أميمة الخميس: السرد أرض أنثوية بامتياز

فازت الكاتبة السعودية أميمة الخميس قبل أيام بجائزة «نجيب محفوظ» للأدب، التي تمنحها سنوياً الجامعة الأميركية بالقاهرة في يوم ميلاد صاحب نوبل؛ في الـ11 من هذا الشهر، وذلك عن روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق»، الصادرة عن «دار الساقي»، وبذلك تكون أول سعودية تحصل على هذه الجائزة.
ولدت أميمة الخميس في الرياض لأسرة أدبية، ودرست الأدب العربي في جامعة الملك سعود، واللغة الإنجليزية في جامعة واشنطن. وكانت أول أعمالها الروائية «البحريات»، ثم «الوارفة» التي ترشحت للقائمة الطويلة للبوكر العربية 2010. وثالث رواياتها «زيارة سجى».
وهنا حوار معها عن روايتها الفائزة، وتجربتها الروائية:
> بداية... ماذا تعني لك جائزة «نجيب محفوظ» للأدب؟
- تعني لي الكثير، خصوصاً أنني أول سعودية تحصل عليها، كما أن تجربة المرأة السعودية كانت متوارية، ولا ينظر لها بكثير من الاهتمام، وأن تأتي هذه الجائزة من لجنة مرموقة على مستوى العالم العربي فهو أمر عظيم، لا سيما علاقتي بنجيب محفوظ، كأب روحي لي بأعماله التي رافقتني من بواكير رحلتي إلى عالم الأدب، هو «سيزيف» الرواية الذي ظل حاملاً إياها إلى القمة، ولم يتوقف.
> من المعروف أنك بدأت بالشعر... كيف انتقلت إلى الرواية؟
- من بواكير الطفولة، كان الهاجس الأدبي حاضراً بقوة؛ بدأت تجربتي ببعض الكلمات والمفردات والجمل؛ اكتشفت لاحقاً أنها ما يسمى «المغامرة الإبداعية»، بدأت بالشعر لكنني وجدتها تجربة ثقيلة في ظل مجتمع محافظ أن تمارس امرأة البوح، هذه التجربة جعلتني أجفل منها، فتجاوزتها لمرحلة السرد، كأن السرد عملية احتيال، لأني أضع على ألسن الشخوص والأحداث ما أود أن أقوله. أعتبر السرد أرضاً أنثوية بامتياز.
> عدت إلى التاريخ في روايتك الفائزة (مسرى الغرانيق)... ما الضرورة التي دفعتك لذلك؟
- كتبت 3 روايات من قبل لم تكن تاريخية تماماً، لكن «مسرى الغرانيق» أول رواية تاريخية لي، وقد تطلب ذلك جهداً مضاعفاً، لأنك تحتاجين للتوثيق، ويرادفها الكتابة الأدبية، هذا الجهد المركب أخذ مني أربع سنوات. وكانت تحضرني دائماً مقولة الجاحظ: «اكتب كأنك تكتب لأعدائك». اكتشفت أننا في عالمنا العربي نعيش داخل دائرة تاريخية لا نستطيع أن نكسرها ونخرج منها، فمن بواكير القرن الرابع الهجري - التاسع الميلادي، الذي تدور فيه أحداث الرواية، كانت مرحلة تسمى «زبدة الحقب»، التي اكتملت بها التجربة الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي آنذاك؛ التيارات العقلانية كانت متنوعة، مثل: المعتزلة وإخوان الصفا، ونضوج واكتمال المذاهب الفكرية الأربعة التي أتت نتيجة عملية فكرية كبيرة وكم هائل من الترجمات وكتب الفلاسفة الإغريق والسريان، كل هذا أثرى الفضاء الفكري لتلك المرحلة، ورفع أسقف النقاش، وبدأ ذلك يؤثر على المنتج الأدبي، وبالتالي أسهم العرب في نهضة الحضارة الأوروبية، وبدأ عندي السؤال الذي تحمله الرواية: أين ذهب هذا الزخم والقوة التي كانت تميز الحضارة العربية؟
> ماذا قصدت بالغرانيق؟
- الغرنوق هو طائر مائي جميل يأخذ بعداً خيالياً وأسطورياً، وهو رمز للخصب، وله رمز إيجابي جميل في ثقافة الصحراء. وقد أردت هذا العنوان المسجى كعناوين الكتب في تلك الحقبة. وأرمز بالغرانيق لحملة العقل وفضاءات الأسئلة التي كانت تتنقل في مدن العقيق، ورمزية اللون الأحمر تشير إلى تلك الحقبة التي اختلط فيها الغضب والدماء، حين كانت المدن العربية آنذاك تغلي بأسئلة العقل.
