كان الرحّالة حتى أواخر النّصف الأول من القرن التاسع عشر، يعمدون إلى النّقش أو الرّسوم المائية لتخليد تجوالهم في ربوع البلدان وحواضرها، وينقلون إلينا من خلالها ما يعاينون من أجناس بشرية وعادات ومناظر طبيعية تحكي غرائب الأمصار ومفاتنها. ولكن مع اختراع آلة التصوير الشّمسي أصبحت الكاميرا الرفيق الأول الملازم للمسافر، يخزّن فيها مشاهداته وما يقع عليه من مواطن الجمال أو مصادر الدّهشة والإعجاب، يحتفظ بها للذّكرى والاستشهاد على ما تكشّف له في حلّه وترحاله.
وبعد أن كانت الكتب والأدبيات هي المرجع الرئيسي للتعرّف على البلدان والمجتمعات التي تحيط بنا، أصبحت الصورة مصدراً مهماً للمعلومات التي تروي فضولنا حول ما نرغب في اكتشافه أو ما يثير اهتمامنا، ونسافر عبرها إلى الأماكن التي نتوق إليها لتمضية العطلة أو إشباع رغبتنا في الرّحيل نحو عوالم جديدة. ومع ازدهار السياحة وما رافقها من نموّ سريع لحركة السفر انتشرت المجلات والمطبوعات التي تعتمد على التحقيقات المصوّرة للتّعريف بالوجهات السياحية والترويج لها. وقد أدّى ذلك إلى ظهور جيل من المصوّرين الصحافيين الذين وضعوا عدسة الكاميرا مكان الريشة لينقلوا إلينا إلى جانب الحدث الإخباري، مواطن الجمال والسحر والعذاب والدّهشة في البلدان والمجتمعات التي يجوبونها ويستدرجوننا للسفر إليها، وبرز بينهم كثيرون من الذين صاروا يعرفون بأدباء الكاميرا، نسافر على أجنحة صورهم إلى ما لا تراه سوى عين الفنّان ولا يدركه إلّا الحسّ المرهف.
ومن أبرز هؤلاء «الأدباء المصوّرون»، البرازيلي سيباستياو سالغادو الذي تحظى تحقيقاته التصويرية بشهرة عالمية وتخصّص لها معارض ودراسات، وتلقي نظرة عميقة على أحداث وحالات اجتماعية يمرّ بها المسافر أو السائح مرور الكرام وغالباً لا يتوقف عندها أو يلتفت إليها.
«الصورة الشمسية كتابة عميقة لا تحتاج قراءتها إلى الترجمة. والصّور شذرات صغيرة تحكي قصصاً كاملة». هذا ما يقوله سالغادو في مذكراته التي يخبرنا فيها أنّه ولد في البرازيل حيث درس الاقتصاد ثمّ سافر إلى باريس في أواخر ستينات القرن الماضي، ليتابع تحصيله العلمي ويبدأ عمله موظّفاً في إحدى المنظمات الدّولية قبل أن يقرر الانصراف إلى التصوير والتفرّغ له في العام 1973. بعد عدة جولات قام بها في القارة الأفريقية، «حيث تفتّحت عيناي على نوع آخر من السفر والسياحة في عذابات الناس ومشقّاتهم اليومية». وقد لاقت تحقيقاته الأفريقية نجاحاً كبيراً لما نقلته من سحر الطبيعة ومآسي الحروب بتقنيّة فنية عالية.
انضمّ بعد ذلك لفترة وجيزة إلى وكالة «سيغما» لينتقل إلى وكالة «غامّا» التي وصفها بأنها أكبر مدرسة للتصوير الفوتوغرافي. وفي العام 1979 باشر عمله مع وكالة «ماغنوم» منصرفاً للتحقيقات السياحية المخصصة لمجلة «GEO» المعروفة طوال خمسة عشر عاماً قبل أن يقرّر وزوجته تأسيس وكالته الخاصة في باريس. من العاصمة الفرنسية نشر أوّل مجلّد لأعماله بعنوان «الأرض» مع نصوص للأديب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل جوزيه ساراماغو، وهو كناية عن تحقيق صوّره في البرازيل عن حركة المزارعين المحرومين من ملكية الأراضي في منطقة الأمازون.
