فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

وثائق سرية كشفت عنها لندن قدّمت صورة قاتمة للصراع مع الجماعات المسلحة عام 1994

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
TT

فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)

هل كان الحكم الجزائري فعلاً على وشك السقوط عام 1994؟ هذا ما تُظهره وثائق سرية تتضمن معلومات منسوبة إلى وزراء ومسؤولين فرنسيين كانوا معنيين بالأزمة الدامية التي كانت تشهدها الجزائر آنذاك. النظام سيسقط. الإسلاميون سيسيطرون على السلطة. مئات آلاف اللاجئين سيتدفقون من الجزائر إلى جنوب فرنسا. أحجار «الدومينو» ستبدأ في التساقط، واحدة تلو الأخرى. إذا سقطت الجزائر في أيدي الجماعات المسلحة فإن تونس ستكون مهددة أيضاً. وكذلك المغرب. حتى مصر نفسها لن تنجو من تداعيات الجزائر.
لكن هذه الصورة السوداوية سيتبيّن أنها كانت خاطئة. النظام الجزائري لم يسقط. الجماعات الإسلامية المسلحة مُنيت بهزيمة منكرة. لم يتدفق اللاجئون إلى فرنسا، ولم تتساقط أحجار «الدومينو».
هذه قصة التقديرات الفرنسية الخاطئة للأوضاع في الجزائر في تسعينات القرن الماضي...
رسمت تقارير بريطانية سرية، نقلاً عن مسؤولين فرنسيين كبار، صورة قاتمة جداً للأوضاع في الجزائر خلال العام 1994؛ حيث كانت تدور مواجهات واسعة بين قوات الأمن وخليط من الجماعات الإسلامية المسلحة. وكشفت هذه التقارير التي تُرفع عنها السرية في الأرشيف الوطني البريطاني، اليوم (الجمعة)، 28 ديسمبر (كانون الأول)، أن الفرنسيين أبلغوا البريطانيين بأنهم يتوقعون انهيار الحكم الجزائري ووصول الإسلاميين إلى السلطة، وأنهم يعدون خططاً لاستقبال 500 ألف لاجئ جزائري يُتوقع أن يفروا من بلادهم عقب تغيير النظام.
وهذه المرة الأولى، كما يُعتقد، التي يُنقل فيها عن مسؤولين فرنسيين كلام بمثل هذا التشاؤم إزاء الأوضاع في الجزائر ومآلات القتال الذي كان يدور آنذاك بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة. وقال المسؤولون الفرنسيون، وفق الوثائق الحكومية البريطانية، إن تقديرهم هو أن حكومة الرئيس اليمين زروال لن تستطيع الصمود طويلاً في مواجهة الإسلاميين المسلحين، وستحل محلها في سدة الحكم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». وكانت هذه الجبهة قد فازت في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في ديسمبر لعام 1991، لكن الجيش الجزائري ألغى نتائجها في مطلع 1992 وحل «الإنقاذ»، ما أدخل البلاد في صراع دموي استمر سنوات وأوقع عشرات آلاف الضحايا. وكان مبرر تحرك الجيش أن «الإنقاذ» التي كان عدد من قادتها يكفر علناً بالديمقراطية، تستغل الانتخابات للوصول إلى السلطة ولن تتخلى عنها إذا وصلت إليها، وهي اتهامات نفتها الجبهة آنذاك. وبعد وقف المسار الانتخابي وسجن القيادة السياسية لـ«الإنقاذ»، انخرط الآلاف من مناصريها في جماعات مسلحة مختلفة.