> «مزيد الحنفي» بطل الرواية انطلق من منطقة اليمامة وجاب الحواضر العربية المزدهرة من بغداد إلى القدس إلى القاهرة الفاطمية وصولاً إلى الأندلس... عن أي حقيقة كان يبحث؟
- الحنفي يتنسب لقبيلة بني حنيفة، وهو شخصية متخيلة. كانت رحلته رحلة العقل الذي لا يكتفي بالأجوبة الجاهزة. في كل ثقافة أسئلة تفرضها الثقافة السلطوية، وغالباً ما يكسر المفكر والفيلسوف والمبدع نمط هذه الأسئلة الجاهزة، ويخوض في هموم المعرفة؛ هذا كان الأمر الذي يستحوذ عليه بداية من رحلته من مدينة نجد قبل الجزيرة العربية، تلك المدينة المغفلة تاريخياً كانت ثرية بالتجربة الإبداعية؛ خرج منها جميع شعراء المعلقات، وجميع شعراء العصر الأموي، وكثير من شعراء العصر العباسي، لكنها همشت وأغفلت، وقد حاولت أن أسترجع هذه المنطقة.
الأمر الآخر كان في تنقله؛ لم يكن يكتفي بهذه الأجوبة الجاهزة، بل حاول البحث عن جوابه الخاص، لا سيما أنه كان عضواً في جماعة سرية مهمتها توزيع كتب الفلاسفة على العالم العربي، بحيث لا تندثر هذه التجربة.
> هل تعتقدين أنه بتراجع الفلسفة الآن تراجع الإبداع؟
- الفلسفة هي الأب الروحي للعقل، هي التي صنعته، الشرارة التي انطلقت منها الشرارة العلمية في العصر الحديث. باختصار، هي السؤال، ومحاولة تفسير الكون، وعدم الاكتفاء بالتفسير الأحادي، بل مغامرة متعددة لا متناهية. قبل ألف عام من الآن، كان هناك تبرعم لأسئلة فلسفية فكرية هائلة، الكندي وابن رشد، ومن غير العرب ابن سينا والفارابي، ولكن ما زلنا إلى الآن نعاني تغييب الفلسفة.
> كان هناك حضور لشخصيات تاريخية حقيقية في الرواية؟
- نعم بالفعل. كان ابن الهيثم حاضراً في الرواية، والخليفة الواثق بالله، والحاكم بأمر الله الفاطمي كان حاضراً؛ كانت مراوحة بين التاريخي الحقيقي والخيال الروائي.
> وماذا عن بقية شخوص «مسرى الغرانيق في مدن العقيق»؟
- «أناهيد الفارسية» كانت جارية في بغداد، وكان لها حضور في حياة مزيد الحنفي، واستلبت عقله، وكان لها دور في سوقه إلى نهاية عجائبية. شخصية «حمدونة المرية» تعكس المرأة القوية العربية التاجرة التي تفرض نفسها بقوة، أما «عمرو القيسي» فهو الفيلسوف الذي غادر بغداد عندما حوصرت تجربته، وانتقل إلى القدس، وحاول أن يؤسس لتجربة عقلانية، لكنها لم تجد طريقها إلى النور.
> أحياناً تتمرد الشخصية الروائية على مبتكرها... هل صادفت ذلك مع إحدى شخصياتك؟
- لم أصادف ذلك في «مسرى الغرانيق»، لكن في رواية «زيارة سجى»، كنت أخطط لمسار معين في الرواية، ولكن في لحظة ما وجدت الشخصيات تأبى وترفض أن تدخل إلى النص؛ أصبحت الشخصيات تكتب سيرتها الخاصة. «مسرى الغرانيق» كانت تكتب بسلاسة؛ كنت أغرف من المادة التاريخية، وأسكب على الورق، كانت الشخصيات أكثر مطاوعة وشوقاً إلى الكلام.
