«دبك»... عرض بصري وسمعي لتوثيق التعايش بالموسيقى

تنظّمه مفوضية شؤون اللاجئين بالتعاون مع جمعية «ريد أوك»

«دبك» عرض بصري وسمعي من تنظيم مفوضية اللاجئين في لبنان
«دبك» عرض بصري وسمعي من تنظيم مفوضية اللاجئين في لبنان
TT

«دبك»... عرض بصري وسمعي لتوثيق التعايش بالموسيقى

«دبك» عرض بصري وسمعي من تنظيم مفوضية اللاجئين في لبنان
«دبك» عرض بصري وسمعي من تنظيم مفوضية اللاجئين في لبنان

تعد الدبكة اللبنانية واحدة من فنون الرقص الشعبية المشهورة في لبنان وبلاد الشام عامة. وهي تندرج على لائحة الفنون التراثية التي لا تزال شريحة لا يستهان بها من الشباب اللبناني يعيرها اهتمامه وينشرها في الحفلات والمناسبات التي يحضرها. وانطلاقاً من أهمية هذا الفن، اجتمع أربعة شباب لبنانيين وسوريين ليؤلفوا معاً فريقاً غنائياً كتب ولحّن 7 أغان تحت عنوان «دبك». وسيطلون سوياً في حفل موسيقي في 18 الجاري في (غراند فاكتوري) في بيروت ليقدما عرضا بصريا وسمعيا لتلك الأغاني وللمساهمة في تثبيت الدبكة في تراثنا الفني. ويأتي هذا الحفل الذي تنظمه مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان بالتعاون مع جمعية (ريد أوك) للثّقافة والفنون كرسالة سلام تنثر التعايش بين السوريين واللبنانيين من دون أي تفرقة. «إن الهدف الرئيس من هذه المبادرة هو جمع الشمل بين اللبنانيين والسوريين في عمل موسيقي موحد». تقول نادين أبو زكي المشرفة على الحدث وتضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «هذا العمل الغنائي سيقدم مباشرة على المسرح، كما سيُوزّع ألبوم غنائي مجانا على رواد الحفل، للتّشجيع على التحاور بين الطرفين من ناحية، وللتّأكيد على رسالة السّلام التي تحقّقها الموسيقى بشكل عام، وستكون أبوابنا مفتوحة أمام الجميع مجاناً».
ويتألف الفريق الغنائي من أربعة شبان وهم سامر صانم الدهر، ووسيم بو ملحم، وخالد عمران، ووائل قديح. كما يشاركهم تنفيذ العرض جوان باز وهي مصممة غرافيكية وتعمل في مجال التصوير والإخراج. ومهمتها في هذا الحدث هي تصميم رقصات دبكة تتناغم بشكلها ومضمونها مع الفن الحديث المعاصر ستُعرض في الحفل كخلفية تصويرية.
«هي رسالة نحملها إلى الجميع ولا سيما من الشباب في أعمارنا لتقبل الغير وتوثيق التعايش بين المجتمعات». يقول وائل قديح أحد أعضاء هذا الفريق الفني في حديث لـ«الشرق الأوسط». ويضيف: «نحضر لهذا الحدث منذ نحو ستة أشهر واخترنا رقصة الدبكة عنوانا لها لأنها من الفنون الشعبية المعروفة في البلدين سوريا ولبنان». ووائل الذي يقف وراء الفكرة يعد من أهم مغني الراب و«الهيب هوب» في الشرق الأوسط، وانتقل إلى إنتاج الموسيقى الإلكترونية وعرضها في حفلات طاولت مسارح متحف اللوفر في أبوظبي ومركزي «فيلارموني» و«بومبيدو» في باريس.
وفي أغانٍ ذات موسيقى حديثة استوحاها الفنانون الأربعة من الدبكة ننتقل إلى عالم الفن الإلكتروني المعاصر والرائج بين شباب اليوم، فيغوص سامعها في أجواء فنون تمزج ما بين الأصالة والحداثة. وكما صوت الناي والبزق والدف والطبلة وغيرها من آلات الإيقاع الشرقية المعروفة في بلادنا، سنسافر في نوتات موسيقية غربية مشبعة بموسيقى الجاز. «يا عرب» و«سقالله» و«يا ناس» هي ثلاث أغنيات من أصل سبع اختارها الفنانون الشباب من سوريا ولبنان ليتضمنها ألبوم «دبك». وسيرافقها على المسرح عرض بصري بإشراف جوان باز المعروفة بأعمال التصوير والطباعة والصور المتحركة التي تعالج من خلالها مواضيع تتعلق بالفن والذاكرة.
«لقد أعدنا التوزيع الموسيقي لأغنيات كتبناها بأنفسنا يرافقها إيقاع الدبكة المعروفة. واخترناها من بلادنا بغض النظر عما إذا هي معروفة أو العكس، ولكنها تتماشى مع العنوان العريض لمبادرتنا وهي العودة إلى تراثنا الفني من خلال الدبكة». يوضح وائل قديح في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط». أما الفنانون الآخرون كالسوري سامر صانم الدهر (29 عاماً) فعمل على إدخال نوع موسيقي جديد على العمل معروف به تحت عنوان «الإلكترو طرب». فيما اللبناني وسيم بو ملهم يلوّن هذه الأعمال الفنية كعازف أساسي على الغيتار وهو موسيقي ناشط على الساحة، منذ أكثر من عشر سنوات وشارك مع فرقته «who killed bruce lee» في أكثر من 200 مهرجان في أوروبا. أما لاعب الـ«باس» خالد عمران مؤسس فرقة «طنجرة ضغط» الموسيقية السورية، فقد انتقل إلى العيش في لبنان إثر اندلاع الحرب في بلده الأم، وتعاون منذ ذلك الوقت مع أهم الفنانين اللبنانيين والعالميين.
والمعروف أن الدبكة هي رقصة فولكلورية شعبية منتشرة في بلاد الشام، وتمثل التراث الفلكلوري لتلك البلدان، تمارس غالباً في المهرجانات والاحتفالات والأعراس. وتتكون فرقة الدبكة من مجموعة تزيد عادة على عشرة أشخاص يُدعَون دبيكة وعازف اليرغول أو الشبابة والطبل. والدبكة هي رقصة شرقية جماعية معروفة في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن والعراق وكذلك شمال السعودية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)