وتتحدث الوثائق البريطانية، في هذا الإطار، عن شكوى الفرنسيين من نشاط الإسلاميين الجزائريين على الأراضي البريطانية. في إشارة إلى ما اعتبره الفرنسيون تساهلاً من جيرانهم في التعامل مع الظاهرة التي باتت لاحقاً تُعرف بـ«لندنستان». وقاد الشكوى آنذاك وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا الذي عُرف بموقفه المتشدد إزاء التعامل مع التهديد الأمني المرتبط بالإسلاميين الجزائريين، علما بأنه كان وزيراً في حكومة يمينية بقيادة إدوار بالادور (التجمع من أجل الجمهورية)، في حين كان رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران اشتراكياً يسارياً. وتشرح الوثائق البريطانية أن أخذ موقف صارم في التعامل مع التهديد الإرهابي يُكسب صاحبه شعبية في فرنسا التي كانت تستعد لانتخابات رئاسية في العام المقبل، وهي انتخابات أسفرت فعلاً عن وصول اليمين إلى السلطة، لكن عبر جاك شيراك، وليس باسكوا أو بالادور.
وكُتبت التقارير البريطانية في وقت كانت فرنسا تعيش حالة غليان بسبب تهديدات وجهتها «الجماعة الإسلامية المسلحة»، أكثر جماعات العنف تطرفاً في الجزائر، والتي كانت قد قتلت 5 فرنسيين، بينهم اثنان من موظفي القنصلية، في هجوم على ضاحية عين الله غرب العاصمة الجزائرية.
وتنقل الوثائق البريطانية أيضاً عن الفرنسيين، أن الرئيس اليمين زروال لم يلبِّ دعوة ميتران لحضور احتفالات في ذكرى إنزال الحلفاء في جنوب فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب خشيته من حصول انقلاب عسكري ضده خلال غيابه عن الجزائر. ويبدو أن الوثائق تشير، في هذا الإطار، إلى مزاعم عن وجود صراع داخل نظام الحكم الجزائري في شأن طريقة التعامل مع ظاهرة العنف المسلح. ففي حين كان زروال يقود تياراً يدعو إلى الحوار مع الإسلاميين بما في ذلك قادة «الإنقاذ» الذين أفرج عن بعضهم، ونقل آخرين إلى الإقامة الجبرية، كان هناك تيار آخر يوصف بأنه «استئصالي» يرفض أي مساومة مع الجماعات المسلحة.
في أي حال، أثبت الحكم الجزائري، في النهاية، خطأ تقديرات الفرنسيين. فقد نجحت قواته الأمنية في إلحاق هزيمة ماحقة بالجماعات المسلحة، بحلول العام 1997. لكن خوف الفرنسيين من أعمال إرهابية تستهدفهم سرعان ما تحقق، إذ خطف مسلحون تابعون لـ«الجماعة المسلحة» طائرة لـ«إير فرانس» في مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية يوم 24 ديسمبر 1994، وأرادوا الطيران بها إلى باريس لتدميرها في برج إيفل، كما زُعم آنذاك، لكن عمليتهم فشلت، وقتلهم فريق كوماندوز فرنسي خلال توقف طائرتهم في مرسيليا للتزود بالوقود. ولا تغطي الوثائق البريطانية هذه الحادثة.

