إرهاب إيران في البلقان

طهران تنشئ محطات استخباراتية في البوسنة وألبانيا وصربيا لخدمة مخططاتها

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
TT

إرهاب إيران في البلقان

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)

إلى أين يمضي الإرهاب الإيراني حول العالم؟ تساؤل يحتاج لإجابات معمقة، لا سيما أن الجبهات الإرهابية الإيرانية التي تظهر للعلن هي أقل، في واقع الحال، من تلك التي ترتب لها طهران في السر، وفي الحالين يتعاظم الخطر الإيراني على نحو غير مسبوق. بدايةً يعرف القاصي والداني أبعاد الشر الإيراني في الخليج العربي، وبقية دول الشرق الأوسط، الذي تزخمه أطراف ميليشياوية تتبع إيران آيديولوجياً؛ تبدأ من الحوثيين في اليمن، مروراً بالحشد الشعبي في العراق، و«حزب الله» في جنوب لبنان، نهاية بـ«حماس» في قطاع غزة.
ولعلَّ آخر الأحاديث عن خطط إيران الإرهابية، ذاك المتصل بما تقوم به في منطقة دول البلقان، وكيف تسعى إلى تحويلها لمنطقة لوجيستية تنطلق منها عملياتها الإرهابية في عموم القارة الأوروبية... وهناك تساؤلات لا تتوقف، بعد أن باتت أوروبا تغطُّ في نوم عميق تجاه المخططات الجهنمية الإيرانية، بل وتمضي في طريق معاكس تماماً، أي أنه بدلاً من عقاب إيران على إرهابها الظاهر والخفي، تبدو كمن يدعمها في سيرتها ومسيرتها العنيفة، وذلك من خلال الحديث عن آلية اقتصادية لمساعدة الإيرانيين على مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية، وأن يكون مقر تلك الآلية فرنسا، وتُدار بواسطة ألماني الجنسية، في ازدواجية أخلاقية واضحة وفاضحة.
المتابع للتحركات السياسية والدبلوماسية الإيرانية يمكنه أن يرصد تكالباً واضحاً من طهران لجهة التعاون مع دول البلقان؛ فقد أكد حسن روحاني، الرئيس الإيراني، على أهمية تنمية العلاقات مع دول البلقان، لا سيما ألبانيا، الأمر الذي اعتبره يصبُّ في مصلحة شعوب المنطقتين، حسب تصريحه، غداة استقباله السفير الألباني الجديد غير المقيم في طهران غنت غاجلي، وقد لفت روحاني، كعادة إيران في استخدام ما لديها من فوائض أموال لشراء المزيد من الولاءات، إلى وجود فرص كبيرة للتعاون في مختلف القطاعات التجارية والاقتصادية لدى البلدين.
الأمر عينه تكرَّر عند استقبال روحاني نظيره الصربي توميسلاف نيكوليج، حين زار إيران زيارة غير رسمية، إذ أشار إلى أن طهران وبلغراد لديهما إمكانيات واسعة ويمكن الاستفادة من هذه الإمكانيات لتوسيع التعاون وتحقيق مصالح الشعبين، وفي اللقاء نفسه ارتدى روحاني ثياب الحملان، حين أشار إلى انتشار العنف والإرهاب في المنطقة وحول العالم، وأنه على مقاومي الإرهاب أن يتحدوا من أجل مكافحته.
