إرهاب إيران في البلقان

طهران تنشئ محطات استخباراتية في البوسنة وألبانيا وصربيا لخدمة مخططاتها

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
TT

إرهاب إيران في البلقان

عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)
عناصر من «الباسيج» الايراني في استعراض قوة أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران (أ.ف.ب)

إلى أين يمضي الإرهاب الإيراني حول العالم؟ تساؤل يحتاج لإجابات معمقة، لا سيما أن الجبهات الإرهابية الإيرانية التي تظهر للعلن هي أقل، في واقع الحال، من تلك التي ترتب لها طهران في السر، وفي الحالين يتعاظم الخطر الإيراني على نحو غير مسبوق. بدايةً يعرف القاصي والداني أبعاد الشر الإيراني في الخليج العربي، وبقية دول الشرق الأوسط، الذي تزخمه أطراف ميليشياوية تتبع إيران آيديولوجياً؛ تبدأ من الحوثيين في اليمن، مروراً بالحشد الشعبي في العراق، و«حزب الله» في جنوب لبنان، نهاية بـ«حماس» في قطاع غزة.
ولعلَّ آخر الأحاديث عن خطط إيران الإرهابية، ذاك المتصل بما تقوم به في منطقة دول البلقان، وكيف تسعى إلى تحويلها لمنطقة لوجيستية تنطلق منها عملياتها الإرهابية في عموم القارة الأوروبية... وهناك تساؤلات لا تتوقف، بعد أن باتت أوروبا تغطُّ في نوم عميق تجاه المخططات الجهنمية الإيرانية، بل وتمضي في طريق معاكس تماماً، أي أنه بدلاً من عقاب إيران على إرهابها الظاهر والخفي، تبدو كمن يدعمها في سيرتها ومسيرتها العنيفة، وذلك من خلال الحديث عن آلية اقتصادية لمساعدة الإيرانيين على مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية، وأن يكون مقر تلك الآلية فرنسا، وتُدار بواسطة ألماني الجنسية، في ازدواجية أخلاقية واضحة وفاضحة.
المتابع للتحركات السياسية والدبلوماسية الإيرانية يمكنه أن يرصد تكالباً واضحاً من طهران لجهة التعاون مع دول البلقان؛ فقد أكد حسن روحاني، الرئيس الإيراني، على أهمية تنمية العلاقات مع دول البلقان، لا سيما ألبانيا، الأمر الذي اعتبره يصبُّ في مصلحة شعوب المنطقتين، حسب تصريحه، غداة استقباله السفير الألباني الجديد غير المقيم في طهران غنت غاجلي، وقد لفت روحاني، كعادة إيران في استخدام ما لديها من فوائض أموال لشراء المزيد من الولاءات، إلى وجود فرص كبيرة للتعاون في مختلف القطاعات التجارية والاقتصادية لدى البلدين.
الأمر عينه تكرَّر عند استقبال روحاني نظيره الصربي توميسلاف نيكوليج، حين زار إيران زيارة غير رسمية، إذ أشار إلى أن طهران وبلغراد لديهما إمكانيات واسعة ويمكن الاستفادة من هذه الإمكانيات لتوسيع التعاون وتحقيق مصالح الشعبين، وفي اللقاء نفسه ارتدى روحاني ثياب الحملان، حين أشار إلى انتشار العنف والإرهاب في المنطقة وحول العالم، وأنه على مقاومي الإرهاب أن يتحدوا من أجل مكافحته.
