استبق رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون عودة «السترات الصفراء» إلى الشوارع مجدداً اليوم (السبت)، بالانضمام إلى الأصوات الداعية إلى وقف الحركة الاحتجاجية. وقال أمس، إن فرنسا «بحاجة لعودة النظام واستعادة عملها المعتاد»، باعتبار أنه استجاب لمطالب المحتجين من خلال التدابير والإجراءات التي أعلن عنها الاثنين الماضي، وقبلها إلغاء زيادات الرسوم على المحروقات لعام 2019، التي كانت أساس انطلاق الحركة الاحتجاجية.
وجاءت دعوة الرئيس الفرنسي، الذي زار مدينة ستراسبورغ بعد ظهر أمس، عقب القضاء على مرتكب العملية الإرهابية ليل الثلاثاء الماضي، في إطار حملة منسقة لدفع المحتجين لوضع حد لحركتهم. وشارك فيها رئيس المجلس النيابي ريشار فران، ووزيرة العدل نيكول بيلوبيه، بالإضافة إلى وزير الداخلية كريستوف كاستانير، ووزيرة الدفاع فلورانس بارلي، والناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو وأعضاء حكوميون آخرون، ومسؤولون أمنيون ونواب من الأكثرية. علاوة على نقابيين ورجال سياسة من اليمين المعتدل والوسط.
بالمقابل، فإن رئيس حركة «فرنسا المتمردة» جان لوك ميلونشون، ورئيسة «التجمع الوطني» مارين لوبان، ورئيس حزب «فرنسا انهضي» النائب نيكولا دوبان دينيان، التزموا مواقف مغايرة. ولتبسيط الصورة، يمكن القول إن الأطراف المتشددة، يميناً ويساراً، تدفع باتجاه الاستمرار في الاحتجاجات، بينما الأحزاب «الحكومية»، سواء في الحكم أو في المعارضة، تسعى إلى التهدئة وإطفاء الاحتجاجات.
وتشدد الحكومة ومن يدعمها في الدعوة لوقف التحركات، وتلافي العودة إلى مشاهد العنف، والإحراق والسلب والاشتباكات، على 3 أسباب رئيسية، تراها «كافية» للاستجابة لها. أولها أن الرئيس ماكرون «استجاب» لمطالب المحتجين على دفعتين، إذ ألغى من جهة زيادات الرسوم على المحروقات للعام المقبل، كما قرر زيادة 100 يورو على الحد الأدنى للأجور، إضافة إلى تجميد أسعار الغاز والكهرباء، وحجب زيادات الضرائب على المعاشات التقاعدية الضعيفة «دون ألفي يورو في الشهر». وهذه التدابير ستكلف خزينة الدولة ما بين 12 و14 مليار يورو، وستجعل باريس تتخطى سقف 3 في المائة المسموح به أوروبياً لعجز الميزانية، قياساً على الناتج المحلي الخام. والحجة الثانية هي التذرع بالتهديد الإرهابي كما ظهر في ستراسبورغ، والحاجة لأن تكرس القوى الأمنية اهتمامها بمواجهته. أما الحجة الثالثة فهي «تعب» قوات الشرطة والدرك من التعبئة المستمرة منذ نحو الشهر. وأخيراً، الحاجة لوقف الخسائر الاقتصادية التي تترتب عن إقفال الطرقات والمخازن، ناهيك بالخسائر المادية الناتجة عن التحطيم والتهشيم والحرق، وكل الأعمال العنفية. والدليل الأبرز على ذلك ما عرفته باريس، وخصوصاً أحياءها التجارية الراقية طيلة الأسابيع الماضية، وتدهور صورتها في العالم، وعزوف نسبة من الزوار والسياح عن القدوم إليها بسبب ما تنقله القنوات التلفزيونية.
وهكذا، تكاثرت التصريحات خلال الأيام الأخيرة، حيث اعتبر الناطق باسم الحكومة، أن الدولة «سمعت مطالب» المحتجين واستجابت لها، وحث هؤلاء على «التعقل والتحلي بالمسؤولية، والامتناع عن التظاهر نهاية هذا الأسبوع» الذي يسبق الأعياد العائلية. كما ذهبت وزيرة العدل في الاتجاه نفسه، إذ رأت أن هذه الحركة «يجب أن تتوقف»، وهو رأي رئيس البرلمان ورئيس نقابة الكونفدرالية الفرنسية للشغل التي تعتبر قريبة من الحزب الاشتراكي.
