نهاية 2018، رسمت العناوين الرئيسية لملامح خمسة تطورات منتظرة في العام المقبل، هي: ملء الفراغ بعد الانسحاب الأميركي، وانعكاسات ذلك على مستقبل التفاهم الروسي - التركي حول إدلب، وآفاق العملية السياسية، وملفا الإعمار و«التطبيع» العربي أو الغربي مع دمشق، ومصير «التموضع الإيراني» في سوريا.
الانسحاب الأميركي
فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب خصومه وحلفاءه بقرار الانسحاب من سوريا. القرار اتخذ بعد اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي تنقل في العام المنصرم بين خانة الحليف والخصم في قاموس الرئيس ترمب. إردوغان الذي سعـى كثيراً لحشد موقف أميركي لوقف دعم «وحدات حماية الشعب» الكردية، فاجأته سرعة ترمب. «انسحاب كامل وسريع»، وعلى تركيا استكمال المهمة في القضاء على ما تبقى من «داعش». هذا ما أبلغه سيد البيت الأبيض إلى السلطان في 14 ديسمبر (كانون الأول)، بعد أن قال له مغرداً على «تويتر» إن سوريا «كلها لك»، أي لإردوغان.
ذهب صدى مفاجأة ترمب. واستعجل كل طرف البحث فيما بعد ذلك. العنوان الرئيسي للتحركات كان الوصول إلى ترتيبات أمنية وعسكرية ما بعد الانسحاب. أميركا ستترك ثلث مساحة سوريا، أي شرق نهر الفرات، وقاعدة التنف، ومدينة منبج. هذه المناطق فيها: 70 ألف مقاتل عربي وكردي، وفيها بقايا «داعش»، وخلايا نائمة، وبنية إدارية واقتصادية وحزبية بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي»، وفيها بنية عشائرية عربية، ومربعان أمنيان في الحسكة والقامشلي، وزاوية الحدود السورية - العراقية - التركية، والزاوية السورية - العراقية، الأردنية، وفيها 90 في المائة من النفط السوري الذي كان إنتاجه يبلغ 360 ألف برميل قبل 2011، وفيها نصف الغاز السوري، ومعظم القطن والحبوب، والسدود السورية الثلاثة الكبرى. فيها أيضاً تمر الطريق البرية بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. هذه الطريق حيوية لمصالح إيران ونفوذها وميليشياتها. باختصار: فيها «سوريا المفيدة اقتصادياً واستراتيجياً» التي تعيش عليها «سوريا المفيدة عسكرياً وسكانياً».
هذه «الثروة» مصدر صراع وسباق وتنافس بين اللاعبين السوريين والإقليميين والدوليين. إيران لم تتوقف عن الحشد جنوب نهر الفرات. ودمشق لم تتوقف عن الطموح للعودة إلى الماضي. تركيا لم تتوقف عن الطموح لبناء منطقة نفوذ.
لا شك في أن مصير هذه المنطقة سيكون حيوياً في عام 2019، وسيحكم قسماً كبيراً من أشهر العام. مصالح تركيا: القضاء على أي كيان كردي، وملاحقة «حزب العمال الكردستاني»، وإقامة شريط أمني بعمق 20 - 30 كيلومتراً. مصالح دمشق في الإبقاء على سيادة سوريا ومصادر الاقتصاد. مصالح روسيا في الوصول إلى ترتيبات لا تزعج تركيا وتربط دمشق وأنقرة. مصالح أميركا في القضاء على «داعش» وتقليص نفوذ إيران. مصالح إيران في منع استخدام هذه المنطقة ضدها؛ لكن الإبقاء على النفوذ.