وفي مارس (آذار) الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة في أربع دول بلقانية استهلَّها من صربيا، ثم بلغاريا وكرواتيا، واختتمها بالبوسنة والهرسك، هدفت ولا شك إلى كسر العزلة المفروضة على إيران، وكسب جانب من التحالفات الشرق أوروبية لصالح إيران، إلى جانب إظهار إيران في موقع وموضع الضحية حول العالم، غير أن التساؤل الحقيق بنا طرحه: ما الهدف الحقيقي من السعي الإيراني في دول البلقان؟
قبل بضعة أيام، كانت مصادر استخباراتية أميركية مطلعة تكشف لموقع «ذي غلوب بوست» الشهير النقاب عن قيام النظام الإيراني بتأسيس قاعدة استخباراتية لعملياته الإرهابية في دول البلقان، بعد أن فشلت جهوده السابقة في إنشاء محطات عملياتية، وبيوت آمنة، لتدبير هجمات إرهابية من داخل دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن بعضها قد تم الكشف عنه، كما في يونيو (حزيران) الماضي، عندما فشلت خطة لرجالات وعملاء الحرس الثوري الإيراني، بقيادة أحدهم، أسد الله أسدي، المتنكر في زي دبلوماسي في ألمانيا، بمحاولة الاعتداء بالمتفجرات على تجمُّع للمعارضة الإيرانية في فرنسا، ما أدى لاحقاً لاعتقال عملاء إيرانيين في كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك والسويد والنرويج.

عملاء في بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو
وتشير الاستخبارات الأميركية أخيراً إلى أن الإيرانيين آخذون في نشر عملائهم سراً في دول مثل بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو وغيرها، لتكون قواعد لوجيستية للتخطيط لعملياته الإرهابية... لكن لماذا دول البلقان وأي مزايا - ولو من ناحية سلبية - تتوفر فيها لخدمة المخططات الإيرانية المستقبلية؟
يمكن القطع بداية بأن الوجود الإيراني في تلك المنطقة، وإلى درجة بعيدة، كان ضئيلاً، ولم يأخذ تركيزاً كافياً من طهران، ولهذا فإن هناك فرصاً واضحة لبلورة مسارات دبلوماسية جديدة قريبة من أوروبا، وإن على الأطراف منها.
الأمر الآخر الذي يمكن رصده بسهولة هو أن دول البلقان يمكن النظر إليها بوصفها منصات «لوجيستية» هادئة وبعيدة عن أعين وكالات الأمن والاستخبارات العالمية، عطفاً على ذلك فإن الأحوال السياسية المضطربة في داخلها، والتصارع بل والتنازع بين مكوناتها الإثنية والعرقية، يفتح مجالاً واسعاً للاختراق الآيديولوجي أو الدوغمائي معاً ودفعة واحدة، وهذه فرصة ذهبية لإيران التي خبرت طويلاً اللعب على المتناقضات من الناحيتين السابقتين.
ولعلَّه من البديهيات القول إنه حينما ينتشر ويعم الاضطراب والقلاقل السياسية، فإن الفساد الاقتصادي يستشري بصورة كبيرة، وفي ظل مثل هذا الفساد يمكن لأموال الملالي أن تفعل ما تريد من خلال شراء النفوس والذمم، وجعل أطراف أوروبا الشرقية مرتعاً للجريمة والإرهاب الإيرانيين المنظمين.
وإضافة إلى ما تقدَّم، فإن الموقع الجغرافي لمنطقة البلقان يقدم لإيران نقطة عبور إلى وسط وغرب أوروبا، ويبدو أن طهران كانت تعمل وفي هدوء على جعل تلك المنطقة مسكونة بأشباحها عبر العقود الثلاثة الماضية، وكأنها كانت ترتِّب أوراقها في غفلة من أوروبا ووكالات استخباراتها، تلك التي تراخت في تقدير الموقف في البلقان، بينما نجحت إيران، ومن أسف، في تحديد «أضعف حلقة» في حلقات الأمن الأوروبي لاختراق القارة العجوز... هل من أمثلة في السابق القريب توضح لنا حقيقة ما قامت به إيران في تلك المنطقة قبلاً؟
ربما يتذكر البعض ما جرى في عام 2012 في بورغاس ببلغاريا عندما نفَّذ أحد عناصر «حزب الله» هجوماً انتحارياً على حافلة كانت تقل سياحاً، مما أسفر عن مقتل 5 وسائق الحافلة البلغاري، وإصابة 32 آخرين، وقد كانت الحافلة تقل سياحاً إسرائيليين في مطار المدينة، وأعلنت السلطات البلغارية لاحقاً، في 18 يوليو (تموز) 2014، أن الرجل الذي فجَّر الحافلة هو محمد حسن الحسني، المنتمي إلى «حزب الله»، أي إحدى أذرع إيران للقتل والإرهاب حول العالم.