تفاصيل الوثائق
كتب كريستوفر مالابي، السفير البريطاني في باريس، تقريراً إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ أغسطس (آب) 1994، جاء فيه...

ملخص
1 - باسكوا راضٍ عن التعاون البريطاني - الفرنسي في شأن الجزائريين في لندن. السياسيون (الفرنسيون) تتملكهم الكآبة، يتوقعون نظاماً لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر، وهو أمر سيثير مشكلات في النظام العام في فرنسا.

التفاصيل
2 - واجهتُ وزير الداخلية باسكوا خلال إحدى المناسبات في جنوب فرنسا لإحياء ذكرى 50 سنة على إنزال الحلفاء هناك. قلت له إنني لاحظت تعليقاته بخصوص موقف حكومة صاحبة الجلالة من الجزائريين في بريطانيا. أعربت عن أملي أن يكون على معرفة بأن هناك اتصالات وثيقة بين الخبراء الفرنسيين وجهاز الأمن لدينا (المخابرات الداخلية). إننا مستعدون للمساعدة، وفق الحدود التي يسمح بها القانون البريطاني. (قلت له) إنني أعتقد أن الأجهزة الفرنسية راضية عن مستوى التعاون.
3 - قال باسكوا إنه أيضاً راضٍ. كان سلوكه ودوداً ومنشرحاً. أعتقد أنه أدلى بتعليقاته المهينة من أجل حرف الانتقاد عن السلطات الفرنسية بعد قتل مسؤولين فرنسيين في الجزائر (عملية عين الله). كنا قد لفتنا انتباه حكومته إلى التعاون الموجود بيننا بعدما أدلى للمرة الأولى بتعليقاته، وآمل أنه الآن في الصورة بشكل صحيح.
4 - قدّم لي عدد من الوزراء الفرنسيين إيجازاً بشأن المناقشة عن الجزائر خلال لقاء وزاري استدعاه ميتران، على ارتجال، على ظهر حاملة طائرات خلال احتفالات 14 أغسطس. الخلاصة (التي انتهى لها الاجتماع) أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستسيطر على الوضع، ربما خلال شهور. الحكومة الحالية ليست قادرة على مواجهة التحدي ولن تتمكن من البقاء. رئيس الجمعية الوطنية (فيليب) سيغان (حزب التجمع من أجل الجمهورية) قال لي إن نظام «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» سيستخدم الجالية الجزائرية في فرنسا من أجل الإخلال بالنظام العام، مثلاً من خلال إثارة أعمال عنف، في ضواحي المدن الكبرى حيث النظام العام هش أصلاً؛ نتيجة البطالة والتوتر العرقي المستفحلين. هذا الأمر سيسبب ردة فعل من «الفرنسيين» البيض، ويمكن أن تواجه فرنسا فترة غير سعيدة إطلاقاً. هذا الأمر قد يحصل فعلاً حتى قبل الانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل. علّق سيغان بالقول إن اليمين يسجّل نقاطاً في العادة على حساب اليسار بخصوص التعامل مع مشكلات النظام العام والهجرة.

تعليق
5 - هناك شعور بالعجز اليائس بخصوص آفاق «الوضع» في الجزائر، وتداعيات ذلك على فرنسا. باسكوا، بوصفه وزيراً للداخلية، صارم ومحارب، وسيكون شخصاً قوياً، وبالتالي صاحب شعبية، في محاولته التعامل مع تدفق اللاجئين ومشكلات النظام العام. طبيعة بالادور معتدلة وبراغماتية ويمكن أن يتقدم عليه شيراك في هذا الموضوع.
التوقيع... مالابي
وفي تقرير آخر من مالابي، بتاريخ أغسطس 1994، تحت عنوان «الجزائر... وجهات النظر الفرنسية»، جاء ما يأتي...

مختصر
1 - يتوقع الفرنسيون «صراعاً» يستمر على المدى الطويل، لكنهم يزدادون اقتناعاً بأن الإسلاميين سيسيطرون «على السلطة». الوزراء يعيدون تقييم خطهم بخصوص الدعم للنظام الحالي.

تفاصيل
2 - الاغتيال الأخير لـ5 فرنسيين في العاصمة الجزائرية، ورد الفعل الفرنسي الشديد، والتهديدات اللاحقة ضد فرنسا من جماعات إسلامية، كل ذلك، ضمن بقاء الجزائر في قلب اهتمام الحكومة الفرنسية، الإعلام والرأي العام. لقد ناقشنا التحليلات والسياسة الفرنسية بالتفصيل مع الوزراء الأساسيين والوكالات المعنية في الأيام الأخيرة. فيما يلي نتيجة الجمع بين الآراء الفرنسية المختلفة (الطرح ونقيضه)، وهي آراء متناسقة في شكل معقول.

