إفلاس منصات «داعش»

إعادة بث مشاهد لعمليات قديمة فضحت هزائمه

«داعش» يعيد بثَّ صور لعناصره بالأسلحة... من أحد المواقع الموالية للتنظيم (رويترز)
«داعش» يعيد بثَّ صور لعناصره بالأسلحة... من أحد المواقع الموالية للتنظيم (رويترز)
TT

إفلاس منصات «داعش»

«داعش» يعيد بثَّ صور لعناصره بالأسلحة... من أحد المواقع الموالية للتنظيم (رويترز)
«داعش» يعيد بثَّ صور لعناصره بالأسلحة... من أحد المواقع الموالية للتنظيم (رويترز)

على ما يبدو، فإن منصات «داعش» الإعلامية التي ظلَّت الذراع الأقوى للتنظيم الإرهابي طوال سنوات، تحولت إلى وسيلة جديدة لفضح هزائمه على الأرض، بعدما أعادت بث مشاهد لعمليات التنظيم القديمة، في دليل على إفلاس التنظيم، وحالة اليأس والإحباط التي يعاني منها.
خبراء أمنيون ومختصون في الحركات الأصولية أكدوا أن إعادة بث الإصدارات القديمة لـ«داعش» تحمل مجموعة من الدلالات الأساسية التي سوف تمثل مستقبل الأذرع الإعلامية للتنظيم، منها ضعف إمكانيات التنظيم المادية في إعداد وإنتاج إصدارات جديدة، وفقدان كثير من الكوادر البشرية التي كانت تعمل على إدارة وإنتاج المحتوى الإلكتروني، وتراجع حجم ونوعية العمليات التي كان ينفذها التنظيم، وسوء الحالة المعنوية للمقاتلين، ومن ثم تزايد حالات الهروب.
وقال الدكتور خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الأصولية، إن قيام «داعش» بإعادة بثِّ مواد إعلامية قديمة، دلالة على اليأس والإحباط الذي يعاني منه قيادات التنظيم، وعدم وجود عمليات إرهابية مؤثرة تستلزم بثها، ومن الممكن أن يُسهِم تحليل الإصدارات الإعلامية في فضح هزائم التنظيم على الأرض التي يحاول إخفاءها، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن انهيار إعلام التنظيم باعتباره ذراعه الأقوى، هو مقدمة لانهيار «داعش» وزواله رويداً.
من جانبه، قال ماهر فرغلي، الباحث في شؤون الحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط» إن الخريطة الإعلامية لتنظيم «داعش» بدأت مرحلة الانهيار بسبب الهزائم المتلاحقة على الأرض، إذ كانت هذه الخريطة حتى وقت قريب تقوم على منظومة متكاملة تديرها اللجنة الإعلامية المركزية التي تقوم بالتنسيق مع لجان فرعية في كل ولاية مزعومة يسيطر عليها التنظيم، وهو أمر تغير في الشهور الأخيرة، حيث بدأ «داعش» في التخلّي عن فكرة الخلافة ومنظومة الولايات، ليتحول إلى سياسة جديدة تقوم على نظام الشبكة الإرهابية، حيث يترك لكل مجموعة فرعية في بلد أو منطقة ما، قدراً أكبر من الحرية في إدارة عملياتها للتغلب على تراجع القدرة على التواصل بين القيادات المركزية والمجموعات الفرعية نتيجة الهزائم العسكرية المتلاحقة.
ويشير فرغلي إلى أن «دراسة إصدارات (داعش) سواء المطبوعة أو الرسائل المرئية والمسموعة يجب أن تحظى بقدر أكبر من الاهتمام، فهي تشكل أحد مفاتيح مواجهة التنظيم... كما أن ربط المحتوى الإعلامي بالعمليات على أرض الواقع من شأنه أن يُسهِم في كشف المغالطات والأكاذيب التي يروِّج لها (داعش) عن نجاحات مزعومة».
يُشار إلى أن تنظيم «داعش» أعاد بث كثير من المواد الإعلامية القديمة خلال الأشهر الماضية، بينها مقاطع مرئية «فيديو» لعمليات قديمة، وتكرار نشر «هاشتاغ» يدعو إلى تجديد البيعة لزعيمه أبو بكر البغدادي، وكثير من المطويات المتعلِّقة بأحكام الخلافة والبيعة... إضافة إلى إعادة بث الإصدارات والرسائل الشهيرة التي تحث مقاتليه على مواصلة «الجهاد»، منها إصدارات «من يتوكل على الله فهو حسبه»، و«حرب الوكالة»، و«إن غداً لناظره قريب»، و«عزم الكماة»، و«صليل الصوارم»، و«رمضان... شهر الفتوحات»، و«القابضون على الجمر»، و«درع الصليب»، و«لهيب الحرب»، وجميعها إصدارات كلاسيكية قديمة معروفة.