وفي مارس (آذار) الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة في أربع دول بلقانية استهلَّها من صربيا، ثم بلغاريا وكرواتيا، واختتمها بالبوسنة والهرسك، هدفت ولا شك إلى كسر العزلة المفروضة على إيران، وكسب جانب من التحالفات الشرق أوروبية لصالح إيران، إلى جانب إظهار إيران في موقع وموضع الضحية حول العالم، غير أن التساؤل الحقيق بنا طرحه: ما الهدف الحقيقي من السعي الإيراني في دول البلقان؟
قبل بضعة أيام، كانت مصادر استخباراتية أميركية مطلعة تكشف لموقع «ذي غلوب بوست» الشهير النقاب عن قيام النظام الإيراني بتأسيس قاعدة استخباراتية لعملياته الإرهابية في دول البلقان، بعد أن فشلت جهوده السابقة في إنشاء محطات عملياتية، وبيوت آمنة، لتدبير هجمات إرهابية من داخل دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن بعضها قد تم الكشف عنه، كما في يونيو (حزيران) الماضي، عندما فشلت خطة لرجالات وعملاء الحرس الثوري الإيراني، بقيادة أحدهم، أسد الله أسدي، المتنكر في زي دبلوماسي في ألمانيا، بمحاولة الاعتداء بالمتفجرات على تجمُّع للمعارضة الإيرانية في فرنسا، ما أدى لاحقاً لاعتقال عملاء إيرانيين في كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك والسويد والنرويج.

عملاء في بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو
وتشير الاستخبارات الأميركية أخيراً إلى أن الإيرانيين آخذون في نشر عملائهم سراً في دول مثل بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو وغيرها، لتكون قواعد لوجيستية للتخطيط لعملياته الإرهابية... لكن لماذا دول البلقان وأي مزايا - ولو من ناحية سلبية - تتوفر فيها لخدمة المخططات الإيرانية المستقبلية؟
يمكن القطع بداية بأن الوجود الإيراني في تلك المنطقة، وإلى درجة بعيدة، كان ضئيلاً، ولم يأخذ تركيزاً كافياً من طهران، ولهذا فإن هناك فرصاً واضحة لبلورة مسارات دبلوماسية جديدة قريبة من أوروبا، وإن على الأطراف منها.
الأمر الآخر الذي يمكن رصده بسهولة هو أن دول البلقان يمكن النظر إليها بوصفها منصات «لوجيستية» هادئة وبعيدة عن أعين وكالات الأمن والاستخبارات العالمية، عطفاً على ذلك فإن الأحوال السياسية المضطربة في داخلها، والتصارع بل والتنازع بين مكوناتها الإثنية والعرقية، يفتح مجالاً واسعاً للاختراق الآيديولوجي أو الدوغمائي معاً ودفعة واحدة، وهذه فرصة ذهبية لإيران التي خبرت طويلاً اللعب على المتناقضات من الناحيتين السابقتين.
ولعلَّه من البديهيات القول إنه حينما ينتشر ويعم الاضطراب والقلاقل السياسية، فإن الفساد الاقتصادي يستشري بصورة كبيرة، وفي ظل مثل هذا الفساد يمكن لأموال الملالي أن تفعل ما تريد من خلال شراء النفوس والذمم، وجعل أطراف أوروبا الشرقية مرتعاً للجريمة والإرهاب الإيرانيين المنظمين.
وإضافة إلى ما تقدَّم، فإن الموقع الجغرافي لمنطقة البلقان يقدم لإيران نقطة عبور إلى وسط وغرب أوروبا، ويبدو أن طهران كانت تعمل وفي هدوء على جعل تلك المنطقة مسكونة بأشباحها عبر العقود الثلاثة الماضية، وكأنها كانت ترتِّب أوراقها في غفلة من أوروبا ووكالات استخباراتها، تلك التي تراخت في تقدير الموقف في البلقان، بينما نجحت إيران، ومن أسف، في تحديد «أضعف حلقة» في حلقات الأمن الأوروبي لاختراق القارة العجوز... هل من أمثلة في السابق القريب توضح لنا حقيقة ما قامت به إيران في تلك المنطقة قبلاً؟
ربما يتذكر البعض ما جرى في عام 2012 في بورغاس ببلغاريا عندما نفَّذ أحد عناصر «حزب الله» هجوماً انتحارياً على حافلة كانت تقل سياحاً، مما أسفر عن مقتل 5 وسائق الحافلة البلغاري، وإصابة 32 آخرين، وقد كانت الحافلة تقل سياحاً إسرائيليين في مطار المدينة، وأعلنت السلطات البلغارية لاحقاً، في 18 يوليو (تموز) 2014، أن الرجل الذي فجَّر الحافلة هو محمد حسن الحسني، المنتمي إلى «حزب الله»، أي إحدى أذرع إيران للقتل والإرهاب حول العالم.