والشاهد أن الأيادي الإيرانية الخبيثة لا تكتفي باستخدام عملائها بشكل مباشر، وإنما أضحت قادرة على بلورة شبكات إرهابية موالية من أبناء المنطقة الأصليين، وهذا ما كشف عنه هجوم عام 2011 على السفارة الأميركية في البوسنة، الذي نفذه الصربي ميفليد غاسا روفيتش، بمساعدة شركائه الذين كانوا يتجمعون فيما عُرِف بـ«قرية الجهاديين» البوسنية في غوارينا موكا، ما أظهر نطاق ومدى وصول الشبكات الإيرانية على الأرض، وكذلك روابطهم بمختلف المجموعات المتشددة في البوسنة.
والمقطوع به أن أعمال إيران الإرهابية، لا سيما مطاردتها للمعارضين لنظامها القمعي في أوروبا، لم تكن لتغيب عن أعين الفارين من جحيم الملالي، ولهذا كشف مصدر في مجلس المقاومة المعارض الإيراني في باريس عن أن استخبارات النظام الإيراني تتعقب عناصر «مجاهدي خلق»، الجناح العسكري للمكسل في ألبانيا، وأن إيران قد قامت بتأسيس وحدة استخباراتية خاصة داخل سفارتها في العاصمة تيرانا للتجسس على أعضاء التنظيم المرحَّلين من العراق.
الشاهد أن هناك تقريراً استخباراتياً شهيراً قد صدر عام 2013، ولفت النظر إلى ما تقوم به أطراف إيران، لا سيما «حزب الله» في أوروبا عامة، والبلقان خاصة، وقد كانت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية بنوع خاص وراءه، غير أن الكثيرين لم يلتفتوا إليه في وقتها، فقد كان العالم برمته، لا سيما الشرق الأوسط، منشغلاً إلى درجة القلق والخوف القاتلين في مواجهة ومجابهة موجة الأصولية المتصاعدة، التي نجمت عما أُطلق عليه «الربيع العربي»، الذي لم يكن سوى شتاء أصولي جرَّ المرار والدمار على المنطقة وسكانها.
ولاحقاً بعد انتهاء الحرب وسيناريوهات التقسيم، عرفت إيران جيداً كيف تكسب ولاءات كثير من الشركاء المحليين، الأمر الذي أكسبها نفوذاً في مختلف قطاعات المجتمع، ووكالات الأمن وإنفاذ القانون المحلية، التي لا تزال مستعدة للتعامل مع إيران، ووصل الأمر إلى حد تصريح الرئيس الصربي نيكوليج، عند لقائه بحسن روحاني بالقول: «إن مقاومة إيران الصلبة في زمن العقوبات والانتصار في المفاوضات النووية يدلان على قوة الثقافة وحجم هذا البلد الكبير»، في تقريظ لا تخطئه العين للسياسات الإيرانية، خصوصاً الموجَّهة من قبلها للولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها في المنطقة، ولإسرائيل بنوع خاص... مَن هو وكيل الإرهاب الإيراني الآن في دول البلقان؟ بلا شك يبقى «حزب الله» هو الوكيل الأول والرئيس، ويقوم بالدور ذاته الذي يقوم به في أميركا اللاتينية، ويسافر نشطاء الحزب إلى تلك المنطقة بجوازات سفر من بلدان غربية، حصل عليها أصحابها عادة من خلال عمليات لجوء سياسي مغشوشة وخداع للسلطات الأوروبية، الأمر الذي يتيح لهم الآن حرية أكبر في التنقل وتفادي شكوك السلطات المحلية، فعلى سبيل المثال استخدم إرهابيو حادث بلغاريا جوازات سفر أسترالية وكندية، وأخرى لبعض دول أوروبا الغربية.
