بقايا «داعش» في العراق وسوريا... الخطورة مستمرة

التنظيم شرع في تجديد نشاط خلاياه النائمة

قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
TT

بقايا «داعش» في العراق وسوريا... الخطورة مستمرة

قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)

صادف التاسع من ديسمبر (كانون الأول) ذكرى مرور عام على إعلان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، هزيمة تنظيم داعش في العراق، وتحرير آخر معقل له فيها، إلا أن ذلك لا يعني على أية حال التخلص من وجوده، إذ يحاول التنظيم بلا هوادة لملمة أشلائه. وقد أشارت عدة تقارير مؤخراً إلى أن تنظيم داعش قد شرع في تجديد نشاط خلاياه النائمة وجيوبه في سوريا والعراق، وبالأخص في المناطق الحدودية بينهما، كما حذر عدد من المسؤولين من بقايا «داعش» وتصرفاته وقد خفت وهجه.
أكد رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني، في مؤتمر صحافي، أن «داعش» لم ينتهِ، وأنه قد عاد إلى بعض المناطق بشكلٍ أسوأ من ذي قبل، وأن خطره بات أكثر من السابق، فيما قال قائد العمليات المشتركة للعمليات الخاصة في العراق وسوريا، الجنرال باتريك روبرسون، إن تنظيم داعش ينتهج محاولات مستميتة للقتال بعد أن تم طرد أعضائه من مناطق نفوذهم السابقة، التي كانت تحت اسم «الخلافة المزعومة»، بالأخص بعد أن نفدت مصادرهم التي كانت تعتمد من قبل على الضرائب والنفط.
يذكر أن «قوات سوريا الديمقراطية» سيطرت على بلدة هجين، التي تعد من أهم معاقل تنظيم داعش في منطقة دير الزور في سوريا، والتي اندلعت فيها في الفترة الأخيرة اشتباكات قوية بين التنظيم المتطرف و«قوات سوريا الديمقراطية»، فيما ذكرت هذه القوات أن التنظيم لا يزال يحوي ما يصل إلى 5 آلاف داعشي قرب الحدود مع العراق، الأمر الذي يثير من جديد إشكالية أن التغلب على الخلافة الداعشية أو «تنظيم الدولة» لا يعني التخلص من التطرف، واجتثاث مسبباته، إذ إن ذلك يستلزم استراتيجيات بعيدة المدى، خصوصاً مع تحول استراتيجيات التنظيم إلى ما يشبه «حرب العصابات»، مما يطيل أمد الصراع، ويجعله لا يعتمد على مناطق محدودة، كما في السابق، إذ لم يقر تنظيم داعش بهزيمته، واستمر في معاركه المستميتة، وفي سعيه لاستقطاب وتجنيد المتعاطفين معه، الأمر الذي سهل على التنظيم تفعيل هجماته، لا سيما في ظل انعدام وجود استقرار أمني وسلطة مركزية قوية.
وفي حين أشارت السلطات العراقية إلى شروع التنظيم في إعادة هيكلته، والاعتماد على غير العراقيين كقادة للتنظيم، بعد أن قتل عدد كبير من قادته خلال الغارات الجوية من قبل قوات التحالف، وتهجير وفرار آخرين منهم خارج المناطق التي كانت بحوزتهم من قبل، الأمر الذي دفع «داعش» للتركيز على عمليات القتل واختطاف الرهائن، سواء من المدنيين أو حتى المساجين، واستخدام المتفجرات، وإن واتت التنظيم الفرصة، بث كل ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل إثبات استمراريته، رغم الضغوطات التي تواجهه.