والشاهد أن الأيادي الإيرانية الخبيثة لا تكتفي باستخدام عملائها بشكل مباشر، وإنما أضحت قادرة على بلورة شبكات إرهابية موالية من أبناء المنطقة الأصليين، وهذا ما كشف عنه هجوم عام 2011 على السفارة الأميركية في البوسنة، الذي نفذه الصربي ميفليد غاسا روفيتش، بمساعدة شركائه الذين كانوا يتجمعون فيما عُرِف بـ«قرية الجهاديين» البوسنية في غوارينا موكا، ما أظهر نطاق ومدى وصول الشبكات الإيرانية على الأرض، وكذلك روابطهم بمختلف المجموعات المتشددة في البوسنة.
والمقطوع به أن أعمال إيران الإرهابية، لا سيما مطاردتها للمعارضين لنظامها القمعي في أوروبا، لم تكن لتغيب عن أعين الفارين من جحيم الملالي، ولهذا كشف مصدر في مجلس المقاومة المعارض الإيراني في باريس عن أن استخبارات النظام الإيراني تتعقب عناصر «مجاهدي خلق»، الجناح العسكري للمكسل في ألبانيا، وأن إيران قد قامت بتأسيس وحدة استخباراتية خاصة داخل سفارتها في العاصمة تيرانا للتجسس على أعضاء التنظيم المرحَّلين من العراق.
الشاهد أن هناك تقريراً استخباراتياً شهيراً قد صدر عام 2013، ولفت النظر إلى ما تقوم به أطراف إيران، لا سيما «حزب الله» في أوروبا عامة، والبلقان خاصة، وقد كانت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية بنوع خاص وراءه، غير أن الكثيرين لم يلتفتوا إليه في وقتها، فقد كان العالم برمته، لا سيما الشرق الأوسط، منشغلاً إلى درجة القلق والخوف القاتلين في مواجهة ومجابهة موجة الأصولية المتصاعدة، التي نجمت عما أُطلق عليه «الربيع العربي»، الذي لم يكن سوى شتاء أصولي جرَّ المرار والدمار على المنطقة وسكانها.
ولاحقاً بعد انتهاء الحرب وسيناريوهات التقسيم، عرفت إيران جيداً كيف تكسب ولاءات كثير من الشركاء المحليين، الأمر الذي أكسبها نفوذاً في مختلف قطاعات المجتمع، ووكالات الأمن وإنفاذ القانون المحلية، التي لا تزال مستعدة للتعامل مع إيران، ووصل الأمر إلى حد تصريح الرئيس الصربي نيكوليج، عند لقائه بحسن روحاني بالقول: «إن مقاومة إيران الصلبة في زمن العقوبات والانتصار في المفاوضات النووية يدلان على قوة الثقافة وحجم هذا البلد الكبير»، في تقريظ لا تخطئه العين للسياسات الإيرانية، خصوصاً الموجَّهة من قبلها للولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها في المنطقة، ولإسرائيل بنوع خاص... مَن هو وكيل الإرهاب الإيراني الآن في دول البلقان؟ بلا شك يبقى «حزب الله» هو الوكيل الأول والرئيس، ويقوم بالدور ذاته الذي يقوم به في أميركا اللاتينية، ويسافر نشطاء الحزب إلى تلك المنطقة بجوازات سفر من بلدان غربية، حصل عليها أصحابها عادة من خلال عمليات لجوء سياسي مغشوشة وخداع للسلطات الأوروبية، الأمر الذي يتيح لهم الآن حرية أكبر في التنقل وتفادي شكوك السلطات المحلية، فعلى سبيل المثال استخدم إرهابيو حادث بلغاريا جوازات سفر أسترالية وكندية، وأخرى لبعض دول أوروبا الغربية.
