معرض بيروت للكتاب... اندفاع باتجاه التجديد واحتفاء بالحرية

كاتب يوقع افتراضياً وآخر يصدر رواية من سجون الاحتلال

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

معرض بيروت للكتاب... اندفاع باتجاه التجديد واحتفاء بالحرية

جانب من المعرض
جانب من المعرض

كانت الحصيلة مشجعة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب. لعلها من الأخبار الجميلة القليلة التي تسمع من لبنان. فوسط التردي الاقتصادي، وجمود التشكيل الحكومي وأجواء التشاؤم، لم يكن من المنتظر أن يقبل الناس على المعرض، وأن تشهد حفلات التوقيع وبعض الأنشطة من ندوات وجلسات فكرية إقبالاً وحماسة. لكن الأحد عشر يوماً للمعرض التي تنتهي يوم الاثنين، كانت أفضل بكثير مما توقع الناشرون. ربما الأمور نسبية. كما نفهم من مسؤول دار «جروس برس» وهو يتحدث عن تأثير كبير للأوضاع الاقتصادية المتراجعة على حركة معارض الكتب العربية، زادها سوءاً تدخل الرقابة، ورفع سقف الممنوعات، ما جعل معرض الكتاب في بيروت فسحة تضيق بها الكثير من المعارض الأخرى التي رافق كتبه إليها.
كان الناشرون اللبنانيون ينتظرون معارض بعينها لرفع أرباحهم، لكنهم هذه المرة يرون أن الوضع ليس كما سبق. ثمة احتفاء كبير في المعرض اللبناني بالحرية التي يتمتع بها الناشرون لعرض كل ما في جعبتهم. «لا ممنوعات هنا، وبالتالي نعرض من (جمهورية كأن) إلى (اسمه الغرام)» تقول رنا إدريس مسؤولة «دار الآداب»، بينما كانت صاحبة الرواية الأخيرة علوية صبح توقّع كتبها الثلاث في جناح الدار، ويجوب الشراة المكان بحثاً عن زوادة جديدة. لا تتردد إدريس في القول بأن «هذا أهم المعارض العربية. نحن من الدور التي تعاني كثيراً من الرقابة على محتوى الكتب، لأننا ننشر روايات بشكل خاص، لهذا نقدّر جيداً فسحة بيروت، ونسعد بها، وهذا ليس بالأمر القليل بالنسبة لنا. كما أننا سعداء بإقبال الجيل الجديد على القراءة بالعربية الذي يتزايد بشكل واضح. وهناك جرأة لدى القراء لتجريب نصوص كتاب لا يعرفونهم، أو اكتشاف روائيين لم يسمعوا بهم من قبل، ونحن نجاري هذا الاهتمام».
لا يزال الأدب، والروايات بشكل خاص، لها الجاذبية الأولى عند القراء. هناك أيضاً إقبال خاص على الكتب المترجمة وثمة رغبة في قراءة إيزابيل الليندي وأيليف شافاك وإيلينا فيرانتي. كما أن الكتب الكلاسيكية من سارتر وكامو و«زوربا» والروايات القديمة المترجمة هي أيضاً لا تزال تُطلب. والإقبال على المترجم ظاهرة تعلو وتيرتها ولا تنخفض، رغم أن الدور تشكو من صعوبة إيجاد المترجمين الموهوبين، وأن كتباً تُعاد ترجمتها أكثر من مرة بسبب ضعف لغوي عند بعض المترجمين. وهذه مشكلة أخرى.
وإن كانت إدريس تعزو الحيوية التي اتسم بها المعرض هذه السنة إلى رغبة الناس في التنفيس عن أزماتهم بالمتعة الأقل كلفة بعد التلفزيون، فإن الروائية ومسؤولة «دار النهضة» لينة كريدية ترى في حفلات التوقيع اليومية التي تقيمها الدور ونشاط الناشرين وترويجهم لمؤلفاتهم عبر وسائل التواصل وعلى مواقعهم، سبباً رئيسياً في إحياء سوق الكتاب. «فالجلوس على الطريقة القديمة وانتظار القارئ الذي يبحث عن الكتاب بمفرده لم يعد ينفع».
ومن دون شك، فإن الناشرين باتوا مدركين أكثر من ذي قبل أهمية استخدام الوسائل الحديثة لإيصال رسالتهم إلى القراء وإعلامهم بالنتاجات التي يعرضونها، كما أن محاولات النشر لأسماء غير معروفة أو أخرى شابة بعضها ينشر للمرة الأولى، هو مما تحاوله الدور، على ما يحمل من مجازفة. هذا ما تفعله «أنطوان - هاشيت»، وهذه السنة إلى جانب أحلام مستغانمي التي باعت ما يقارب 500 نسخة من كتابها الجديد «شهياً كفراق» خلال التوقيع فقط، سجلت جومانة حداد رقماً يقاربه من مبيع كتابها «بنت الخياطة». لكن الدار كانت قد أصدرت «أعياد الشتاء» أيضاً، وهي الرواية الأولى للطبيبة السورية نغم حيدر، وخلال المعرض صدرت رواية جريئة لشاب آخر هو صهيب أيوب حملت اسم «رجل من ساتان». وكون أيوب مقيم في فرنسا ولم يتمكن من القدوم إلى لبنان، فقد أقام توقيعاً افتراضياً عبر «سكايب»، حيث كان يملي شفهياً الإهداء الذي يريده لكل قارئ كي يتمكن هذا الأخير من وضعه على الكتاب. وليس هذا التوقيع الوحيد المبتكر في المعرض. فلقد قام الكاتب طلال شتوي بمبادرة لافتة حين قرر أن يوقع نيابة عن الأسير الفلسطيني باسم خندقجي القابع في السجون الإسرائيلية منذ 14 عاماً. فقد اشترى شتوي من «دار الآداب» 100 نسخة من رواية خندقجي «خسوف بدر الدين»، وقعها وأهداها مجاناً لكل من اشترى أحد كتبه في يوم توقيعه لها في «دار الفارابي». وهي مبادرة تشجيعية فريدة اجتمع لها مثقفون وكتاب تحية للأسير المحكوم بثلاثة مؤبدات، ومسجون منذ كان عمره 21 عاماً، وها هو يبلغ الواحدة والثلاثين وفي جعبته ديوانان وهذه الرواية الأولى، التي كتبها في سجون الاحتلال.
يتقدم المعرض لا شك، إن لجهة العناوين التي بات العشرات منها يرصد الظواهر الجديدة، من تأثير المعلوماتية على الحياة اليومية، أو الإعلام وتربية الأطفال، أو العملية التعليمية. ربما هذه الكتب التي ترصد المتغيرات الحديثة بسبب دخول التكنولوجيا حياة الناس، هي من بين الأكثر نمواً، حيث يزداد عددها، وتتنوع حقولها سنة بعد أخرى، إضافة إلى نمو الأدوات التعليمية للأطفال التي تعتمد التكنولوجيا الحديثة وسيلة، مثل القلم الذكي واللوح الذكي أيضاً. وجناح المستقبل الرقمي يعرض نماذج لهذه المبتكرات التي اعتمدت العربية لغة، وهو ما كان مفقوداً، ويؤشر إلى جهد يبذل ويبعث على الفرح.
ثمة إحساس بأن الناشرين صاروا أكثر عصرية، إن في طرح العناوين، أو الحرص على تقديم أغلفة أنيقة، ولو كانت مكلفة كما «أنطوان - هاشيت» التي لا تبخل بأثمان عالية لدفع حق شراء لوحة جميلة تزين بها أحد أغلفتها. وعدد الكتاب أيضاً الذين هم أكثر اقتراباً من روح العصر، يبدو إلى تزايد، في محاولتهم لاختراق مواضيع جديدة. وربما النشاط الأكبر ملحوظ في أدب الأطفال، في ابتكارات أشكال الكتب، والجهد المبذول في الرسوم والنصوص.
أمر ما يحدث في عالم الكتاب في بيروت. شيء من الجرأة، واندفاع باتجاه التجديد. لعل «دار قنبز» واحدة من أكثر الدور اجتهاداً وثورية لابتكار عالم خيالي مجنح للأطفال، وقد أفاد كتاب إملي نصر الله «المكان» الذي كتبته قبيل وفاتها، تحكي فيه سيرتها، من تجربة «قنبز» الإخراجية، ليصدر عن هذه الدار في حلة ليست أنيقة فقط بل لافتة في فنيتها أيضاً.
التفات أكبر إلى جمالية الكتب، طريقة عرضها، الاستعانة بفنانين أحياناً لتصميم ديكورات للأجنحة، لتبدو أكثر جذباً للقراء، كلها أمور لم تكن في حسبان الناشرين، وهي لا تزال بعيدة عن ذهنية دور تواصل صف الكتب ورصها، دون أدنى عناية بإبرازها أو التركيز على عناوين بعينها. لكن أصواتاً بدأت تنتقد الإهمال في العرض، وعدم الانتباه إلى ضرورة ممارسة الكتاب فن الغواية على القارئ. بعض الدور استعانت بعازفين موسيقيين لشد الانتباه. مخطئ من يظن أن الأزمات الاقتصادية لا تقدح الذهن، وتفتق الأفكار. لقد ولّى عهد وضع الكتب على الأرفف وانتظار القراء. فكل دار تحاول أن تمارس شطارتها في التسويق على طريقتها. لكن الانتقادات لا تزال كثيرة للنادي الثقافي العربي الذي ينظم المعرض مع اتحاد الناشرين اللبنانيين، ولا تزال المطالبة كبيرة، بجعل المعرض يليق باسمه وبصفة «دولي» التي تلازمه، فلا وجود فاعل لدور أجنبية، باستثناء الحضور الصيني الذي كان وازناً هذه المرة. لكن الزميلة رنا نجار تسأل لماذا لم يسوق من قبل النادي لهذا الوجود الصيني المستجد بالقدر الكافي؟ ولماذا لا يستدعى كتاب كبار للمشاركة في الأنشطة التي يدعى إليها كتاب نقابلهم باستمرار في بيروت، حيث لم نر من كتاب جاءوا من خارج لبنان سوى أدونيس وإبراهيم نصر الله؟ ولماذا على القارئ العادي الذي يدخل ليشتري كتاباً بعشرة آلاف ليرة أن يضطر لدفع ما يقارب ثمنه، ليوقف سيارته، في مرآب يعجز عن استيعاب حاجة الزوار؟
نعم الانتقادات لا تزال كثيرة ومحقة، لكن ثمة ما يتزحزح؟ هناك من لا يريد أن يبقى في مكانه لأنه يعرف أن الزمن يسبقه، وأن عقارب الساعة صارت أسرع كثيراً من ذي قبل. لذلك فمن الظواهر التي تلاحظها، في محاولة لتخطي المشكلات بدل انتظار الحكومات، أن ناشرين دولتين عربيتين أو أكثر صارا يتشاركان في نشر كتاب واحد، مثل «منشورات ضفاف» في بيروت التي تتعاون مع «دار الاختلاف» في الجزائر لنشر الكتاب في البلدين بشكل متزامن.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!