مصير إدلب
لا يمكن بحث مصير شمال شرقي سوريا عن شمالها الغربي: إدلب. هذه المنطقة شمال الريف الغربي لحلب، الريف الشرقي للاذقية، الريف الشمالي لحماة. أحد العناوين الرئيسية لعام 2018، كان مصير إدلب. إذ إنه بعد سيطرة الحكومة على جنوب سوريا وجنوبها الغربي وغوطة دمشق ربيع العام المنصرم، بدأت تحشد على ريف إدلب؛ لكن تهديدات أميركية وغربية، والتصعيد الدولي والإنساني، دفعت إلى ترتيب الأرضية لعقد صفقة روسية - تركية خاصة بإدلب.
يجب عدم تقليل انعكاس المساعي التركية - الروسية لتطوير العلاقات الثنائية (محطة نووية، وتبادل تجاري، وخط غاز، وصواريخ «إس 400»...) على وصول الطرفين إلى اتفاق سوتشي في سبتمبر (أيلول) الماضي حول إدلب. أي وقف الهجوم العسكري السوري، وإقامة منطقة عازلة بين المعارضة والحكومة، وتحييد الإرهابيين وإخراجهم منها، إضافة إلى تعزيز تركيا لنقاط المراقبة الـ12 التابعة لها. بذلك، ضمت إدلب إلى منطقتي النفوذ التابعتين لأنقرة: «درع الفرات» بين الباب وجرابلس، و«غصن الزيتون» في عفرين. تشكل هذه المناطق نحو 10 في المائة من مساحة سوريا.
الخطة الروسية، كانت تمر بثلاث مراحل: السيطرة على جنوب إدلب، أي خان شيخون ومعرة النعمان وغرب إدلب، أي جسر الشغور. المرحلة الثانية، هي السيطرة على الطريقين الرئيسيتين بين اللاذقية وحلب، وبين دمشق وحلب. المرحلة الثالثة، شمال طريق اللاذقية - حلب.
التفاهم الروسي - التركي لم يقضِ على الخطة؛ بل أدى إلى البحث عن تنفيذها ببطء، ومن دون عمل عسكري واسع. كما أن الهدف من التفاهم روسياً كان إبقاء تركيا في الإطار الروسي والابتعاد عن أميركا. لكن اتصال ترمب – إردوغان، والتفاهم على تزامن الخروج الأميركي مع الدخول التركي، سينعكسان على مصير إدلب، وعلى الحرارة بين موسكو وأنقرة. هذا أحد العناوين السورية في عام 2019.
آفاق الحل السياسي
عُرف عام 2018 بأنه عام مسار سوتشي - آستانة. بدأ في يناير (كانون الثاني) باستضافة سوتشي مؤتمر الحوار الوطني السوري. صدر منه بيان تضمن تشكيل لجنة دستورية برعاية دولية. أي بات الإصلاح الدستوري بمنصة سوتشي – آستانة، مدخلاً لتطبيق القرار الدولي 2254. تطلب الأمر سنة كاملة للوصول إلى قائمة للجنة الدستورية، قائمة لم تنطبق عليها معايير بيان سوتشي ذاته.
أيضاً، في العام المنصرم عاد الأميركيون إلى العملية السياسية. مع تسلم السفير جيمس جيفري الملف السوري، وجون بولتون منصب مستشار الأمني القومي منتصف العام.
عاد الأميركيون إلى المسار السوري: الوجود الأميركي شرق الفرات كان يرمي إلى هزيمة «داعش» وتقليص نفوذ إيران، ومساعدة وزير الخارجية مايك بومبيو للوصول إلى حل سياسي بموجب القرار 2254. الأميركيون قرروا المغادرة قبل الوصول إلى حل سياسي. بالتالي، فقدوا نفوذاً للضغط نحو التسوية.
التغيير الآخر، يتعلق بمغادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا منصبه. اعترف في آخر إيجاز له بأنه «فشل» في تشكيل اللجنة الدستورية. سيتسلم السفير النرويجي غير بيدرسون منصب المبعوث الدولي الجديد. حاول الروس والأتراك والإيرانيون خلال لقائهم الأخير في جنيف قبل أسبوعين، الإبقاء على روح ومسار الإصلاح الدستوري؛ لكن لا شك في أن بيدرسون سيبحث عن مداخل جديدة للحل السياسي، وتنفيذ القرار 2254.