وليس سراً أن الحكومة تراهن على الانقسام داخل «السترات الصفراء»، بين معتدلين يريدون «هدنة» تمكن من الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة، ومتشددين يرون أن التدابير الحكومية لا تعدو كونها «فتاتاً»، وبالتالي يتعين الاستمرار في النزول إلى الشارع.
ودعا بنجامين كوشي، الناطق باسم «السترات الصفراء الأحرار»، إلى «تعبئة بناءة» بعيداً عن المظاهرات والاحتجاجات، واستبدال لقاء المسؤولين بها، لأن «زمن الحوار حان أوانه بعد شهر من الانسداد، ولأن الاقتصاد انهار، ويتعين علينا بالتالي أن نتحمل مسؤولياتنا». بالمقابل، فإن ناطقين باسم «فرنسا الغاضبة» من صفوف «السترات الصفراء» رفض الحجج الحكومية، ودعا إلى استمرار التعبئة الشعبية، خصوصاً بعد خطاب ماكرون الاثنين الماضي. وفي هذا السياق، طرحت بريسيليا لودوسكي، التي كانت أول من أطلق الدعوة إلى الاحتجاج، سلسلة مطالب جديدة، منها «الخفض الجدي» للضرائب والرسوم على السلع الأساسية، كالمواد الغذائية والمحروقات والثياب، إضافة إلى السكن والرواتب والتقديمات المرتفعة التي توفرها الدولة لكبار الموظفين.
وإذ غابت من المطالب السياسية الدعوة إلى حل البرلمان وتغيير الحكومة واستقالة ماكرون، فإن لودوسكي طالبت بإعادة «السيادة للشعب» عن طريق تبني الاستفتاء لتحديد السياسات الحكومية وتعديل الدستور. واتهم التيار المتشدد، الحكومة، بـ«تسخير» العملية الإرهابية في ستراسبورغ لـ«ابتزاز» السترات الصفراء، ومنعهم من الاستمرار في حركتهم.
هكذا، فإن فرنسا، وباريس خصوصاً، تتأهب ليوم احتجاجات إضافي، لا أحد يعرف مسبقاً حجمه أو طبيعته، وما إذا سيكون نسخة طبق الأصل عما عرفته العاصمة أو مدن بوردو ومرسيليا وسان أتيان وغيرها السبت الماضي، أم لا. ودرءاً لأي مفاجأة، فقد أعلن ميشال دلبويش، مدير الشرطة في باريس، خلال مقابلة إذاعية أمس، إعادة العمل بالمنظومة الأمنية التي نشرت في العاصمة السبت الماضي، بحيث يستدعى لهذه الغاية 8 آلاف رجل شرطة ودرك، ووحدات مكافحة الشغب وجلب 14 مدرعة تابعة للدرك قادرة على إزالة الحواجز والمتاريس، بما فيها المشتعلة وتحريم المثلث، الذي يضم قصر الرئاسة ووزارة الداخلية والقصر الحكومي، والمناطق الواصلة بينها، وأبرزها ساحة الكونكورد، وجانب من الشانزليزيه، إضافة إلى قوس النصر أعلاها، على المتظاهرين والمحتجين.
كما ستعمد القوى الأمنية إلى إقامة حواجز لتوقيف من تعتبرهم «مشاغبين»، ومنعهم من المشاركة في المظاهرات.
وتم السبت الماضي إيقاف نحو ألفي شخص منهم 1082 في باريس وحدها. لكن ذلك لم يحل دون اندلاع أعمال عنف، وإحراق واشتباكات، تركت آثارها على العاصمة الفرنسية، وعلى غيرها من المدن. ومجدداً، عمدت المتاجر والمقاهي والمطاعم إلى التحصن خلف ألواح خشبية سميكة.
فهل ستمر الأمور على خير؟ لا أحد يملك جواباً مسبقاً. لكن الأكيد أن الحكومة لم تعد قادرة على التراجع لأسباب سياسية واقتصادية ومالية. وبالمقابل، فإن المحتجين الذين لا يخضعون لقيادة أو لجنة تنسيقية ما زالوا مصرين على دفعها للتنازل، بعد أن أجبروها مرتين على ذلك، ولا يرون سبباً في ألا تتراجع مرة إضافية.
السلطات الفرنسية تواجه مجدداً «السترات الصفراء» بعد فشل تنازلاتها المتكررة
انقسام الحركة الاحتجاجية بين الراغبين في المهادنة والعازمين على مزيد من التصعيد
السلطات الفرنسية تواجه مجدداً «السترات الصفراء» بعد فشل تنازلاتها المتكررة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة