اللبنانيون قرأوا الروايات واستعادوا الكلاسيكيات

ثناء عطوي  -  علوية صبح  -  عبيدو باشا
ثناء عطوي - علوية صبح - عبيدو باشا
TT

اللبنانيون قرأوا الروايات واستعادوا الكلاسيكيات

ثناء عطوي  -  علوية صبح  -  عبيدو باشا
ثناء عطوي - علوية صبح - عبيدو باشا

- الكاتبة والصحافية ثناء عطوي: أسمهان وزمن الرحابنة
كل ما عرفته عنهم أنهم كانوا أناساً مهمين، لماذا لم أعرف، ولم أسأل حتى، ربما اعتقدت أنهم مهمون لأنهم التحقوا بمشروع اليسار، أو لأنهم أكبر سناً مني، أو لأنهم كانوا أحراراً في آرائهم وتصرفاتهم؛ ربما لأنهم كل ذلك، ولأسباب أخرى أيضاً، لكن ما عرفته لاحقاً أنهم كانوا في «زمن زياد». هذا هو الزمن الذي تحدث عنه الكاتب اللبناني طلال شتوي، واستعرض من خلاله مناخ بيروت في السبعينات، بيروت عشية اندلاع الحرب وفي أثنائها، بيروت المدينة المُلتبسة، ملتقى التيارات الفكرية والسياسية والثقافية في ذلك الحين، المدينة التي تفتح وعينا من خلالها على معنى الوطن والنضال والعالم.
كتاب «زمن زياد» يحكي عن زمن الرحابنة وناجي العلي وجوزيف سماحة ورندا الشهال وكاتيا سرور وآخرين، زمنُ العيش مع الآخر ومع المُتناقضات في آنٍ واحد، في المدينة التي شهدت على العصر الذهبي لليسار، «فتح لاند» أو أرض فلسطين والحركات الثورية في الأردن وسوريا والعراق. كتابُ «زمن زياد» الصادر عن دار الفارابي، هو زمنُ بيروت قبل أن ينفض الجمهور عن دور السينما، والمسرح، ومقاهي الحمرا، قبل أن تصبح بيروت عبارة عن ملجأ كبير بحجم وطن كبير ومخيف.
ثانياً، أتابع باهتمام منذ إطلاقه ما يصدر عن «مشروع نقل المعارف» التابع لهيئة البحرين للثقافة والآثار، من كُتب ومعاجم فكرية وفلسفية في غاية الأهمية، قرأت من بينها كتاب «الباب» مقاربة إثنولوجية، لمؤلفه باسكال ديبي، أستاذ الإثنولوجيا في جامعة السوربون، ترجَمَة رندا بعث. ينفرد المؤلف بمقاربة الباب بمعانيه اللغوية وأدواره الاجتماعية والتاريخية والدينية، الباب الذي يحمينا أو يفصلنا أو ينغلق علينا بمقدار ما يجعلنا مُنفتحين على العالم، ويتطرق إلى دور الأبواب في الدين والتاريخ، بدءاً من أبواب السماوات السبعة إلى أبواب جهنم وأبواب اليونان والرومان وغيرها. يخاطب المؤلف أولئك الذين يواربون الأبواب ويدفعونها، الذين يقفون أمامها ينتظرون، يحملون المفاتيح، يسترقون السمع عند الأبواب. يخاطب من خلال الأثر الرمزي للباب، قلوب العاشقين الخافقة، وكل عبارات تفضل، ومن بعدَك، وأنت ممنوع! يخاطب المتأخرين، المساجين، وكل الأبواب التي اجتزناها.
ثالثاً، رواية «الخطيب» لهاني نقشبندي، الصادرة عن «دار الساقي»، تدور أحداثها في مدينة عربية افتراضية. تبدأ عندما يكتشف إمام وخطيب جامعٍ صغير في حي متواضع، أن خطبته للجمعة الأخيرة كانت مكررة لخطبة سابقة. لم ينتبه هو لها، ولا مساعده المؤذن، ولا المصلون. يبحث عن السبب الذي يجعلهم جميعاً غافلين عن الخطبة ومضمونها. فيعقد اجتماعات متكررة مع مساعده المؤذن. يشير عليه الأخير بأن يطور من أسلوب أدائه ومضمون خطبته، ويحثه على أن يميل إلى التسامح. يشير عليه المؤذن أيضاً كي يستعين بمدرب يعلمه فن الأداء. يتلقى تدريباً مكثفاً على يد ممثل مسرحي، هو أفضل من وجدوه لهذه المهمة. بعد أن يتقن فن الإلقاء، يكتشف بأن الجامع الكبير الذي كان يطمح إليه قد أوكل لشيخٍ آخر أقل منه خبرة. يثور وينتفض على خُطبِ التسامح التي كان ينادي بها، وتتحول كلماته إلى جمراتٍ من نار على منبر الجمعة.