وعودة إلى السؤال المتقدم: لماذا الآن يتم الكشف ومن جديد عن تلك العلاقة؟
يبدو أنه الخوف الأوروبي الذي بات يدرك اقتراب صحوة الخلايا الإيرانية النائمة في الداخل الأوروبي، وذلك بسبب اقتراب زمن الافتراق الإيراني - الأوروبي... كيف ذلك؟ خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، التي نُوقِشَت فيها الأزمة الصاروخية الإيرانية، بات جلياً أن الاتحاد الأوروبي وعلى لسان مندوبه قد بدأ في توجيه الاتهامات لإيران بشكل مباشر، التي تعمل على تهديد أوروبا من جانبين؛ فمن الخارج تبقى الصواريخ الإيرانية التي تطال جنوب القارة الأوروبية، وهناك مرجعيات أخرى تشير إلى أنها تطال قلب أوروبا سواء في الوقت الحالي أو عما قريب.
تقرير «صوت أوروبا» يؤكد على أن «حزب الله»، ومن خلال الدعم المالي واللوجيستي الإيراني، تمكَّن من زراعة خلايا في كثير من دول البلقان، لا سيما بلغاريا والبوسنة، إلا أن ذلك لم يحظ بالاهتمام الإعلامي، وبحسب مصادر استخباراتية للإذاعة التي تمثل «صوت أوروبا»، فإن بعض عناصر «حزب الله» يعملون في فارنا والعاصمة صوفيا في بلغاريا، وبعضهم عبروا الحدود مع صربيا كسياح وعملوا على تشكيل الخلايا هناك.
يكشف أحد أعضاء «حزب الله» الموجودين في بلغاريا، للموقع الإعلامي الأوروبي، حقيقة وجود خلايا لـ«حزب الله» في الداخل الأوروبي، إذ يشير إلى أن الحزب نجح في تكوين تلك الخلايا من خلال مواطنين لبنانيين يتم إرسالهم للدراسة أو بصفتهم رجال أعمال، حيث يتلقون مساعدات مالية من «حزب الله» لاستكمال تعليمهم والمساعدة في تجارتهم، وأيضاً فإن بعضهم سبق أن تلقوا تدريباً عسكرياً قبل وصولهم إلى بلغاريا، في حين أن آخرين منهم تزوجوا بلغاريات واندمجوا في المجتمع، والأكثر إثارة أنه بعد الأحداث في سوريا، وقبلها العراق، تم تجنيد عناصر سورية وعراقية للانضمام إلى شبكتهم في البلقان من قبل «حزب الله» وإيران... هل أخفقت أجهزة الأمن الأوروبية في الاستعداد للأسوأ الإيراني الذي لم يأتِ بعدُ على أراضيهم؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، فأوروبا التي انشغلت الأعوام الماضية في مواجهة اليمين القومي المتطرف المتصاعد في ألمانيا وهولندا، وفي إيطاليا والنمسا، وفي المجر وأخيراً في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا، قد عطلت النظر في عوامل، مثل تآكل الثقة بين أصحاب المصلحة المحليين، والافتقار إلى الاهتمام الدولي، والمشكلات المتعلقة بتقاسم المعلومات الاستخبارية في الوقت المناسب، وهذه جميعاً وفَّرت للإيرانيين أجواء مريحة، جعلت الرئيس روحاني يهدد أخيراً بأنه حال التضييق على إيران فإن «تسونامي» من المخدرات والعنف يمكن أن يلفَّ العالم بأكمله، ومن قبله وأكثر من مرة أشار جنرالات «فيلق القدس» (الجناح الأكثر دموية في الحرس الثوري الإيراني) إلى وجود خطط جاهزة للانتقام حال تعرضت إيران لعمليات عسكرية من قبل الولايات المتحدة، وبالضرورة أيضاً سيكون لأوروبا نصيب من هذا الإرهاب.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».