رافق في منتصف الثمانينات سالغادو منظمة «أطباء بلا حدود»، في عدد من البلدان الأفريقية، ونقل منها صور المجاعة ونزوح اللاجئين في المناطق المنكوبة بالحروب والصّراعات الأهلية في رواندا، ومن ثمّ انتقل إلى أميركا اللاتينية حيث وضع عدة تحقيقات عن السكان الأصليين والعمّال والفلاحين كان أبرزها تحقيقه المصوّر الشهير عن عمّال منجم الذهب البرازيلي في منطقة «سيرّا بيلادا» الذي نال عدداً من الجوائز العالمية.
يعرّف سالغادو عن نفسه بأنّه «مصوّر اجتماعي»، ويعتبر أعماله امتداداً لالتزامه السياسي ودفاعه عن قضايا العمّال والفقراء والمعذّبين. «لأنّ السفر لا يجب أن يكون مقصوراً على الترفيه والاستجمام واستكشاف الجمال في الأماكن البعيدة، بل هو أيضاً وسيلة للوقوف على مواطن الظّلم والمعاناة ونقلها إلى العالم». وفي مجموعة من التحقيقات بعنوان «عمّال» وضع سجلّاً تصويريّاً للأعمال اليدوية المحكومة قريباً بالانقراض، بسبب التطور التكنولوجي، وجال في أنحاء القارة الأوروبية يصوّر المصانع التي تقفل أبوابها وانتقل بعدها إلى البلدان الفقيرة في آسيا وأفريقيا التي هجرت إليها تلك المصانع، سعياً وراء اليد العاملة الرّخيصة، وعاد بتحقيقات مصوّرة مذهلة عن الظروف التي يقاسيها العمّال هناك.
وفي مجموعته الأخيرة بعنوان «نزوح»، وضع ما يشبه الجداريّات التصويرية لتدفقات اللاجئين الهاربين من الحروب والاضطهاد، والمنفيين والمهاجرين الذين أُطلق عليهم «البشريّة العابرة»، مستبقاً ظاهرة الهجرة التي أصبحت اليوم أحد أهمّ التحديات التي تواجه العالم. ويقول في المقدّمة النصيّة لهذه المجموعة: «أشعر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأنّ ثمّة جنساً بشريّاً واحداً له نفس المشاعر والانفعالات أياً كان اللون أو اللغة أو الثقافة أو الإمكانات».
أمّا الحلم الأخير الذي يتوق سالغادو إلى تحقيقه، فهو سلسلة من التحقيقات عن القبائل التي لم تتواصل بعد مع عالمنا، ويقول: «يوجد منها ما يزيد عنه المائة في منطقة الأمازون. يعرفون بوجودنا، لكنّهم يفضّلون الابتعاد عنه. لا أريد تصويرهم، بل تصوير الأماكن التي يعيشون ويعملون فيها. إنّهم الحامض النووي لتاريخنا. هم نحن منذ آلاف السنين ومن واجبنا أن نحميهم». ويضيف: «أنا لست صحافياً ولا نيّة عندي لتغيير آراء الآخرين. أنا إنسان فضولي يعشق السفر الذي اعتبره كتاب الحياة والجسر الواصل إلى رحم الطبيعة والأرض... والإنسان».
«الأدباء المصوّرون» وضعوا عدسة الكاميرا مكان الريشة
سيباستياو سالغادو يحلم بتحقيق عن قبائل لم تتواصل مع عالمنا بعد
«الأدباء المصوّرون» وضعوا عدسة الكاميرا مكان الريشة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة