آمال قرامي: لا توجد حركة نسوية في العالم العربي!

الباحثة التونسية ترى أن السياق الاجتماعي والثقافي صنع الفروق بين المرأة والرجل

آمال قرامي
آمال قرامي
TT

آمال قرامي: لا توجد حركة نسوية في العالم العربي!

آمال قرامي
آمال قرامي

رغم كل الجهود النسوية المناضلة من أجل حقوق المرأة في العالم العربي، فإن الباحثة التونسية آمال قرامي ترى بوضوح أن هذه الجهود لم ترق إلى أن تكون «حركة نسوية بالمفهوم العلمي الدقيق الذي يمكن من التعمق في دراستها مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الحركات النسوية في الغرب التي خضعت لمراجعات تناولت الموجة الأولى فالثانية فالثالثة، ودرست آفاق ما بعد النسوية.. هناك في العالم العربي تيارات، لكنها لا تمثل كتلة منسجمة ومتآلفة».
أستاذة الإنسانيات في كلية الآداب والفنون بجامعة منوبة في تونس التي تعمقت في التراث الإسلامي ودرست الأبعاد الجندرية فيه، وهنا نص الحوار:
* تحدثت في كتابك «الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية» حول مفهوم القوة والشجاعة، وكيف التصق تاريخيا بالرجل لظروف بيئية وثقافية.. هل تتفقين مع الاتجاه الذي يرى أن الفروق النفسية والعاطفية، وطبيعة الأدوار بين المرأة والرجل، ما هي إلا نتيجة تراكم ثقافي، وليس لأصل طبيعي بيولوجي؟
- ما شد انتباه العالم في واقع المرأة العربية هو شجاعة النساء وصلابة جأشهن وجرأتهن التي تجلت في أكثر من مناسبة؛ إقدام الفتيات في مصر على فضح اختبارات العذرية، وتجرؤ الفتيات اللواتي فضحن المتحرشين في الميادين، وارتفاع أصوات الكاتبات اللواتي انتقدن الأنظمة والجماعات المتشددة في سوريا وتونس والعراق وفي غيرها من البلدان. إن كل هذه القوة، والتصميم، والعزيمة، والجرأة، تثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أننا لسنا إزاء تغيير في منظومة القيم التي تنسبها الثقافة السائدة إلى هذا الجنس أو ذاك، ثمة مناخ سمح بالخروج من حالة العمى إلى الإبصار، إلى الاعتراف بقدرات النساء، ومعنى هذا أن القوة المعنوية لا الجسدية، والشجاعة المعنوية وغيرها من الصفات متوفرة لدى الجنسين، ولكن السياق الاجتماعي هو الذي يتحكم في إدارتها.
* هل ترين أن «مفهوم الأنوثة» بطبيعته وتركيبته في الثقافة العربية الذي يقوم على خصائص تلتصق بالأنثى، وتعدّ من كمال أنوثتها كالحياء، والعفة، والحشمة، والرقة، والتأنق، والنعومة، والجاذبية.. هي خصائص طبيعية أم عبء يلقى على كاهل المرأة؟
- هذه القيم تنسبها بعض المجتمعات إلى النساء، في حين أن مجتمعات أخرى تنسبها إلى الرجال. فالأمور ذات صلة ببنية المجتمع والركائز التي تؤسس عليها الثقافة السائدة والمعايير الأخلاقية والذوقية والجمالية والدينية المتواضع عليها. ولكن في تقديري، العفة والحياء وغيرها من القيم لها حمولة رمزية توظف من أجل تحقيق الضبط الاجتماعي وإدارة العلاقات الاجتماعية، وسياسة الأجساد، وطبيعة العلاقات المفترض وجودها. والملاحظ أن المجتمع يلحّ على عفة المرأة ويتجاهل عفة الرجل، وقس على ذلك الحياء، محدثا بذلك فرقا بين سلوك كل من المرأة والرجل بغية الحفاظ على الامتيازات الذكورية، غير أن ما يجب أن نعترف به اليوم هو أن هذه الصفات، والقيم تتغير وتتحول ولم تعد حكرا على المرأة. فالرقة موجودة لدى عدد من الرجال، وصاروا لا يخجلون من التعبير عنها أمام الملأ، وكذلك الرغبة في التجمّل والتأنق والسعي إلى التبرج.. يكفي أن نتأمل في إقبال الرجال على استهلاك مواد التجميل، والجراحة التجميلية والملابس المزدوجة (Unisex)، وهذه الممارسات دليل على أن هذه المنظومة القيمية ليست ممثلة لـ«خصائص طبيعية»، بل هي صفات وقيم يتواضع عليها القوم، ويعملون على تجذيرها من خلال التربية، وآليات الضبط والمراقبة، والقوانين وغيرها. وليس يخفى أن التذرع بـ«الطبيعة» هو آلية يستخدمها أغلبهم للحد من المطالب النسائية المشروعة في العدالة الاجتماعية والمساواة وغيرها من الحقوق، فإذا طالبت المرأة (على سبيل المثال) بأن تكون قاضية احتج البعض بأن «طبيعتها» تحول دون وضعها في هذا المنصب القيادي... وهذا يعني أننا نخفي العامل الاجتماعي، ونظهره في لبوس ديني أو طبيعي.
* هناك من يرى أن كثيرا من الحركات النسوية تتحول من مرور الوقت إلى حالة «عنصرية» شبيهة بحركة تحرير «السود» مثلا، تصبح القضية هي السباق مع الجنس الآخر، والصراع معه، في محاولة لكسر الأرقام والمناطق التي حرمت منها من أجل «تحقيق الانتصار» فحسب، وليس من أجل إقرار القيم والحقوق.. ما رأيك؟
- إذا انطلقنا من تعريف الفكر النسوي على أساس أنه فكر سياسي تحرري يروم تخليص الإنسان من القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. فإن الحراك النسوي هو حراك من أجل إحلال القيم التي تسمح بإرساء مجتمعات يطيب الاستقرار فيها، وهو مندرج في إطار الحركات التحررية والحركات الاجتماعية. أما انزياح بعض التيارات عن المسار، فهو وارد في جميع التيارات الآيديولوجية أو السياسية، ولا يمكن التركيز عليه لأن الحركات النسوية في العالم العربي تجاوزت في الغالب، هذا الطرح القائم على الثنائية المتضادة؛ رجل في مقابل امرأة، ولا ترى أن صراعها مع الرجل، إنما هو صراع مع الفقر والتخلف والقهر.. وفي هذا الإطار نلاحظ في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، انضمام عدد من الرجال إلى الحركات النسوية إيمانا بهذه القيم العادلة التي تدافع عنها «النسويات».
* كيف تفسرين حالات التحرش التي بدأت تتصاعد بشكل لافت في دول الربيع العربي؟
- لا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة مفادها أن التحرش سلوك يشمل النساء والرجال، الكهول والأطفال، ولكن دائما يقع التركيز على النساء لارتباط ذلك بقيم رمزية الشرف، العار.. من جهة، ولتضخم العدد، من جهة أخرى، كما أنني أذهب إلى وجود حرج في الحديث عن اغتصاب الرجال لأنه يعري المجتمع، ويؤكد وجود ذكوريات مسحوقة يتسلط عليها أصحاب الذكورة المهيمنة، فيعاملونها معاملة النساء «الضعيفات» الضحيات المكسورات الجناح.. ولكن تحول التحرش الجماعي إلى ظاهرة هو لافت للانتباه بعد ثورات «الكرامة والحرية».. وله صيغ مختلفة؛ التحرش من أجل تأديب النساء، ومنعهن من المشاركة في الاحتجاجات، بمعنى هو وسيلة ذات بعد سياسي، وهنا لا نفرق بين التيارات الليبرالية أو اليسارية أو الإسلامية، فقد اعتمدت كلها هذه الوسيلة موظفة أصحاب السوابق من المجرمين في تصفية حسابات سياسية، ونحن نعلم أن الاغتصاب يتجاوز النساء أنه تصفية حساب ذكورية بالأساس تمر على أجساد النساء، ومعاناتهن.
أما التحرش المرتبط بالآيديولوجيا الذكورية، فهو رد فعل على بروز أدوار جديدة للنساء تشعر بعضهن بالحرج والإحباط والخوف من فقدان الامتيازات، وهنا لا بد من الإقرار بوجود أزمة ذكورية حادة تمر بها هذه الجماعات المحبطة والمهمشة التي فقدت احترام الذات، والثقة في النفس، وفي إمكانية تغيير أوضاعها، وهي تعتقد أن المخرج يكمن في التشفي من النساء لأنهن يتفوقن في الدراسة، ولهن حظ أكبر في العثور على عمل.. ولا يمكن أن نخفي أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية جعلت المكبوتين ينفجرون معبرين عن معاناتهم بطرق مختلفة؛ الإرهاب، السرقة، المخدرات، وغيرها.
* لماذا تبدو الحركة النسوية في العالم العربي تائهة مشتتة بلا هوية أو جهود.. أو وجود واضح؟
- ليست هناك حركة نسوية بالمفهوم العلمي الدقيق الذي يمكن من التعمق في دراستها، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الحركات النسوية في الغرب التي خضعت لمراجعات تناولت الموجة الأولى فالثانية فالثالثة، ودرست آفاق ما بعد النسوية. وإنما هناك في العالم العربي تيارات، وهي لا تمثل كتلة منسجمة ومتآلفة، كل ما هناك هو فكر نسوي تتبناه جماعة من النساء بطريقة فردية، أو أحيانا تشتغل بعض الجمعيات وفق أسسه. وبناء على ذلك لا يمكن الحديث عن هوية حركة أو جهود ملموسة, غاية ما في الأمر أن الفكر النسوي متحرك بين مد وجزر، ويشهد، في اعتقادي، عملية إحياء بعد الثورات العربية نتيجة التراجع والعنف المسلط على النساء، بما يدفعهن إلى مزيد البحث عن آليات للمقاومة، ومنها الآليات التي تنتجها الفلسفة النسوية المعولمة.
* هناك بعض المثقفين يرى أن الحل الأنجع مع شعوب عاطفية متدينة، يكون من داخل الثقافة الدينية نفسها، عبر دعم وتقديم نماذج وقيادات إسلامية معتدلة هي من تقود التغيير.. ما رأيك؟
- هذا طرح يرى أصحابه أنه لا بد من الرجوع إلى الوراء؛ إلى التراث وإلى النماذج القيادية التقليدية وتكون الحلول دائما في الركون إلى ما أنجزه القدامى، وكأنه ليس بالإمكان إبداع أحسن مما أنجزه السلف. وفي تقديري، في بلدان تسيطر فيها العاطفة على السياسة وعلى الثقافة وعلى الدين، لا بد من إرساء العقلنة بإيلاء الفكر الفلسفي كل ما يستحقه. نحن بحاجة إلى تثوير مناهجها التعليمية، وأدوات تفكيك النصوص، وتحليل المعطيات. نحن بحاجة إلى الإبداع، إلى إبراز مدى قدرتنا على مفارقة وضع الاتكال والاستهلاك إلى الإنتاج، فالأجيال الجديدة نشأت في ظل العولمة، وما عادت تتأثر في الغالب، بما يقدم لها من معرفة تحنطت منذ قرون، وما عادت قادرة على تقديم إجابات مقنعة عن أسئلة العصر: ما الذي يجعل «الإسلاميين» يبلغون هذا الحد من التوحش في سوريا والعراق؟ لماذا يستمتع هؤلاء بالذبح والصلب والرجم والتنكيل بالعباد والتمثيل بالجثث؟
* تتبعت كثيرا المواقف التراثية في الفكر العربي والإسلامي تجاه تشكيل المواقف تجاه المرأة.. هل تحملين الماضي أوزار الحاضر؟ كيف يمكن الخروج من أزمة راهنة بجذورها الثقافية المتراكمة دون أن نفقد هويتنا؟
- بطبيعة الحال، البنى الذهنية لا تتطور بسرعة، وإنما تظل فاعلة على امتداد قرون، لا سيما إذا كانت تحقق مصالح المجتمعات التسلطية، وما نراه اليوم من محاولات تبرير تستند إلى التراث يجعلنا ننتبه إلى أنه لا مجال للتعالي عن الواقع. هناك علاقة، في الغالب، مرضية بالماضي، نقدسه، ونرفض مراجعته، وإزاحة الحجب عنه. ونحن إزاء معضلة تفضح رؤيتنا للزمن فنحن نعيش الماضي في الحاضر، ولا نستطيع أن نفكر باتجاه المستقبل، وبالإضافة إلى ذلك لم نستطع أن نتصالح مع منظومة الزمن. فالبعض يفضل العيش في زمن افتراضي ينقطع عن حاضره، والبعض الآخر يتصور أنه يعيش وفق منظومة عاشها السلف.. ويمكن القول إننا لم نقطع وصلة الأسر بالماضي، لم نبلغ الرشد، نظل نتعلق بتمثلات عن الماضي تعلق الفطيم بأمه، ذاك الذي يهاب مواجهة المستقبل الذي يطالبه بأن يكون راشدا ومستقلا ومسؤولا. وطالما أننا لم نواجه هذه الحقائق، فإن مواقفنا تجاه قضايا متعددة تبقى مرتهنة.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.