الوضع الجزائري الداخلي
3 - قلة هنا توقعوا النجاح لحملة القمع التي شنّتها أجهزة الأمن الجزائرية في وقت سابق هذه السنة. وهي لم تكن ناجحة، ومستوى عمليات القتل عاد مجدداً للارتفاع كثيراً (التقديرات تتراوح بين 200 و400 قتيل أسبوعياً). الخاسرون الأساسيون هم الإسلاميون المعتدلون، الذين تم إسكاتهم أو صاروا متشددين. والمسار السياسي؛ «عرض» زروال الأخير للمعارضة يتم النظر إليه بكثير من التشكيك. يُنظر إليه (زروال) على نطاق واسع بوصفه دمية لا أكثر في أيدي العسكريين المتشددين. الفرنسيون الذين لدينا اتصال بهم يخبروننا أنه امتنع عن قبول دعوة ميتران إلى حضور احتفالات الذكرى الخمسين لإنزال الحلفاء في إقليم بروفانس في 14 و15 أغسطس، لأنه كان يخشى حصول انقلاب في غيابه.
4 - في ظل هذه الظروف، هناك إجماع واسع على أن النظام الحالي (في الجزائر) محكوم عليه بالسقوط. على رغم جهوده الشجاعة في مجال الإصلاح الاقتصادي، فإن العنف الذي تستخدمه قوات الأمن يجعل النظام غير شعبي في شكل متزايد. لكن قلة فقط تتوقع أن تنهار الأوضاع فوراً. القوات المسلحة ما زال يُنظر إليها على أنها متماسكة نسبياً وقادرة على مواصلة الكفاح لشهور. لكن هناك بعض الانشقاقات المنذرة بالشؤم بدأت في الظهور؛ حالات الفرار من الخدمة العسكرية يُعتقد أنها تتزايد، بما في ذلك بعض طياري سلاح الجو الذين ينقلبون على رفاقهم (طائرة «ميغ» واحدة، وطائرة مروحية هجومية). بلغ القلق من الانشقاق، كما يقال، حد إلغاء السفر الروتيني للخارج للمسؤولين الجزائريين.
5 - الرابحون هم الراديكاليون الإسلاميون الذين ينتعشون على أساليب النظام وغياب الدعم الشعبي عنه. الـ«كي» (الكي دورسيه - وزارة الخارجية الفرنسية) ترى تسارعاً ملحوظاً في هذا الأمر منذ الشهر الماضي (أي منذ محادثات غرين وبوشار في 8 يوليو (تموز) – راجع تقريرنا الرقم 783). نظام إسلامي في السلطة يُنظر إليه (هنا) على أنه يصير حتمياً في شكل متزايد. هناك ورقة يتم تحضيرها حالياً من قبل رئيس الوزراء، ترى حكومة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (في سدة الحكم) في غضون سنة أو سنتين. كما تم الاقتباس لنا من ورقة أعدها السفير الفرنسي في الجزائر (رجاء حماية هذا المصدر) الذي يعتقد أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستصل إلى سدة الحكم في غضون 18 شهراً، حداً أقصى.
6 - هناك القليل من الوضوح بشأن كيف سيترجم الإسلاميون نجاحهم إلى قوة سياسية، أو كيف سيتم إعادة دمج القيادة السياسية لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في إطار الحركة، علماً بأن الراديكاليين سيحتاجون إليها في مرحلة من المراحل. الجماعات الإرهابية المختلفة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لا يُعتقد أنها تعمل بتنسيق فيما بينها. باستثناء الاتفاق على إسقاط النظام الحالي والاستحواذ على السلطة، يتم النظر إليها على أنها لا تملك أي خطة عمل مستقبلية (كوربوريت بلان)، على رغم أن خطف الدبلوماسيين أخيراً يتم النظر إليه على أنه إشارة إلى وجود نوع من الشبكة المنظمة التي يتم تطويرها بين بعض الجماعات المتشددة. الهجوم على محمية عين الله حيث تم قتل 5 فرنسيين تُعتبر بالتأكيد إشارة إلى تطور لافت في شكل متزايد وجرأة أكبر من جانب أبرز الجماعات (المسلحة).
7 - يتوقع الفرنسيون أن يروا تصعيداً في مستوى ومنسوب الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الإسلاميون في الجزائر في الشهور المقبلة. الأدلة على إمدادات بالسلاح من الخارج، على رغم أنها ضئيلة (بما في ذلك العثور على بعض الشحنات هنا في فرنسا)، توحي للفرنسيين بأن الإسلاميين ربما يبنون ترسانة وأكثر. لا يمكن سوى أن يحسّنوا من قوتهم النارية أكثر، في حين أن قوات الأمن لا يمكن لها سوى أن تتراجع. مسار «تهريب السلاح» عبر ألمانيا وإيطاليا يُعتبر الآن هنا أنه طريق النقل الأكثر تفضيلاً. السلاح الجديد يمكن أن يستخدمه في شكل جيد «الأفغان» (الجزائريون) الذين تعلموا كثيراً في أفغانستان، والذين لم تسنح لهم حتى الآن سوى فرصة لخوض إرهاب على نطاق ضيق في الجزائر.