استراتيجيات دقيقة
في تقرير لرئيس الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يذكر أنتوني كوردسمان أن السلطات الأميركية بحاجة لوضع استراتيجيات وقرارات دقيقة في ما يخص مستقبل حروبه في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، إضافة إلى صراعه مع التطرف والإرهاب بصفة عامة، ومع إيران، حيث لا يوجد أي علامات لوجود «انتصار» في هذه المناطق، إلا إن تم التخلص من المخاطر الحالية على الصعيد العسكري، وكذلك من خلال قدرة الدول على إيجاد سياسات تمكنها من إفشاء السلام والاستقرار، والنهوض.
كما ذكر كوردسمان، في التقرير ذاته، أن التخلص من الخلافة الداعشية وحده ليس دليلاً على الفوز في الحرب ضد الإرهاب في كل من سوريا والعراق، إذ إنه من الصعب معرفة عدد أعضاء تنظيم داعش، ممن سيتمكنون من البقاء في سوريا والعراق، أو العدد الذي سوف يتمكن من الاستمرار في الصراع، سواء من خلال هذا التنظيم أو ولادة تنظيم جديد.
وقد أشار تقرير كوردسمان إلى أن العمليات الإرهابية المنفذة من قبل تنظيم داعش تشكل 30 في المائة فقط من العمليات الإرهابية في سوريا، خلال الفترة من 2000 إلى 2017، بينما الحرب الأهلية في سوريا اندلعت خارج المناطق التي استحوذ عليها «داعش»، وتحديداً في المناطق التي استحوذت عليها إيران و«حزب الله»، والقوات الداعمة لنظام بشار الأسد، إضافة إلى وجود عدد من «المتطرفين» ممن يمتلكون جذوراً أو انتماءً سابقاً لتنظيم «القاعدة»، الأمر الذي يعكس مدى تعقيد القدرة على تحقيق الاستقرار في مناطق الصراع، حيث لا يرتبط ذلك فقط بمحاربة تنظيم داعش عسكرياً.

تمكين العراق
وأكد كوردسمان أن تحقيق الاستقرار في العراق يعني أهمية وجود سلام بين الأعراق والمذاهب المختلفة، بما فيها الأكراد «المتطرفين» الذين لديهم روابط في مناطق في سوريا وتركيا، مشيراً إلى أن الهجمات الإرهابية في العراق من قبل تنظيم داعش تشكل 39 في المائة من إجمالي الهجمات لعام 2016، و43 في المائة من إجمالي هجمات عام 2017 فقط، وقد يكون ذلك نتيجة الغارات المكثفة من قبل قوات التحالف على التنظيم، مما أفقده قدرته على الهيمنة في العمليات الإرهابية، إذ مضى يلملم أشلاءه، ويحاول استعادة قوته، الأمر الذي يعني أن العمليات العسكرية لمجابهة تنظيم داعش وحدها لن تكفي لإيقاف التطرف والإرهاب، أو ظهور تنظيمات إرهابية أخرى، إذ لا بد من دعم الحكومة العراقية من أجل تمكينها من مواجهة المخاطر، سواء الآتية من دول أخرى تحاول التسبب في إرباك الأمن، أو ميليشيات تسعى لزعزعة الأمن الداخلي.
وهو أمر يشبه ما حدث مع تنظيم القاعدة في السابق، حيث توقع المحللون والخبراء في مجال مكافحة الإرهاب انتهاء التنظيم في أعقاب الإعلان عن وفاة مؤسسه أسامة بن لادن عام 2011، لا سيما أن تنظيم القاعدة كان في ذلك الوقت أكثر مركزية، وهو ما يختلف عن تنظيم داعش الذي تعمد عدم إبراز قادته في وسائل الإعلام، واستقطاب المتعاطفين، والتركيز على «الشعبوية»، أو استقبال الجنسيات والتوجهات المختلفة من البشر، مما أدى إلى تعدد جنسياته، لتضم حتى الأوروبيين منهم، وذلك يختلف عن تنظيم القاعدة الذي اتصف بتقنين أعضائه إلى عرب وأفغان، وعدم استقبال المتعاطفين مع التنظيم من الجنسيات الأخرى، وهو ما دأب على النجاح فيه.