لا يمكن توقع أي حراك للمبعوث الجديد قبل ثلاثة أشهر من تسلمه المنصب. ولا يمكن توقع تحركه قبل معركة آفاق الميدان العسكري شمال شرقي سوريا وشمالها الغربي، ومدى انسحاب أميركا عسكرياً ودبلوماسياً من سوريا.
الإعمار والتطبيع
الدول الغربية وعدد من الدول العربية كانت تربط المساهمة في إعمار سوريا بالوصول إلى «انتقال سياسي» أو «حل سياسي ذي صدقية» في سوريا. وهناك من يربط ذلك بخروج إيران وميليشياتها. كلفة الإعمار تقدر بـ300 - 400 مليار دولار أميركي. هذا يشمل أيضاً الـ60 في المائة من مناطق نفوذ الحكومة وروسيا وإيران. يتحجج البعض أن ملف الإعمار قد يكون أساسياً في إضعاف إيران. يمكن الوصول بالسلام والإعمار إلى ما كان يرمي إليه الصراع على النفوذ. وبات يطرح حالياً موضوع عودة الحكومة السورية إلى الجامعة العربية.
لا شك أن القمة الاقتصادية العربية في بيروت، في نهاية يناير المقبل، ستشهد طرح الموضوع، وإجراء مشاورات لاتخاذ قرار في شأن تجميد عضوية دمشق قبل سبع سنوات. إلى الآن، ليس هناك إجماع بين الدول العربية على عودة دمشق؛ لكن لا بد من ملاحظة أن الشهر الأخير في العام المنصرم، شهد زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، وزيارة رئيس مجلس الأمن الوطني علي مملوك إلى القاهرة.
مصير نفوذ إيران
في سبتمبر الماضي، سقطت طائرة روسية بنيران الدفاع الجوي السوري، الذي حاول ضرب طائرة إسرائيلية كانت بحماية أميركية ترمي ضرب مصالح إيران في سوريا. حادثة صغيرة، انخرطت فيها خمس دول: أكبر دولتين في العالم، ودولتان إقليميتان، وسوريا.
العام الماضي، شهد حرباً خفية بين إسرائيل وإيران في سوريا. شهد أيضاً شن إسرائيل أكبر غارات على مواقع إيرانية. أيضاً شهد لعب روسيا دور الوسيط لإبعاد إيران وميليشياتها وقواعدها عن الجولان والأردن. شهد أيضاً عودة القوات الدولية لفك الاشتباك (أندوف) إلى الجولان، ونشر روسيا منظومة صواريخ «إس 300» لتضاف إلى منظومتين أخريين: «إس 400»، و«إس 300».
إبعاد إيران 100 كيلومتر عن الجنوب، كان قسماً من المطالب - التفاهمات. و«إخراجها من سوريا» كان أحد أهداف الوجود الأميركي. لذلك، فإن العام المقبل سيشهد كثيراً من الأخذ والعطاء عن نفوذ إيران العسكري والاقتصادي والميليشياوي. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال بعد قرار ترمب الانسحاب، إنه سيواصل ضرب مصالح إيران. إيران تسعى إلى التمدد شرق الفرات. روسيا تسعى إلى الاستحواذ على القرار السوري، بما في ذلك من إيران. طهران المحاصرة بعقوبات وتهديدات أميركا، تعاند موسكو، وتستخدم سوريا مسرحاً للتفاهم والتقاتل.
لا شك في أن الانسحاب الأميركي خلط الأوراق، وأطلق سباقاً بين اللاعبين الخارجيين والمحليين في 2019، لملء الفراغ وتحقيق مكاسب استراتيجية تقوي الموقف التفاوضي، عند البحث عن ترتيبات، والجلوس إلى طاولة صوغ سوريا الجديدة.