وعودة إلى السؤال المتقدم: لماذا الآن يتم الكشف ومن جديد عن تلك العلاقة؟
يبدو أنه الخوف الأوروبي الذي بات يدرك اقتراب صحوة الخلايا الإيرانية النائمة في الداخل الأوروبي، وذلك بسبب اقتراب زمن الافتراق الإيراني - الأوروبي... كيف ذلك؟ خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، التي نُوقِشَت فيها الأزمة الصاروخية الإيرانية، بات جلياً أن الاتحاد الأوروبي وعلى لسان مندوبه قد بدأ في توجيه الاتهامات لإيران بشكل مباشر، التي تعمل على تهديد أوروبا من جانبين؛ فمن الخارج تبقى الصواريخ الإيرانية التي تطال جنوب القارة الأوروبية، وهناك مرجعيات أخرى تشير إلى أنها تطال قلب أوروبا سواء في الوقت الحالي أو عما قريب.
تقرير «صوت أوروبا» يؤكد على أن «حزب الله»، ومن خلال الدعم المالي واللوجيستي الإيراني، تمكَّن من زراعة خلايا في كثير من دول البلقان، لا سيما بلغاريا والبوسنة، إلا أن ذلك لم يحظ بالاهتمام الإعلامي، وبحسب مصادر استخباراتية للإذاعة التي تمثل «صوت أوروبا»، فإن بعض عناصر «حزب الله» يعملون في فارنا والعاصمة صوفيا في بلغاريا، وبعضهم عبروا الحدود مع صربيا كسياح وعملوا على تشكيل الخلايا هناك.
يكشف أحد أعضاء «حزب الله» الموجودين في بلغاريا، للموقع الإعلامي الأوروبي، حقيقة وجود خلايا لـ«حزب الله» في الداخل الأوروبي، إذ يشير إلى أن الحزب نجح في تكوين تلك الخلايا من خلال مواطنين لبنانيين يتم إرسالهم للدراسة أو بصفتهم رجال أعمال، حيث يتلقون مساعدات مالية من «حزب الله» لاستكمال تعليمهم والمساعدة في تجارتهم، وأيضاً فإن بعضهم سبق أن تلقوا تدريباً عسكرياً قبل وصولهم إلى بلغاريا، في حين أن آخرين منهم تزوجوا بلغاريات واندمجوا في المجتمع، والأكثر إثارة أنه بعد الأحداث في سوريا، وقبلها العراق، تم تجنيد عناصر سورية وعراقية للانضمام إلى شبكتهم في البلقان من قبل «حزب الله» وإيران... هل أخفقت أجهزة الأمن الأوروبية في الاستعداد للأسوأ الإيراني الذي لم يأتِ بعدُ على أراضيهم؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، فأوروبا التي انشغلت الأعوام الماضية في مواجهة اليمين القومي المتطرف المتصاعد في ألمانيا وهولندا، وفي إيطاليا والنمسا، وفي المجر وأخيراً في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا، قد عطلت النظر في عوامل، مثل تآكل الثقة بين أصحاب المصلحة المحليين، والافتقار إلى الاهتمام الدولي، والمشكلات المتعلقة بتقاسم المعلومات الاستخبارية في الوقت المناسب، وهذه جميعاً وفَّرت للإيرانيين أجواء مريحة، جعلت الرئيس روحاني يهدد أخيراً بأنه حال التضييق على إيران فإن «تسونامي» من المخدرات والعنف يمكن أن يلفَّ العالم بأكمله، ومن قبله وأكثر من مرة أشار جنرالات «فيلق القدس» (الجناح الأكثر دموية في الحرس الثوري الإيراني) إلى وجود خطط جاهزة للانتقام حال تعرضت إيران لعمليات عسكرية من قبل الولايات المتحدة، وبالضرورة أيضاً سيكون لأوروبا نصيب من هذا الإرهاب.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.