دعم الذئاب
نجح تنظيم داعش منذ نشاطه الذي تبلور في عام 2014 في استغلال العالم الإلكتروني في بث عملياته، واستقطاب المتعاطفين من جنسيات مختلفة، وبأعداد كبيرة، الذين انضموا للتنظيم نتيجة افتتانهم بفكرة «الخلافة الداعشية»، ووجود رقعة جغرافية في سوريا والعراق تعد أشبه بملاذ لجميع «المتطرفين»، أو في ما بعد حين تمكن من استقطاب وتجنيد «الذئاب المنفردة» في كثير من الدول، دون الحاجة لإرسالهم إلى معسكرات تدريبية، أو التورط بتفشي أماكن وجودهم، حتى تغلب في قدراته التقنية على تنظيم القاعدة الذي ولد منه، واستمر في دعمه لفكرة «الذئاب المنفردة» خارج مناطق الصراع، حيث لا يستلزم ذلك بذل مجهود كبير، وإنما الاكتفاء بالدعم المعنوي، ومن ثم نسب عمليات إرهابية شعواء أشبه بالإجرامية لأشخاص مختلين عقلياً يقومون بطعن المارة أو دهسهم، والتسبب في بلبلة وإقلاق للمدنيين، وسيظل اسم التنظيم الداعشي مؤرخاً في قدرته على تجنيد أعداد كبيرة من المنضمين إليهم، وجعله دول العالم تتحالف من أجل التخلص من هذا التنظيم الذي تفشى حتى وصل إلى أجزاء بعيدة من العالم.
إلا أن استهداف قوات التحالف لتنظيم داعش قد تتيح الفرصة لنهوض تنظيمات أخرى، أبرزها تنظيم القاعدة. وقد طرح مركز راند للدراسات الاستراتيجية من جهته وجود سيناريو محتمل، يتمحور حول استغلال تنظيم القاعدة ما حدث مؤخراً من محاربة تنظيم داعش من أجل تقوية قدراته ولملمة صفوفه، ومن ثم استقطاب المزيد من المتعاطفين معه، لا سيما أنه يبدو التنظيم الأقل شراسة، إذا ما قورن بـ«داعش»، الأمر الذي قد يمكنه من الظهور بقالب أكثر عقلانية وخيار أفضل للمتعاطفين.

داعش والقاعدة
حرص تنظيم القاعدة منذ بداية عهده على استخدام سياسة «كسب القلوب والأفئدة» في تعامله مع المدنيين، بل وسعى لإعادة البناء في عدة مناطق كان يستحوذ عليها، مثل ما حدث في السابق في العراق، قبل أن يسيطر تنظيم داعش على تلك المناطق، الأمر الذي قد يقنع البعض، خصوصاً أن «القاعدة» كان حريصاً منذ البداية على أن يوضح أن حربه هي على الغرب فقط، فيما قام «داعش» بشن هجمات شرسة على كل من يخالفه، بما في ذلك المدنيين المسلمين الذين قام بتكفيرهم، وتطبيق العقوبات عليهم وإبادتهم، وقد تفشى في عهد التنظيم الداعشي ما هو أشبه بظاهرة المجازر الجماعية، وستقوم منظمة الأمم المتحدة بإجراء تحقيقات في مطلع 2019 حول الانتهاكات التي ارتكبها «داعش» في العراق، حيث تم الكشف عن ما يزيد على 200 مقبرة جماعية، تضم أكثر من 12 ألف جثة، حيث تبنى مجلس الأمن في عام 2017 قراراً بالإجماع من أجل التمهيد لتحقيق يهدف إلى محاكمة عناصر تنظيم داعش عن الجرائم التي تم ارتكابها.
كل ذلك يؤكد ضرورة وضع آليات لما بعد تفكيك الجماعات المتطرفة، وتسوية أوضاع ما تبقى منها، بالأخص مع وجود نساء وأطفال لأعضاء التنظيمات، الأمر الذي يتطلب إعادة تأهيل «المتطرفين» من أجل دمجهم في المجتمعات القادمين منها، سواء كانوا ينتمون لمناطق الصراع أو أجانب ينتمون لدول أخرى، فيما تظل الإشكالية الأهم هي ضرورة إعادة بناء المناطق التي تدمرت نتيجة الحرب على الإرهاب، وتمكين الدول التي تعاني من التطرف من إيجاد سياسات تؤهلها لأن تواجه هذه المخاطر ذاتياً.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.