بقايا «داعش» في العراق وسوريا... الخطورة مستمرة

التنظيم شرع في تجديد نشاط خلاياه النائمة

قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
TT

بقايا «داعش» في العراق وسوريا... الخطورة مستمرة

قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)
قوات مكافحة الإرهاب العراقية ترفع علم «داعش» مقلوباً أمام مسجد النوري الذي دمره التنظيم في مدينة الموصل (أ.ف.ب)

صادف التاسع من ديسمبر (كانون الأول) ذكرى مرور عام على إعلان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، هزيمة تنظيم داعش في العراق، وتحرير آخر معقل له فيها، إلا أن ذلك لا يعني على أية حال التخلص من وجوده، إذ يحاول التنظيم بلا هوادة لملمة أشلائه. وقد أشارت عدة تقارير مؤخراً إلى أن تنظيم داعش قد شرع في تجديد نشاط خلاياه النائمة وجيوبه في سوريا والعراق، وبالأخص في المناطق الحدودية بينهما، كما حذر عدد من المسؤولين من بقايا «داعش» وتصرفاته وقد خفت وهجه.
أكد رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني، في مؤتمر صحافي، أن «داعش» لم ينتهِ، وأنه قد عاد إلى بعض المناطق بشكلٍ أسوأ من ذي قبل، وأن خطره بات أكثر من السابق، فيما قال قائد العمليات المشتركة للعمليات الخاصة في العراق وسوريا، الجنرال باتريك روبرسون، إن تنظيم داعش ينتهج محاولات مستميتة للقتال بعد أن تم طرد أعضائه من مناطق نفوذهم السابقة، التي كانت تحت اسم «الخلافة المزعومة»، بالأخص بعد أن نفدت مصادرهم التي كانت تعتمد من قبل على الضرائب والنفط.
يذكر أن «قوات سوريا الديمقراطية» سيطرت على بلدة هجين، التي تعد من أهم معاقل تنظيم داعش في منطقة دير الزور في سوريا، والتي اندلعت فيها في الفترة الأخيرة اشتباكات قوية بين التنظيم المتطرف و«قوات سوريا الديمقراطية»، فيما ذكرت هذه القوات أن التنظيم لا يزال يحوي ما يصل إلى 5 آلاف داعشي قرب الحدود مع العراق، الأمر الذي يثير من جديد إشكالية أن التغلب على الخلافة الداعشية أو «تنظيم الدولة» لا يعني التخلص من التطرف، واجتثاث مسبباته، إذ إن ذلك يستلزم استراتيجيات بعيدة المدى، خصوصاً مع تحول استراتيجيات التنظيم إلى ما يشبه «حرب العصابات»، مما يطيل أمد الصراع، ويجعله لا يعتمد على مناطق محدودة، كما في السابق، إذ لم يقر تنظيم داعش بهزيمته، واستمر في معاركه المستميتة، وفي سعيه لاستقطاب وتجنيد المتعاطفين معه، الأمر الذي سهل على التنظيم تفعيل هجماته، لا سيما في ظل انعدام وجود استقرار أمني وسلطة مركزية قوية.
وفي حين أشارت السلطات العراقية إلى شروع التنظيم في إعادة هيكلته، والاعتماد على غير العراقيين كقادة للتنظيم، بعد أن قتل عدد كبير من قادته خلال الغارات الجوية من قبل قوات التحالف، وتهجير وفرار آخرين منهم خارج المناطق التي كانت بحوزتهم من قبل، الأمر الذي دفع «داعش» للتركيز على عمليات القتل واختطاف الرهائن، سواء من المدنيين أو حتى المساجين، واستخدام المتفجرات، وإن واتت التنظيم الفرصة، بث كل ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل إثبات استمراريته، رغم الضغوطات التي تواجهه.