التداعيات الإقليمية
8 - الآراء منقسمة بشأن التداعيات على تونس، والمغرب، حتى مصر في حالة وصول نظام إسلامي إلى سدة الحكم في الجزائر. الجميع يتفق على أن جيران الجزائر سيواجهون تدفقاً للاجئين، إما فراراً من النظام الجديد وإما بسبب الحرب الأهلية التي ربما ستلي وصوله إلى سدة السلطة. هناك اتفاق على أن المغرب وتونس مجهزان في شكل أفضل من الجزائر للتعامل مع التهديد الأصولي، لكن البعض؛ خصوصاً في أوساط أجهزة الاستخبارات، يرى على رغم ذلك مجالاً لحصول ظاهرة تساقط أحجار الدومينو في شكل جامح. هناك لمسة من إثارة الذعر «عمداً» بخصوص هذا الأمر.

فرنسا - الجزائر
9 - أعدّ الفرنسيون منذ فترة خطط طوارئ استعداداً لاستقبال اللاجئين من الجزائر، في حال أخذ الإسلاميون السلطة. أولئك الذين لديهم حق قانوني للإقامة في فرنسا سيتم استقبالهم في مخيمات وسيتم توفير حاجاتهم في الجنوب حيث سيصلون في الغالب. ولكن ما زال هناك عدم اتفاق بشأن مستوى الهجرة الجماعية. من اللافت أن جهاز «دي جي إس إي» (المساوي لجهاز «أم آي 6»، أي الاستخبارات الخارجية) يقدّر العدد المحتمل للمواطنين الجزائريين الذين سيحاولون الوصول إلى فرنسا بنصف مليون. «الكي دورسيه» (وزارة الخارجية) أكثر تشككاً في صحة هذا التقدير.
10 - مثل هذا الدفق من الهجرة الجماعية سيسبب مشكلات أمنية على الأراضي الفرنسية، حتى لو كان ذلك بين الجزائريين أنفسهم. حتى هذه اللحظة، كما أشار باسكوا نفسه، ليس هناك تهديد إرهابي ملموس. حملة باسكوا الترهيبية ضد المتشددين الإسلاميين الجزائريين، بما في ذلك عمليات فحص الأوراق الثبوتية في شكل عشوائي وواسع النطاق، والعمليات ضد أهداف تحوم حولها شبهات غير واضحة، والتوقيفات تحت طائلة التهديد بالترحيل، التي طالت 24 من القيادات الإسلامية المتشددة، كانت كلها مثيرة للجدل. رأى سياسيون معارضون ووسائل إعلام في ذلك استفزازاً وأمراً يأتي بنتائج عكسية. كثيرون اعتبروها حركة سياسية في إطار الانتخابات الرئاسية «المقبلة». لكن باسكوا تلقى دعماً من «ألفيغارو» المنتمية إلى اليمين، وأيضاً وهذا الأهم أقرّ (آلان) جوبيه وبالادور علناً بالحاجة إلى توجيه «إشارة سياسية» لأي شخص مؤيد للأعمال الإرهابية ضد المصالح الفرنسية في الجزائر أو أي مكان آخر.
11 - قتْل الفرنسيين الخمسة في عين الله، وردّ فعل باسكوا على ذلك، الذي أدّى بكلّ من الإسلاميين والمعلقين إلى وصف السياسة الفرنسية بأنها عبارة عن دعم غير مشروط للنظام الجزائري، أرغم الوزراء الفرنسيين على أن يكونوا أكثر تحديداً في شأن سياستهم بخصوص الجزائر، مميزين «مدى» دعمهم لحكومة زروال. باشر جوبيه هذا الخطّ بمقابلة تلفزيونية في 11 أغسطس، وقد تكرر صداها بمقابلة إذاعية لبلادور في 14 أغسطس؛ أولوية الأولويات لفرنسا هي حماية مواطنيها في الجزائر (1500 يحملون الجنسية الفرنسية فقط). وفي فرنسا؛ الوضع الداخلي في الجزائر أمر يحله الجزائريون أنفسهم؛ فرنسا لا تقدم دعماً غير مشروط للنظام. ليس هناك حل أمني لمشكلات الجزائر. هناك حاجة إلى حل سياسي، بما في ذلك تنظيم انتخابات، عندما تسنح الظروف، (وقال جوبيه هذا الأمر لزروال عندما كان في العاصمة الجزائرية في نهاية يوليو)؛ واحترام حقوق الإنسان.