رابعاً، «هذا هو اسمي أدونيس» كتابٌ مرجعي لحوارٍ طويل مدته 7 ساعات، أجراه الإعلامي بيار أبي صعب مع الشاعر أدونيس، وتم بثه على حلقاتٍ ضمن مقابلة تلفزيونية. وهو يأتي بمثابة جردةٍ كاملة حول ما كان وما بقي، بعد سقوط المشروع الكبير المتمثل ببناء مجتمعات عربية حديثة وعصرية.
تَمثل التحدي الكبير المتعلق بهذا الكتاب الصادر عن «دار الآداب، في نقل الشفهي إلى المكتوب، أي في جعل النص يعيش في كتاب، وخصوصاً أن الحوار المُتلفز تم اختصاره لضرورات الوقت والمونتاج، على عكس الكتاب الذي نقل تفاصيل الحوار كاملاً، وصيغَ بفصحى جيدة مطعمة بالعامية، ووثق مسيرة أدونيس الطويلة التي بدأها منذ مغادرته سوريا إلى لبنان في الخمسينات، حاملاً معه حلم الحداثة ومشاريع التغيير، مُنظراً بجرأة حول مواضيع تتعلق بالسلطة والدين والمرأة، محاولاً إعادة اختراع الحداثة العربية من قلب التراث. يحيط الكتاب بجوانب عدة تتعلق بسيرة أدونيس، وسيرة بيروت، ومجلة شعر، ومراجع الشاعر الفكرية، وإعادة قراءته للتراث، وشعره بين الذهنية والحسية، فضلاً عن قضايا أخرى من بينها موقفه من الصراع في سوريا والمنطقة عموماً. يضم الكتاب أسطوانة «دي في دي» للحلقات المسجلة.
خامساً، عن «دار الجديد» التي تمتاز بإصداراتها المُنتقاة بعناية، حضرتُ توقيع الكاتب اللبناني وأستاذ العلوم الاجتماعية أحمد بيضون، «في صُحبة العربية». وهو كتاب من بين 3 كتب للمؤلف يتعلق بلغة الضاد، وفيه قدم خلاصة تجربته اللغوية، واشتباكه مع أصولها وواقعها الراهن، وتضمن مجموع مقالاتٍ كتبها خلال 10 سنوات تتقاطع حول موضوعاتٍ مشتركة.
سادساً، «قصة أسمهان» عن الدار نفسها، وضمن سلسلة «طبق الأصل» التي تعيد «دار الجديد» من خلالها إعادة طباعة كتبٍ ووضعها في التداول، بعد ما اختفت وفُقدت من الأسواق، من بينها كتاب «طه حسين الشعر الجاهلي»، وكتاب أدونيس «قالت الأرض».
ويأتي الكتاب من بين عشرة كتب صدرت عن السلسلة حتى اليوم، ويروي فيه فؤاد الأطرش شقيق أسمهان القصة المُلتبسة حتى اليوم، ويكتبها فوميل لبيب. وكان الكتاب قد صدر في طبعته الأولى في بيروت سنة 1962، من دون اسم ناشر أو عنوانه، ثم اختفى ولم يعد موجوداً، إلى أن أعادت «الجديد» طباعته مرة ثانية.
- الروائية علوية صبح: العودة إلى دوستويفسكي
أعود دائماً إلى روايات فيودورو دوستويفسكي. وربما هي المرة الخامسة التي أعاود فيها قراءته، فأنا أعتبره أباً للروائيين وملهماً لهم. وهكذا كلما قرأته أعود وأشعر كم أن هذا الكاتب بالنسبة لي هو المفضل عندي. قرأت «الأخوة كارامازوف» تكراراً، فهي تفتح لي آفاقاً وغنى في الرؤيا، لا يمكن تصورهما.