استراتيجيات دقيقة
في تقرير لرئيس الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يذكر أنتوني كوردسمان أن السلطات الأميركية بحاجة لوضع استراتيجيات وقرارات دقيقة في ما يخص مستقبل حروبه في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، إضافة إلى صراعه مع التطرف والإرهاب بصفة عامة، ومع إيران، حيث لا يوجد أي علامات لوجود «انتصار» في هذه المناطق، إلا إن تم التخلص من المخاطر الحالية على الصعيد العسكري، وكذلك من خلال قدرة الدول على إيجاد سياسات تمكنها من إفشاء السلام والاستقرار، والنهوض.
كما ذكر كوردسمان، في التقرير ذاته، أن التخلص من الخلافة الداعشية وحده ليس دليلاً على الفوز في الحرب ضد الإرهاب في كل من سوريا والعراق، إذ إنه من الصعب معرفة عدد أعضاء تنظيم داعش، ممن سيتمكنون من البقاء في سوريا والعراق، أو العدد الذي سوف يتمكن من الاستمرار في الصراع، سواء من خلال هذا التنظيم أو ولادة تنظيم جديد.
وقد أشار تقرير كوردسمان إلى أن العمليات الإرهابية المنفذة من قبل تنظيم داعش تشكل 30 في المائة فقط من العمليات الإرهابية في سوريا، خلال الفترة من 2000 إلى 2017، بينما الحرب الأهلية في سوريا اندلعت خارج المناطق التي استحوذ عليها «داعش»، وتحديداً في المناطق التي استحوذت عليها إيران و«حزب الله»، والقوات الداعمة لنظام بشار الأسد، إضافة إلى وجود عدد من «المتطرفين» ممن يمتلكون جذوراً أو انتماءً سابقاً لتنظيم «القاعدة»، الأمر الذي يعكس مدى تعقيد القدرة على تحقيق الاستقرار في مناطق الصراع، حيث لا يرتبط ذلك فقط بمحاربة تنظيم داعش عسكرياً.

تمكين العراق
وأكد كوردسمان أن تحقيق الاستقرار في العراق يعني أهمية وجود سلام بين الأعراق والمذاهب المختلفة، بما فيها الأكراد «المتطرفين» الذين لديهم روابط في مناطق في سوريا وتركيا، مشيراً إلى أن الهجمات الإرهابية في العراق من قبل تنظيم داعش تشكل 39 في المائة من إجمالي الهجمات لعام 2016، و43 في المائة من إجمالي هجمات عام 2017 فقط، وقد يكون ذلك نتيجة الغارات المكثفة من قبل قوات التحالف على التنظيم، مما أفقده قدرته على الهيمنة في العمليات الإرهابية، إذ مضى يلملم أشلاءه، ويحاول استعادة قوته، الأمر الذي يعني أن العمليات العسكرية لمجابهة تنظيم داعش وحدها لن تكفي لإيقاف التطرف والإرهاب، أو ظهور تنظيمات إرهابية أخرى، إذ لا بد من دعم الحكومة العراقية من أجل تمكينها من مواجهة المخاطر، سواء الآتية من دول أخرى تحاول التسبب في إرباك الأمن، أو ميليشيات تسعى لزعزعة الأمن الداخلي.
وهو أمر يشبه ما حدث مع تنظيم القاعدة في السابق، حيث توقع المحللون والخبراء في مجال مكافحة الإرهاب انتهاء التنظيم في أعقاب الإعلان عن وفاة مؤسسه أسامة بن لادن عام 2011، لا سيما أن تنظيم القاعدة كان في ذلك الوقت أكثر مركزية، وهو ما يختلف عن تنظيم داعش الذي تعمد عدم إبراز قادته في وسائل الإعلام، واستقطاب المتعاطفين، والتركيز على «الشعبوية»، أو استقبال الجنسيات والتوجهات المختلفة من البشر، مما أدى إلى تعدد جنسياته، لتضم حتى الأوروبيين منهم، وذلك يختلف عن تنظيم القاعدة الذي اتصف بتقنين أعضائه إلى عرب وأفغان، وعدم استقبال المتعاطفين مع التنظيم من الجنسيات الأخرى، وهو ما دأب على النجاح فيه.