> ماذا عن السبع وصايا التي حملها مزيد الحنفي؟
- «السبع وصايا» كانت جزءاً من تجربة انضمامه لجماعة الغرانيق السرية العاملة تحت الأرض، لأنها كانت محاصرة من قبل السلطات النصوصية في تلك الفترة التي حاولت فيها الحفاظ على جذوة الحضور الفكري والعربي، لكن المفارقة أن الوصية السابعة كانت تطلب من مزيد الحنفي أن يحرق هذه الوصايا، وكأنه يتحدى كل التعاليم، لأن تجربة الإنسان الفكرية أكبر من التعاليم، وأنه سيكون في حالة تبدل وتغير مستمر، كما قال فيثاغورس: «الشيء الوحيد الثابت هو التبدل المستمر».
> في ورش الكتابة الأدبية يقولون: «اكتب ما تعرف... اكتب عن نفسك»... هل حدث ذلك معك في روايتك الأولى «البحريات»؟
- الرواية الأولى دائماً تحمل جزءاً كبيراً من الكاتب، لكن عندما تنضج أدواتك السردية، تستقلين وتنفصلين عن تجربتك الذاتية. وهذا حدث معي في رواية «البحريات».
> برأيك، من هو المبدع؟
- هو الذي يؤمن بأن الجمال فيه ترياق لسموم هذا العالم؛ الإبداع والفنون هي التي تأخذنا من البدائي والمتوحش بداخل الإنسان نحو الجميل والسامي والخالد، مهمة الإبداع أن يحلق نحو الإنساني، وليس أن يكون محملاً بآيديولوجيات معينة.
> هناك الآن حضور قوي للإبداع الخليجي... ما سر ذلك؟
- أعتقد أن هناك تجربة تستحق الالتفات لها، وقد استطاعت أن تثبت حضورها على المستوى العربي والعالمي، وأن الخليج لم يعد الخليج المستهلك للثقافة، بل المنتج لها. التعليم عندنا في السعودية عمره 50 عاماً فقط، لكن المرأة السعودية حققت ذاتها، وأصبحت تكتب وتنتج تجارب أدبية مهمة.
> ولكن هل أخذت الكاتبة السعودية حقها أدبياً ونقدياً؟
- هناك عملية احتواء بالفعل، ولكن الكاتبة في العالم العربي عليها أن تخوض معركتها وحيدة؛ لن يعطيها أحد القلم الذهبي لتكتب.
> قلت عن نجيب محفوظ «كبيرنا الذي علمنا السحر»... من هي ملهمتك من الكاتبات؟
- أعشق إيزابيل الليندي، فالأدب اللاتيني هو أدب رائع مدهش، فيه حرارة السامبا، وبه أشواق غامضة للغابات الأمازونية. تجربة كسرت نمطية ومركزية الثقافة الأوروبية، وأدخلتنا لعوالم مدهشة. أعتبر الليندي من أمهاتي الروحيات. أيضاً أنا مأخوذة بلغة غادة السمان، ودورها كان كبيراً في إثراء تجربتي. وبشكل عام، أنا قارئة نهمة (دودة كتب)، ولدينا نادي كتاب مع صديقات حميمات نناقش كتابين في الشهر.
> برأيك، من هو الحاضن الأول للإبداع... هل هي الأسرة أم المجتمع؟
- أعتبر الأسرة هي الحاضن الأول، ولها الفضل الكبير في تكويني، وأيضاً الفضاء العام بالسعودية الآن مشجع تماماً، لا سيما مع إعلان «رؤية 2030»، فالثقافة أصبحت أحد الركائز والأعمدة التي تقوم عليها تنمية الإنسان. وهذه الرؤية تؤمن بأن الفنون والآداب يمكن أن تخلص الإنسان من كل التوحش والظلمة بداخله. الثقافة ترياق نحمي بها الأجيال القادمة من سموم التعصب.
> كيف تمضين يومك؟
- كنت أعمل مديرة الإعلام التربوي في وزارة التربية والتعليم، لكن توقفت عن العمل، وعرفت أن الكتابة لا بد أن تكون سيدة البلاط، وألا يشاركها شيء. أصبحت ألتزم بمعسكر الاستيقاظ في الصباح المبكر؛ أعطي الكتابة نشاطي الصباحي وتوهجي، ووقتها مقدس. أما باقي اليوم، فيتوزع بين العائلة والقراءة. وأحب ممارسة الرياضة الصباحية قبل الكتابة؛ لا بد أن تمنحي الكتابة وقتاً كي تعطيك.
> ما الخطوة المقبلة في مسيرة أميمة الخميس الأدبية؟
- بين يدي عمل تاريخي، لكنه مجرد خطوط عريضة وأفكار أعطيها الوقت والمساحة لتنضج على مهل.