهاجرين الأطفال، وأخضعتهم لعملية ابتزاز: إمّا أن يدفعوا إليهم أموالاً، أو يتم التنازل عنهم لعصابة أخرى مقابل مبلغ من الدولارات.

مسارات المهاجرين
تتعدد وتتنوع مسارات المهاجرين إلى ليبيا، أبرزها المسار الرابط من إقليم دارفور بالسودان، مروراً بالقلع الغربي للسودان، ثم عبور ليبيا بالقرب من منفذ السارة إلى خط الأربعمائة، ومن ثم إلى جبل كلمنجة ومنطقة واو الناموس، ومنها إلى سبها، ثم إلى طرابلس العاصمة. وهناك مسار آخر من تشاد إلى منفذ السارة البري، ومنه إلى منطقة ريبانة، أو جبل كلنجة غرب مدينة الكفرة.
بالنسبة لمحطة بني وليد، فرغم المسافة الشاسعة بينها وبين سبها، والتي تقدر بـ524 كيلومتراً، فإن الأخيرة التي تقع في الشمال الغربي، تعد إحدى أهم المحطات بطريق وفود الهجرة غير الشرعية. فهناك يستريح المهاجرون من عناء الطريق التي قطعوها من الجنوب، قبل أن ينطلقوا إلى ترهونة، ثم صبراتة أو الزاوية على الساحل الغربي. ومن هناك يتم الهرب في زوارق إلى البحر، إذا استطاع المهاجرون تدبير الأموال المطلوبة ودفعها للمهربين.
ويبدو أن المدينة، التي لا تزال تدين بالولاء للقذافي، لها نصيب من اسمها الذي عُرفت به حسب المرويات القديمة، حيث كان مواطنو المغرب، والجزائر، وتونس الذين يذهبون إلى «الأراضي الحجازية» للحج، يمرون عبر ليبيا من خلال هذه البقعة ويبقون فيها نوقهم، التي على وشك أن تلد، وخلال عودتهم من الحج يجدون إبلهم قد ولدت، فأطلقوا عليها اسم «وادي الوليد»، ثم تطور الاسم إلى أن صار بني وليد.
واليوم أصبح المهاجرون، الذين يمرون عبر صحراء بني وليد، يتخففون من المهاجرين الصغار، بعدما تحولوا إلى عبء في رحلة محفوفة بالمخاطر، فأصبحوا يبقونهم في فضاء الصحراء ليعثر عليهم سكان المدينة، ومن بين هؤلاء الصغار، طفلة قادمة من النيجر، تدعى أنبوتي، لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، جاءت من بلادها مع مهاجرين آخرين، عبر الحدود الجنوبية الليبية، في رحلة قاسية يرويها حاتم التويجر، عضو مجلس إدارة «جمعية السلام بني وليد» للأعمال الخيرية: «فور وصول الطفلة إلى قرية الشويرف شمال مدينة سبها، التي تعتبر ممراً لجماعات المهاجرين، اختفت وبدأ الخاطفون في مساومة أسرتها المسيحية المقيمة في النيجر، لدفع فدية. لكنها لم تستطع توفير المال اللازم لإطلاق سراحها، فسكبوا البنزين على جسدها وأشعلوا فيها النار، وألقوا بها جنوب ضواحي المدينة، التي تبعد عن العاصمة طرابلس 180 كيلومتراً، وقد عثرت عليها سرية حماية بني وليد الأمنية، ونقلتها إلى المستشفى العام في المدينة لتلقي الإسعافات الأولية».