إعادة بث المحتوى الإعلامي
في غضون ذلك، أشار مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، إلى أن «منصات تنظيم (داعش) الإرهابي الإلكترونية دأبت منذ عدة أشهر على إعادة بث المحتوى الإعلامي للتنظيم، سواء كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، دون أي إصدارات جديدة تُذكر، في دلالة واضحة على الأزمات الميدانية والبشرية التي يمر بها التنظيم، وحالة الإفلاس وفقدان القدرة على إنتاج مواد إعلامية جديدة، الأمر الذي دفعه إلى إعادة نشر المحتوى القديم».
أكد المرصد في تقرير له أصدره أخيراً أن «تحليل مضمون المواد المعاد نشرها يقدم تصوراً عن الحالة التي بات عليها التنظيم، وطبيعة المشكلات التي يعاني منها، خصوصاً أن غالبية تلك المواد المعادة تستهدف الحث على البيعة والصبر والثبات، مما يؤكد أن التنظيم يعاني غياب بيعات جديدة، وندرة في المقاتلين، بعد هروب كثير من أفراد التنظيم، مما دفعه إلى حث فلوله التي لا تزال تؤمن بفكره المنحرف على الثبات».
وربط التقرير بين قيام «داعش» بإعادة نشر مواد إعلامية قديمة، والخسائر التي يعاني منها التنظيم على الأرض نتيجة الضربات العسكرية المتلاحقة، مؤكداً أن «منصات التنظيم أعادت بث كثير من المقاطع الصوتية للبغدادي تحث على الجهاد والثبات، فتمَّت إعادة بث كلمات من نوعية «ألا فليعلم العالم»، و«بشِّر الصابرين»، وهو ما يعكس الحالة السيئة التي أصابت مقاتلي التنظيم مما دفعهم لفقدان إيمانهم بجدوى القتال تحت لواء التنظيم ودفع كثيراً منهم للهروب، فجاءت كلمات البغدادي محاولةً لاستعادة هؤلاء.
وفي مارس (آذار) الماضي، قام التنظيم ببث مقطع مرئي تحت عنوان «المجابهة الفاشلة» زعم فيه أن «العملية العسكرية الشاملة» التي يشنها الجيش المصري ضد التنظيمات الإرهابية في سيناء منذ فبراير (شباط) الماضي لم تحقق أهدافها، غير أن المقطع تضمن مشاهد لعمليات قديمة يعود تاريخها إلى ما قبل بدء العملية العسكرية المصرية، أبرزها مشاهد هجوم التنظيم على نقطة تفتيش زقدان في وسط سيناء جنوب مدينة بئر العبد، وهو الهجوم الذي يعود تاريخه إلى منتصف أكتوبر (تشرين الأول) عام 2016، إضافة إلى مشاهد من الهجوم على نقطة كمين الغاز في جنوب العريش، التي تعود إلى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، وأيضاً مشاهد الهجوم على نقطة كمين المطافي في حي المساعيد غرب العريش، وهي واقعة تعود إلى يناير (كانون الثاني) عام 2017.
ويضيف فرغلي في هذا الصدد أن الأزمة التي يمر بها إعلام «داعش» سوف تؤثر تأثيراً كبيراً خلال الفترة المقبلة على تماسك التنظيم؛ فمنصاته المختلفة لها دور كبير في تجنيد عناصر جديدة، وحث العناصر الموجودة فعلياً على التماسك والاستمرار في القتال، وهو ما يعني أن فقدان تأثير الوسائط الإعلامية المختلفة سيؤثِّر حتماً على تماسك التنظيم وقدرته على الصمود أمام قوات التحالف الدولي، وقوات الدول، من خلال فقدانه أحد أهم أسلحته، وهو الإعلام... وقد شهدت الشهور الأخيرة انشقاق وانسحاب أعداد كبيرة من أعضائه لأسباب متنوعة، أبرزها تراجع قدرة القيادات المركزية على التواصل مع المجموعات المختلفة، موضحاً أن انتقال «داعش» من مفهوم الولايات ودولة «الخلافة المزعومة» إلى شكل الشبكة الإرهابية التقليدية، يُعزز فرضية فقدان القدرة على التواصل مع المجموعات المختلفة، ويؤكد أن كثيراً من أعضائه الذين يشكل إعلام التنظيم وسيلة مهمة لإبقائهم متعلقين بفكرة الولاء، من خلال التركيز على مشاعر الغضب والإحباط وتوجيهها إلى العنف، سوف يكونون عرضة لمراجعة مواقفهم ووضعهم نتيجة التخلص من تأثير الرسالة الإعلامية التي تحثهم دائماً على الصمود، ومن الطبيعي أن يجري كثير من الأعضاء حساباتهم في ظل الخسائر التي يشهدونها وفقدان السيطرة على مناطق كاملة... ويوجد في أي تنظيم أعضاء يكونون دائماً عرضة للتراجع ومراجعة أفكارهم، وهؤلاء هم أول من ينسحبون عندما تتوافر الظروف المناسبة، نتيجة عدم اقتناعهم الكامل بما يُساق لهم من حجج وبراهين.
من جهته، قال اللواء رضا يعقوب خبير مكافحة الإرهاب الدولي لـ«الشرق الأوسط» إن «دراسة الإصدارات الإعلامية لتنظيم (داعش) تفتح آفاقاً جديدة لتطوير استراتيجية مكافحة الإرهاب، وتُسهِم في فضح أكاذيب التنظيم، ويجب على المجتمع الدولي تركيز جهوده لاستثمار التقدم ونجاح المواجهة الذي يتحقق على الأرض من خلال تكثيف حصار التنظيم عسكرياً ومادياً لقطع وسائل تمويله، والقضاء على معسكرات التدريب، لأن قيادات (داعش) تحاول جمع شتات عناصرها الهاربة نتيجة الهزائم المتلاحقة».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.