وأحببت ديوان الشاعر بول شاوول «حديقة الأمس». كتاب رائع. أحببت المستوى العالي من الشعرية والإحساس، وقدرة اللغة على الاختزال. وكيف تحولت المرارة إلى جمال ورعشة ولغة طازجة. معجم وجمل وحالات وقدرة على التعبير بتكثيف اللغة. هو استمرار لدواوينه السابقة ك«موت نرسيس» و«ميتة تذكارية» و«بوصلة الدم» لكنه شعر جميل فعلاً ومؤثر، في وقت صار فيه فن الشعر مهملاً. وأنا من الروائيين الذين يحبون قراءة القصائد والاستمتاع بها، فهي تمدني بالإلهام وتساعدني على الوصول إلى الصفاء الروحي والذهني والدخول في حيوات أخرى أحتاجها، كما أجد حاجة إلى سماع الموسيقى بشكل يومي. قد تكون لدي هذه الحاجة لأنني بدأت شاعرة، وعلاقتي بالشعر لا تزال حميمة جداً.
وأحببت أيضاً رواية عبده وازن «البيت الأزرق». فاجأني بقدرته الروائية والحبكة والتشويق وفنيته العالية، كونه شاعراً ولم يوظف الرواية في خدمة الشعر، وإنما الشعر يذوب في صالح السرد الروائي، وفي اللغة السردية.
هي رواية جريئة تكشف وتضيء عوالم خفية بالنسبة للقارئ بشكل لا مواربة فيه.
- الكاتب والناقد المسرحي عبيدو باشا: «المخطوط القرمزي» لأنطونيو غالا
أعتقد أن كتاب السنة هو رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول التي تمت ترجمتها أخيراً إلى العربية، بعد أن نقلت إلى لغات كثيرة. وهو نص قديم، يتحدث عن تجربة الحشاشين في العالم، وقائدهم حسن الصباح من خلال العودة إلى كتابات المستشرقين والرحالة الأوروبيين، وكيف ذهب الفتيان الذين كانوا معه إلى ارتكاب عمليات انتحارية، كل هذا بأسلوب قصصي مشوق وممتع. حقاً انه أحد الكتب الممتعة جداً التي تجدر قراءتها.
أما الكتاب الثاني فقد أعدت اكتشافه من جديد. كنت قد قرأته من قبل لكن هذه المرة كانت لي نظرة أخرى، وهو «الحروب الصليبية كما رآها العرب». وفي رأيي أنه أهم كتاب لأمين معلوف على الإطلاق. ولا أعتقد أنه كتب ما هو أهم منه، سواء لجهة التوثيق التاريخي، أو التشويق الروائي.
وهناك كتاب ثالث يستحق القراءة بالفعل وهو «المخطوط القرمزي» لأنطونيو غالا، وهو يعيد قراءة هزيمة الأندلس، بشكل يطيح بكل البروبغندا في الرواية المعروفة لدينا لغاية الآن. يعتمد غالا في كتابته على مخطوط تركه لنا أبو عبد الله الصغير، مسجلاً مذكراته في الأشهر الأخيرة قبل سقوطه. وهنا نرى علاقته بأمه التي نعرف مقولته الشهيرة عنها «ابكِ كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال»، وكيف أنها قالت له انزل إلى أول ضيعة لتري الإسبان كيف أنك قوي، فغرر به. أبو عبد الله الصغير كتب مذكراته على ورق قرمزي وهو جالس في القلعة وأعاد اكتشاف هذه المخطوطة أنطونيو غالا ليقدم لنا رواية مختلفة تماماً عن التي نعرفها، وحازت رواياته على جوائز كثيرة.


مقالات ذات صلة

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

يوميات الشرق يجمع «ملتقى لقراءة» محبي أندية القراءة والمهتمين بها لتعزيز العادات والممارسات القرائية (هيئة المكتبات)

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

تنظم هيئة المكتبات «ملتقى القراءة الدولي» الهادف لتعزيز العادات القرائية، من 19 إلى 21 ديسمبر (كانون الأول) بقاعة المؤتمرات في «مركز الملك عبد الله المالي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».