دعم الذئاب
نجح تنظيم داعش منذ نشاطه الذي تبلور في عام 2014 في استغلال العالم الإلكتروني في بث عملياته، واستقطاب المتعاطفين من جنسيات مختلفة، وبأعداد كبيرة، الذين انضموا للتنظيم نتيجة افتتانهم بفكرة «الخلافة الداعشية»، ووجود رقعة جغرافية في سوريا والعراق تعد أشبه بملاذ لجميع «المتطرفين»، أو في ما بعد حين تمكن من استقطاب وتجنيد «الذئاب المنفردة» في كثير من الدول، دون الحاجة لإرسالهم إلى معسكرات تدريبية، أو التورط بتفشي أماكن وجودهم، حتى تغلب في قدراته التقنية على تنظيم القاعدة الذي ولد منه، واستمر في دعمه لفكرة «الذئاب المنفردة» خارج مناطق الصراع، حيث لا يستلزم ذلك بذل مجهود كبير، وإنما الاكتفاء بالدعم المعنوي، ومن ثم نسب عمليات إرهابية شعواء أشبه بالإجرامية لأشخاص مختلين عقلياً يقومون بطعن المارة أو دهسهم، والتسبب في بلبلة وإقلاق للمدنيين، وسيظل اسم التنظيم الداعشي مؤرخاً في قدرته على تجنيد أعداد كبيرة من المنضمين إليهم، وجعله دول العالم تتحالف من أجل التخلص من هذا التنظيم الذي تفشى حتى وصل إلى أجزاء بعيدة من العالم.
إلا أن استهداف قوات التحالف لتنظيم داعش قد تتيح الفرصة لنهوض تنظيمات أخرى، أبرزها تنظيم القاعدة. وقد طرح مركز راند للدراسات الاستراتيجية من جهته وجود سيناريو محتمل، يتمحور حول استغلال تنظيم القاعدة ما حدث مؤخراً من محاربة تنظيم داعش من أجل تقوية قدراته ولملمة صفوفه، ومن ثم استقطاب المزيد من المتعاطفين معه، لا سيما أنه يبدو التنظيم الأقل شراسة، إذا ما قورن بـ«داعش»، الأمر الذي قد يمكنه من الظهور بقالب أكثر عقلانية وخيار أفضل للمتعاطفين.

داعش والقاعدة
حرص تنظيم القاعدة منذ بداية عهده على استخدام سياسة «كسب القلوب والأفئدة» في تعامله مع المدنيين، بل وسعى لإعادة البناء في عدة مناطق كان يستحوذ عليها، مثل ما حدث في السابق في العراق، قبل أن يسيطر تنظيم داعش على تلك المناطق، الأمر الذي قد يقنع البعض، خصوصاً أن «القاعدة» كان حريصاً منذ البداية على أن يوضح أن حربه هي على الغرب فقط، فيما قام «داعش» بشن هجمات شرسة على كل من يخالفه، بما في ذلك المدنيين المسلمين الذين قام بتكفيرهم، وتطبيق العقوبات عليهم وإبادتهم، وقد تفشى في عهد التنظيم الداعشي ما هو أشبه بظاهرة المجازر الجماعية، وستقوم منظمة الأمم المتحدة بإجراء تحقيقات في مطلع 2019 حول الانتهاكات التي ارتكبها «داعش» في العراق، حيث تم الكشف عن ما يزيد على 200 مقبرة جماعية، تضم أكثر من 12 ألف جثة، حيث تبنى مجلس الأمن في عام 2017 قراراً بالإجماع من أجل التمهيد لتحقيق يهدف إلى محاكمة عناصر تنظيم داعش عن الجرائم التي تم ارتكابها.
كل ذلك يؤكد ضرورة وضع آليات لما بعد تفكيك الجماعات المتطرفة، وتسوية أوضاع ما تبقى منها، بالأخص مع وجود نساء وأطفال لأعضاء التنظيمات، الأمر الذي يتطلب إعادة تأهيل «المتطرفين» من أجل دمجهم في المجتمعات القادمين منها، سواء كانوا ينتمون لمناطق الصراع أو أجانب ينتمون لدول أخرى، فيما تظل الإشكالية الأهم هي ضرورة إعادة بناء المناطق التي تدمرت نتيجة الحرب على الإرهاب، وتمكين الدول التي تعاني من التطرف من إيجاد سياسات تؤهلها لأن تواجه هذه المخاطر ذاتياً.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