اعتناق الإسلام
في العاصمة طرابلس، بدأت الطفلة أنبوتي تتلقى العلاج من الحروق لمدة شهرين على نفقة مواطن ليبي يدعى عبد العاطي المروم، ثم عادت إلى بني وليد ثانية، لتبدأ رحلة جديدة... لكن هذه المرة مع اعتناق الدين الإسلامي.
حول هذه المرحلة يقول التويجر لـ«الشرق الأوسط»: «كانت أنبوتي تتردد على الجمعية، وأشهرت إسلامها لما شهدته من حسن معاملة من أهالي المدينة، وحفظت 8 سور من القرآن الكريم، وتم تسميتها رحمة، ثم التحقت بفضل مساعدة أسرة المروم بالمدرسة الهندية (السند العالمية) لتستكمل دراستها».
ومع الجهود التي بذلتها السلطات المحلية في بني وليد، عادت أنبوتي إلى أسرتها في النيجر، في حالة فريدة من نوعها. بينما بقيت أخريات من أمثالها هناك، يصارعن مستقبلاً مجهولاً، بعدما تبددت آمالهن في الانتقال إلى «الشط الثاني»، وأصبحن يخططن للإقامة في ليبيا بشكل دائم. ولذلك؛ أنشأت الجمعية مقراً أطلقت عليه «البيت الآمن» خصيصاً للحالات المرضية للأطفال والنساء الناجين من حوادث الهجرة أثناء تنقلهم عبر الطرق الصحراوية، يتلقون فيه العلاج والغذاء مجاناً. كما أن أطفالاً عدة من الصومال وإثيوبيا والنيجر أصبحوا يتلقون الرعاية في جمعية بني وليد.
لكن العصابات المسلحة دائماً ما تتربص بالعابرين لصحراء بني وليد، وتقطع عليهم «طريق الرحلة»، بقيادة المهرب موسي دياب، الذي طالب مكتب النائب العام، بالقبض عليه وإخضاعه للمحاكمة، بعد مجزرة قضى فيها 15 مهاجراً، معظمهم من إريتريا، والصومال، وإثيوبيا بعد إطلاق النار على 140 شخصاً، أثناء محاولتهم الفرار من سجن سري يديره مهربون قرب ضواحي بني وليد.
وقال الصدّيق الصور، رئيس مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام، خلال مؤتمر صحافي في مارس (آذار) الماضي، إنهم أصدروا 205 مذكرات توقيف ضد أشخاص متورطين في تنظيم عمليات الاتجار بالبشر وحالات تعذيب وقتل واغتصاب، من بينهم دياب.

مماني في طرابلس
داخل مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بطريق السكة (فرع طرابلس)، أمضت الطفلة مماني ابنة السنوات السبع، قرابة العام دون أسرتها التي أتت من ساحل العاج، وغرقت في مياه المتوسط، قبل أن تصل إلى أوروبا، يقول ميلاد الساعدي، المستشار الإعلامي لجهاز مكافحة الهجرة لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الطفلة السمراء تعرف أحداً ولا تعلم شيئاً، فاصطحبتها السيدة خدوجة، الممرضة بالمركز، إلى بيتها لتربيتها مع أبنائها».
ومضى الساعدي يقول: «حرصت السيدة خدوجة على تحصين مماني بكل التطعيمات التي كانت محرومة منها في بلدها، وألحقتها بالمدرسة، وظلت تحظى بالعناية إلى أن تم تسليمها إلى سفارة ساحل العاج في ليبيا».
وتظهر السلطات المحلية قلة حيلتها أمام تنامي ظاهرة تسرب أطفال المهاجرين بين المدن المختلفة، وهو ما كشف عنه مسؤول أمني كبير في وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، بقوله: «هذه تركة ثقيلة ورثناها... وأمامنا بعض الوقت لترتيب أمورنا»، قبل أن يستدرك: «المكان الطبيعي للمهاجرين غير النظاميين، هو مراكز الإيواء، ولا يوجد لدينا غير ذلك». أما العميد محمد بشر، رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، فكان أكثر صراحة، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «لا يوجد حصر دقيق لأعداد المهاجرين غير الشرعيين خارج مراكز الإيواء... ومسؤوليتنا تتوقف عند الأطفال الذين هم داخل المراكز فقط.. وهؤلاء أعدادهم ليست كبيرة»، دون إعطاء أرقام محددة.
وأبقى جهاز الهجرة غير الشرعية في طرابلس على 12 مركزاً فقط، من إجمالي 34 على مستوى ليبيا، وذلك على خلفية تجاوزات تتعلق باستغلال مهاجرين على نحو غير أخلاقي. بقول بشر: «عندما يتأكد لنا وجود خروقات أمنية في أي مركز لإيواء المهاجرين يتم إغلاقه على الفور دون تردد... ولو تطلب الأمر إحالة أي ضابط صف متورط إلى النائب العام فإننا لن نتأخر».
غير أن عدم اهتمام الأجهزة الرسمية في ليبيا بغير المهاجرين الموقوفين لديها في مراكز الإيواء، وضع تلك الشريحة المستضعفة فريسة سهلة أمام استغلالها من عصابات الجريمة المنظمة في أعمال منافية للآداب، ودمجها في الجماعات الإرهابية والإجرامية، في ظل مخاوف من تعرض هؤلاء الأطفال لعمليات متاجرة في الأعضاء البشرية.



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.