تعليق
12 – التمييز بخصوص الدعم الفرنسي للنظام، الذي في الواقع بدأ في الظهور للمرة الأولى خلال زيارة (رئيس الحكومة الجزائرية مقداد) سيفي لباريس (انظر التقرير 755. وهو غير موجه للجميع)، يندرج في إطار الاعتقاد القوي المتزايد هنا بأن النظام سيسقط. الفرنسيون عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الآن تهديداً إرهابياً أكثر تعقيداً، يُبنى على بئر الامتعاض العميق الموجود في الجزائر ضد فرنسا.
التوقيع... مالابي

رضا مالك يغادر رئاسة الحكومة لمعارضته الحوار مع الإسلاميين
> في تقرير موجّه من السكرتير الخاص لوزير الخارجية البريطاني إلى فيليبا ليزلي - جونز في مقر رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت، بتاريخ 15 أبريل (نيسان) 1994، جاء أن رئيس الحكومة الجزائرية قد تم تغييره. وجاء في التقرير: «تم تعيين رئيس جديد للحكومة في الجزائر، السيد مقداد سيفي، بتاريخ 11 أبريل، بعد استقالة السيد رضا مالك. شغل السيد سيفي سابقاً منصب وزير العمل.
تعيين السيد مالك في منصبه قبل 8 شهور، تم كما يُعتقد بسبب خطّه المتقبل نسبياً لمطالب صندوق النقد الدولي في المسائل الاقتصادية. استقالته، التي جاءت مباشرة بعد توقيع الجزائريين على مذكرة نيات مع صندوق النقد الدولي، ربما تكون نتيجة معارضته الحوار مع الأصوليين الإسلاميين. استغل الرئيس (زروال) الفرصة لجلب رئيس للحكومة يكون أكثر تعاطفاً مع جهود السعي إلى حل متفاوض عليه؛ لإنهاء النزاع المسلح الخطير مع الأصوليين الإسلاميين.
رئيس الحكومة الجديد شغل عدداً من المناصب الرفيعة في الحكومة، ولا سيما في قطاعات الصناعة، الطاقة والاقتصاد.
سيكون من الصواب أن يكتب رئيس الوزراء (جون ميجور) رسالة تهنئة إلى السيد سيفي. ربما سيود أيضاً أن يرسل رسالة إلى السيد مالك (الذي كتب له رئيس الوزراء في 31 ديسمبر لتشجيعه على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي). أرسل مرفقاً مسودتي رسالتين (إذا قرر رئيس الوزراء إرسالهما)».
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد وجّه في 31 ديسمبر 1993 رسالة إلى رضا مالك رداً على رسالة وجّهها الأخير، بتاريخ 28 نوفمبر (تشرين الثاني). وجاء في رسالة ميجور...
«تواجه الجزائر أزمة صعبة. نعرف أنكم تسعون إلى فتح حوار سياسي مع الجماعات السياسية غير العنيفة في الجزائر. ندعمكم في هذا الجهد.
إنني سعيد بالاطلاع على التقدم المهم الذي حققتموه في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، والخبرة التي اكتسبتموها من التعاون مع صندوق النقد الدولي.
أرحب بقراركم فتح حوار مع صندوق النقد بخصوص برنامج متكامل للصندوق. أتمنى لكم التوفيق في هذا المسعى. عندما يتم التوصل إلى اتفاق على برنامج ويتم تقديمه إلى المجلس التنفيذي، سننظر فيه، كعادتنا، بطريقة بناءة وحيادية. يمكنكم أن تطمئنوا بالحصول على دعمنا لبرنامج سليم لصندوق النقد دعماً لهيكلة الاقتصاد، مع الأخذ في الاعتبار انعكاسات ذلك اجتماعياً.
لقد سعدت بالسماع عن الزيارة الناجحة لتيم إيغار، وزير الطاقة، في نوفمبر. وعلى رغم أن الزيارة كانت قصيرة، أفهم أنه تم بحث كثير من المسائل ومناقشة عدد من الفرص التجارية. كما أنني متشجع أكثر برؤية (بي بي) أيضا في مفاوضات متقدمة مع (سوناطراك) من أجل التطوير المشترك لاحتياط كبير من الغاز في جنوب غربي الجزائر. إذا ما تم نجاح (المفاوضات) فسيضمن هذا المشروع دوراً بريطانيا كبيراً في تطوير مصادر جديدة (للطاقة) مهمة استراتيجياً».



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».